أثبت المغرب، خصوصا مع التطورات الأخيرة التي عرفها مواكبة لربيع الثورات في العالم العربي، أنه نموذج استثنائي يختلف عن باقي الدول العربية، يمكن الاقتداء بفنونه في السياسة والحكم.إذ عرف هذا البلد على امتداد سنين طويلة سياسة حكمية بارعة أنتجت واستعملت العديد من الإجراءات اتخذت كغاية وحيدة لها ضمان الأمن والاستقرار، لكن الاستقرار المشار إليه هنا يختلف عما يفهم من مضمونه من معاني الأمن وصون حوزة الوطن، وما يقتضيه ذلك على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، إنه بالأحرى استقرار وصيانة البنية المخزنية، أسسها وقوانينها الداخلية الثابتة و الغير مرئية، والحق أنها غاية طالما أجاد المخزن بلوغها عند مواجهة الأزمات دون أن يغير جوهر عقليته وسلوكه، وإن عمد في فترة من الفترات إلى تغيير كل شيء من أجل ألا يتغير أي شيء. لقد جند المخزن عبر سنين طويلة استراتيجية استباقية جعلته يتقدم دائما بخطوات عن أي معارضة تواجهه، قوامها تبني مصطلحات الإصلاح عبر الترويج لدولة الحق والقانون والديموقراطية وحقوق الإنسان، وكذا المواطنة والحكامة الرشيدة والتنمية المستدامة ... الخ، لكن شتان بين تبني الشعار وتنيزله واقعيا، وبين تحريفه وإضفاء الصبغة المخزنية عليه، الشيء الذي معه تفقد هذه المصطلحات هويتتها الأصيلة، وكأنها كائنات بلا عناوين و أجساد بدون أرواح لأنها تنفست هواء غير الذي وجب لها أن تنشأ فيه، والنتيجة أنها تتحول إلى عائق أمام أي مشروع إصلاحي، كونه رغما عنه سيكون مضطرا وبشكل مستمر إلى إعادة تعريف مفاهيمه ومنطلقاته وغاياته التي يروم بلوغها، وهو الأمر في نفس الوقت الذي لا يتحقق الإجماع عليه، ليبقى وضع البنية المخزنية صامدا عصيا عن أي خلخلة حقيقية. إن بلدنا فعلا يشكل استثناء، فالتجربة أثبتت أن المخزن تمكن بخبرته من احتواء كل العواصف التي واجهها، بل و الذوبان فيها ليخرج منها ببنية أشد صلابة مما كانت عليه. وبالرجوع إلى ما يعرفه المشهد المغربي اليوم، يمكن القول أن المخزن يعيد إنتاج الآليات ذاتها باستباق الأزمات عبر ضخ دماء جديدة باعثة للأمل في النفوس التواقة إلى رؤية فجر الإصلاحات. لقد تعاطى المخزن بلطف مع التظاهرات المطالبة بالإصلاح في البداية عكس ما ذهب إليه الآخرون، وتوج ذلك بالعمل على إعداد دستور جديد، ورفع من أجور الموظفين، وخلق هامشا للحركة الشبابية المطالبة بالإصلاح داخل قنوات الإعلام الرسمي... الخ. إنها فعلا سياسة ناعمة ورد فعل هادئ احتوى الوضع وجعل المواطن يستلب من جديد ويرضى بالواقع الوحيد الممكن في خضم الوهم والالتباس الذي غذته أيضا خلافات وتجاذبات السياسيين من جهة وأخطاء المولود الجديد من جهة ثانية. و مع ذلك فالحقيقة الواضحة التي لا مراء فيها هي أن مغرب ما قبل 20 فبراير بالقطع ليس هو مغرب ما بعد هذا التاريخ، ففئات عريضة من المجتمع اكتسبت مناعة ضد صناعة الاستلاب ولم تعد تنخدع بنيوب الليث المبتسم، فما كان من هذا الأسد إلا أن وارى ابتسامته وصال صولته، ففرض موازينه وقمع التظاهر السلمي وأرسل رسالة واضحة قطعية الدلالة مفادها أن لا حق لأحد سوى المخزن في تقرير شكل الإصلاح وجرعاته. لكن، ماذا بعد؟ وإلى أين؟ لاشك أن هذه الاستراتيجيات لا تعبر في عمقها إلا عن سياسة حلول تأجيل الأزمة، و التأجيل لا يعني بأي حال من الأحوال إلغاء الأزمة، فهذه الأخيرة قادمة مادامت دواعيها قائمة، ويبقى السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هو إلى أي مدى ستبقى هذه السياسة فعالة في مغرب ما بعد الدستور الجديد؟ سؤال يتحتم على الدولة تقديم الإجابة عنه منذ الآن، لأن استمرار الاستبداد والفساد، وإن اتخذ حلة جديدة، وتفاقم الفقر والفوارق بين الطبقات الاجتماعية سيظل باعثا مستمرا للتظاهر وفي ذات الوقت عامل وعي كل المستلبين. و لربما قد نشهد إن تم وأد الربيع انبعاث شتاء عاصف نؤسس معه فعلا المعنى الحقيقي للاستثناء المغربي.