بيان ختامي: الاجتماع الوزاري المقبل لمسلسل الدول الإفريقية الأطلسية سينعقد في شتنبر المقبل بنيويورك    تصريحات نائبة أخنوش تفجر غضب الأغلبية والمعارضة بجماعة أكادير ومطالب لها بالإعتذار    إضراب المتصرفين التربويين الأربعاء يوحّد المطالب ويرفع سقفها بدعم من النقابات التعليمية الخمس    أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الدرهم اليوم الجمعة    الذهب يصعد وسط عمليات شراء وترقب محادثات التجارة بين أمريكا والصين    واشنطن: نحن على بعد خطوات من حل لإيصال المساعدات إلى غزة    "هآرتس": واشنطن تضغط على إسرائيل لإبرام اتفاق غزة قبل زيارة ترامب    كيم جونغ يشرف على تدريبات نووية    المنصوري: خمس أسر ضمن "عمارة فاس" رفضت قرار الإخلاء في 2018    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    كيوسك القناة | الحكومة تكشف عدد دفعات الدعم الاستثنائي لمهنيي النقل الطرقي    في ظل استمرار حرب الإبادة في غزة وتصاعب المطالب بوقف التطبيع.. إسرائيل تصادق على اتفاقية النقل البحري مع المغرب    موجة فرح تعم الولايات المتحدة عقب انتخاب أول بابا من أصل أمريكي    الأمم المتحدة-أهداف التنمية المستدامة.. هلال يشارك بنيويورك في رئاسة منتدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي للعلوم والتكنولوجيا والابتكار    8 قتلى و7 جرحى في حادث انهيار منزل من 4 طوابق بفاس    "مؤثِّرات بلا حدود".. من نشر الخصومات الأسرية إلى الترويج للوهم تحت غطاء الشهرة!    سلطات الملحقة الإدارية الثالثة بالجديدة تواصل التضييق على مستغلي الملك العمومي بفضاء الشاطئ    ساكنة دوار المخاطر بجماعة شتوكة تستنكر إقصاءها من مشروع تعبيد الطرق وتطالب بتدخل عامل الإقليم    بالياريا تُطلق رسميًا خط طنجة – طريفة وتكشف موعد تشغيل باخرتين كهربائيتين    عملة "البيتكوين" المشفرة تنتعش وسط العواصف الاقتصادية العالمية    فاس.. انهيار مبنى من ستة طوابق يخلف قتلى وجرحى واستنفاراً واسعاً للسلطات    الزلزولي يهدي بيتيس أول نهائي قاري    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    مواجهة حاسمة بين المغرب التطواني وشباب السوالم لتحديد النازل الثاني للقسم الوطني الثاني    اتحاد طنجة يضمن بقاءه في القسم الأول من البطولة الاحترافية    صدام إنجليزي في نهائي الدوري الأوروبي    المغرب يقود إفريقيا الأطلسية نحو نيويورك    فتح تحقيق في ممارسات منافية للمنافسة في سوق توريد السردين الصناعي    أسبوع القفطان بمراكش يكرم الحرفيين ويستعرض تنوع الصحراء المغربية    أكاديمية المملكة تتأمل آلة القانون بين الجذور المشرقية والامتدادات المغربية    سعر الذهب يتأثر باتفاق تجاري جديد    لقاح ثوري للأنفلونزا من علماء الصين: حماية شاملة بدون إبر    الشعر الحساني النسائي حاضر في فعاليات الدورة ال18 لموسم طانطان 2025    وزير الأوقاف المغربي يقيم مأدبة غداء تكريما لوزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالمملكة    المستشارون يدعون إلى تعديل خريطة الاختصاصات بين المركز والجهات    وزير التشغيل والكفاءات يكشف إجراءات تفعيل العمل عن بعد بالمغرب    كرة القدم داخل القاعة لأقل من 19 سنة.. المنتخب المغربي يتعادل مع نظيره الإسباني (6-6)    "الأحمر" ينهي تداولات بورصة البيضاء        أتاي مهاجر".. سفير الشاي المغربي يواصل تألقه في "معرض ميلانو" ويعتلي عرش الضيافة الأصيلة    الأميرة للا حسناء تقيم بباكو حفل شاي على شرف شخصيات نسائية أذربيجانية من عالم الثقافة والفنون    «أول مرة»… مصطفى عليوة يطلق عرضه الكوميدي الأول ويعد الجمهور بليلة استثنائية من الضحك    البرلمان يناقش رئيس الحكومة حول إصلاح وتطوير المنظومة التعليمية    أشرف حكيمي يدوّن اسمه في التاريخ ويصبح المدافع الأكثر تأثيرًا هجوميًا بدوري الأبطال    أبريل 2025 ثاني أكثر الشهور حرارة عالميا    وداديون يحتفون بحلول الذكرى ال88 لتأسيس النادي    منصات المخزون والاحتياطات الأولية.. بنيات جهوية موجهة للنشر السريع للإغاثة في حال وقوع كوارث    الصين توقف استيراد الدواجن من المغرب بعد رصد تفشي مرض نيوكاسل    السيد ماهر مقابلة نموذج رياضي مشرف للناشطين في المجال الإنساني    الغربة والذياب الجائعة: بين المتوسط والشراسة    فنانون مغاربة يباركون للأمير مولاي الحسن عيد ميلاده ال22    لهذا السبب .. الأقراص الفوّارة غير مناسبة لمرضى ارتفاع ضغط الدم    دراسة علمية تكشف قدرة التين المغربي على الوقاية من السرطان وأمراض القلب    تشتت الانتباه لدى الأطفال…يستوجب وعيا وتشخيصا مبكرا    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللاسلطوية والمجتمع الإنساني
نشر في هسبريس يوم 27 - 09 - 2018

اللاسلطوية أو الأناركية، كنِتاج فكري وإجتماعي ليست بنظرية سياسية واجتماعية قائمة على نقد السلطة والدولة فقط؛ كما يظن البعض، بل فلسفة كونية عميقة تؤمن بأن الإنسان كيان حر في حد ذاته، له وحده الحق في تحديد خياراته وتقرير مصيره دون الخضوع لأي سلطة أو هيمنة تفرض عليه خيارات قهرية أو تتدخل في توجيه نظام حياته، وبالتالي فالأناركية تطمح إلى مجتمع انساني خالٍ من السلطة أو هيمنة فرد أو جماعة. بالنسبة للأناركيين السلطة نفسها هي أصل المشكلة، لأنها آلية استبدادية وقهرية تلغي إرادة وحرية الإنسان، واللاسلطويين في هذا الإطار يرفضون كل الأشكال التنظيمية للمجتمع القائمة على السلطة كالدولة، المؤسسات الحكومية، الأحزاب، الهياكل الهرمية، وتنظر إليها كهياكل تضع السلطة في يد أقلية تفرض خياراتها ونظامها على غالبية الشعب.
كلمة الأناركية هي عبارة اغريقية قديمة، مصدرها كلمتين، آن an و أرشي arkhê أو أنارشي وتعنيان غياب السلطة أو الحكم 1 استعملها لأول مرة عالم الاجتماع والمفكر السياسي الفرنسي ''جوزيف برودون'' لوصف فلسفته السياسية والاجتماعية القائمة على مفهوم العدالة التي لا تتحقق إلا باللاسلطوية. بحيث أن العدالة، دائما حسب أفكار برودون، هي تنظيم المجتمع لشؤونه بشكل تعاوني ذاتي دون انفراد شخص أو جماعة بالسيطرة على مقدرات الناس وحكمهم بالقوة والسلطة. ولطالما أكد ''برودون''، الذي يُعتبر الفيلسوف المؤسس للأناركية كحركة سياسية واجتماعية، أن البشرية قادرة على العيش في تنظيمات وكيانات غير هرمية بلا حاكم وبلا سلطة. 2
تشكَّلت معالم الأناركية، كفكرة سياسية وحركة اجتماعية في الوقت الذي نشآت فيه الكيانات العمالية والنظريات الاشتراكية في بدايات القرن 19، تماما بالموازاة مع ظهور الفكر الماركسي، وارتفع صوت الأناركيين بشدة عقب أحداث التمرد الاجتماعي خلال انتفاضة عمال باريس سنة 1871. ومن بعد ذلك لعبت أفكار أناركيين مثل ''جوزيف برودون''، ''بيتر كروبوتكين''، ''ميخائيل باكونين''، و''أريكو مالاتيستا'' دورا أساسيا في اطلاق الحركات الثورية في روسيا فيما بين عام 1905 و 1917، لكن بمجرد وصول البلاشفة للسلطة، تعرض الأناركيون للقمع ولطمس دورهم في تلك الثورة. ساهم الأناركيون كذلك باعطاء نموذج للتنظيم التشاركي لوسائل الإنتاج وتوزيع الملكية من خلال الجمعيات واللجان الشعبية بشكل كبير خلال ثورة الحركة الماخنوية بأوكرانيا بين سنتي 1917 و1919، كما ساهموا في إطلاق الثورة الاسبانية بين عام 1936 و1939 التي خلالها سادت في اسبانيا ممارسات لاسلطوية تعاونية كثيرة، وكانت مناطق كثيرة في اسبانيا تدير حياتها اليومية بشكل ذاتي وتعاوني في غياب أي سلطة أو آلية قمعية وأنشأت بنجاح المنظمات الأناركية النقابية، خصوصا في مناطق إقليم كاتالونيا، كبدائل غير هرمية اجتماعياً واقتصادياً 3
في آواسط القرن العشرين، في الولايات المتحدة، وكذلك في المكسيك وأميركا اللاتينية، كان هناك تأثير كبير للأناركية السينديكالية داخل الحركة النقابية، على سبيل المثال حركة ''العمال الصناعيين في العالم''. وشارك أناركييون مثل ''غولدمان إيما'' و''الكسندر بيركمان'' في مجموعة متنوعة من الحركات تهدف إلى تغيير العقليات التنظيمية للمجتمع وتبديل نمط الحياة شملت الحركة النسوية، الحركات المناهضة للحرب، الحركات المناهضة لليبرالية وحركات ''الخطاب الحر''، رغم أنه في كثير من الحالات كان يتم تعتيم هذه الحركات، إن لم يكن قمعها.
النسق الفكري والفلسفي للأناركية يوضح أن مجموعة من المفكرين والفلاسفة أغنوا الفلسفة الأناركية، من ''جوانغ زي'' و''زينون'' مؤسس الفلسفة الرواقية قبل الميلاد، الذين تكلموا عن معاني الحرية الاجتماعية والسياسية ونقد الهرمية والسلطة. إلى ''نعوم تشومسكي'' حاليا الذي قدم أفكارا جديدة للفكر اللاسلطوي مثل مفهوم ''السلطة الشرعية واللاشرعية''، ''النقابة الأناركية''، ''المجتمع التشاركي'' بالاضافة الى نقد هياكل السلطة، والطبقية، والتراتبية، والسيطرة الفاقدة لأي مبرر شرعي لوجودها، والتي هي في نظره، فقط تَحُد من نطاق الحرية الإنسانية. 4 لكن هناك مفكرين أخرين تركوا بصمات فارقة في الفكر اللاسلطوي مثل''مخائيل باكونين''، ''ليو تولستوي''، ''وليام غودوين''، ''جوزيف برودون''، ''بيتر كروبوتكين'' وحتى ''غاندي''. إلا أن الأناركية كفلسفة ظلّت تتوزع على مجموعة من الأفكار والتيارات أحيانا لدرجة التنقاض ولكن في الأخيركل الأناركيون يتفقون على موقفين أساسين يمثلان جوهر الفكر اللاسلطوي، وهما: معارضة وجود الدولة والهياكل التراتبية، ومعارضة وجود الرأسمالية. 5
الأناركية تنظر إلى الدولة بالأساس ككيان لا أخلاقي، لا شرعي، قائم على العنف والسلطة ويفرض على الإنسان شكل من أشكال العبودية المتطورة لا يحترم الحرية الإنسانية الحقيقية، كما أنها، رغم ظهور مفهوم الديمقراطية والتمثيليات البرلمانية وحكم الشعب لنفسه، تبقى الدولة، بالنسبة للأناركيين، دائما كيانا يخدم الأقلية واللوبيات والجماعة الحاكمة وتستبد بالأغلبية وتمارس عليها العنف المادي والرمزي.
الكثير يعتقدون أن الأناركية هي نسخة معدلة من الماركسية، كون غالبية روادها يتبنون الإشتراكية والنهج الثوري التحرري، لكن في الواقع هناك اختلافات جوهرية بين الفلسفتين في مجموعة من النقاط مثل: الدولة، وسلطة البروليتاريا، ومنهج الحتمية التاريخية. الماركسية مثلا تؤكد على ضرورة تأسيس الدولة الثورية وديكتاتورية البروليتاريا لتأمين المرحلة الانتقالية الاشتراكية للوصول إلى إقامة المجتمع الشيوعي، وهذا ما يتعارض تماما مع الأناركية التي ترى فيها مجرد اعادة انتاج الاستبداد والقمع وأن مادامت هناك دولة فهذا يعني أن السلطة ستكون محتكرة من طرف أقلية ستستبد بالأغلبية وتتحول إلى نظام توتاليتاري استبدادي.
الأناركية هي حركة ''اشتراكية'' بالأساس، تعارض النظام الرأسمالي الذي تحتكر فيه الأقلية الموارد والثروات وتحول غالبية الشعب إلى أجراء كادحين. بالنسبة للاسلطويين النظام الاشتراكي هو الوحيد القادر على تحقيق المساواة بين الناس ويؤسس لملكية تعاونية لكل وسائل الإنتاج. لكن، ومن الأشياء التي تثير الاستغراب، هناك تيار آخر في الأناركية يُسمى بالأناركية الرأسمالية الذي بدوره ينتقد وجود الدولة والتنظيم الهرمي للمجتمع ويُطالب بالحرية المطلقة لكن على الأساس الليبرالي للرأسمالية، ومن أهم منظري هذا التيار في الولايات المتحدة نجد ''موريي روثبارد''،''لودفيش فون ميزز''، ''فريدريك حايك''، ''هانس هيرمان هوب''. وبالمقابل يوجد تيارأناركي آخر يُسمى بالأناركية الشيوعية الذي يؤكد على المساواة وإلغاء الهرمية الاجتماعية والفوارق الطبقية التي تنشأ عن التوزيع غير العادل للثروة وعلى إلغاء الرأسمالية والنقود والملكية الخاصة. ومن أهم منظري هذا التيار الروسي ''بيتر كروبوتكين'' والإيطالي ''ايريكو مالاتيستا'' والأوكراني ''نستور ماخنو'' الذي قاد الحركة الماخنوية في أوكرانية كما قلنا، وتوجد حتى الأناركية الليبرتارية والأناركية الفردية والأناركية الدينية والأناركية الفوضوية وتيارات أخرى... 6
بحكم كونها فلسفة قائمة على نقد الدولة والكيانات الحاكمة بالسلطة تعرضت الحركة الأناركية للتشويه والقمع من طرف مجموعة من التيارات التي وصفتها بالفوضوية والعنفية و''البلاك بلوك'' وحتى العدمية. إلا أن الصراع الكبير كان في البداية مع الماركسية، منذ أيام الصراع الذي دار بين ''برودون'' و باكونين من جهة و ماركس من جهة أخرى، ثم فيما بعد أصبحت الدول الليبرالية الرأسمالية أكبر عدو للفكر الأناركي ولعل حادثة اعدام الأناركيين ''ساكو'' و''فانزيتي'' في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1927 أحد الأمثلة على ذلك... ولكن في نفس الوقت ظلت الحركات الأناركية تعاني من حالة فشل تاريخي، لأنها لم تستطع تقديم بديل حقيقي وواضح لكيان الدولة وحتى آليات بناء المجتمع غير الهرمي لازالت غير واضحة وتختلف التصورات من مدرسة أناركية لآخرى .. لتبقى الأناركية في الأخير نسق فكري تغلبُ عليها الطوباوية على الواقعية، بل حتى الحركات الأناركية المتواجدة حاليا في أنحاء العالم أصبحت بعيدة عن السجال والنقاش الفكري والفلسفي الذي بدأ به الفكر اللاسلطوي وتحولت إلى مجرد موضة أو ستايل شبابي احتجاجي رافض للأوضاع القائمة.
هوامش:
1- دانييل غيرين، التحررية من العقيدة الى الممارسة، ترجمة جورج سعد، دار الحداثة، لبنان 1996
2- P.-J. Proudhon, De la création de l'ordre dans l'Humanité, ou Principe d'organisation politique, réédité par С. Bouglé et A. Cuvillier. In : Annales d'histoire économique et sociale. 1ᵉ année, N. 1, 1929
3- كولين وارد، اللاسلطوية، ترجمة مروة عبد السلام، مراجعة محمد فتحي خضر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر 2014
N. Chomsky, de l'espoir en l'avenir - propos sur l'anarchisme et le socialisme, traduit par Geneviève4: Lessard et Martin Zemliak, éditions Agone, France 2001.
5- كولين وارد، اللاسلطوية، ترجمة مروة عبد السلام، مراجعة محمد فتحي خضر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر 2014
6- نفس المصدر السابق.
*كاتب وروائي مغربي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.