وأنا في طريق العودة إلى مدينة الدارالبيضاء من سفر قصير فإذا بالطريق تزدحم ازدحاما شديدا لا يكاد أحد يتحرك في ظل فوضى عارمة وذلك راجع لمصادفتنا لأحد الأسواق الأسبوعية القريبة جدا من أرض العودة ، وطال الحصار وأصبح لا يطاق والكل يبحث عن مخرج بكل السبل إلا عناصر الدرك الملكي الذين لا يكترثون للوضع عنصران يتبادلان الحديث والضحك وآخر هناك يبدوا منعزلا بعيدا عن الآخرين ولا ترى عليه علامات الاستعداد لفك اللغز رغم كثرة الغمز واللمز ، وفجأة بدأ يتحرك هذا الأخير وبدى غاضبا منفعلا لما يحصل من هرج ومرج وقلنا حمدا لله جاء الفرج وسنخرج من هذا الحصار ، لكنه توجه صوب مجموعة من سيارات أو قل سلسلة من سيارات لا نهاية لها تحاول السير على جنبات الأسفلت أي المسار الغير مسفلت ، وأوقف الجميع وبدأ الآن والآن فقط يزاول عمله بطلب الوثائق الرسمية من أصحاب هذه السيارات وأخذ يتلوا عليهم قانون المدونة والخروقات التي وقعوا فيها والغرامات التي تترتب عليهم ، وفي هذا المعترك وهذا التذمر من الناس كل الناس راجلين وراكبين بل وحتى الحمير والبغال التي لم تجد متسعا للسير أو الوقوف ، انبرى شاب في الأربعينيات من عمره والذي يظهر أنه بلغ به التذمر والغضب مبلغه هو الآخر ، وضاق ذرعا من مسلسلات العبث والغث وقصص العي والغي الممنهج والذي يبدو أنه لا محالة صائر إلى ما لا تحمد عقباه ، وصاح في وجه هذا الدركي الملكي صيحة انتبه من قوتها الجميع رعدة مدوية كأنها ثورة استحضرت الماضي المظلم والحاضر المؤلم واستشرفت صحوة وانتفاضة شعب ذاق من ويلات القمع والجبروت والاستبداد والقهر مختزلة في هذا الشاب المغربي الغيور الذي لم يكن أصلا في المجموعة المعنية من المرتكبين للجريمة النكراء وهي التعدي على القانون على حد قول الدركي الملكي القانوني الذي لا يتعدى القانون إطلاقا ويعمل بتفان وحب وإخلاص للشعب والوطن والملك ، ترك هذا الشاب سيارته مفتوحة غير آبه لما قد يحيق بها من سرقة أو نهب ، وتوجه نحو الدركي رجل الأمن والأمان رجل دولة الحق والقانون ، توجه إليه بخطى ثابتة ونظرات ثاقبة ولسان فصيح لا يساوره أدنى شك بأن هذه اللحظة التي يعيشها لحظة قوة ونخوة بصحبة جيله وأقرانه لحظة انعتق فيها الطين والروح من ربقة الانكسار وحطم أغلال الهزيمة ، هذا الجيل الذي عايش معه زهاء الخمسين سنة وأكثر لحظات بل عمرا بأكمله عبودية الخنوع والدروشة ، ووقف هذا الشاب وجها لوجه أمام هذا الدركي ودار بينهما هذا الحوار كما رأيته وسمعته : الشاب : " يا هاذ الراجل علاش كاتقلب ؟ الدركي : ماشي شغلك سير لسيارتك الشاب : راك غادي تجبد عيك راسك الصداع ، واش خليتي الخدمة لي خاصك تدير او جيتي عند هاذ الناس كتاخد ليهم فالوراق آش داروا واش هما لي حابسين الطريق ؟ الدركي : آسيدي سير لسيارتك واش انت لي غادي تعلمني خدمتي ؟ الشاب : نعام آشاف راه الخدمة هيا هذي ( وبدأ يشير بيديه إشارات تشبه إشارات شرطي المرور) وتابع الشاب كلامه : راه خاصك تنظم السير آشاف او تعطي لكل اتجاه الحق في المرور وهكذا .... وأراد الدركي أن يقمع و"يغوفل" على الشاب لكن صوت الحق كان أرفع وأسمع وصوت الباطل كان أخرس وأخنس رغم ضجيج الدركي وبذلة الدركي وقبعة الدركي وعصى الدركي وصفارة الدركي وفجاة غاب عن الانظار فكأنما انشقت الأرض وبلعته ، فالناس في ذلك المكان وفي تلك اللحظة كانوا يرمقون ذلك الشاب البطل بإعجاب وتقدير وكأنما رأوا فيه صوتهم الذي لا ولم يسمع وبغيتهم التي لا ترام وانتظاراتهم التي طال ترقبها ، وكأني بكل واحد منهم أحب أن يكون مكانه ، وأن يبلغ مقامه وأن ينال سلطانه ، أنا أيضا تمنيت حظوته وسطوته أحببت على الأقل أن أقف بجانبه لا كالمتفرج من بعيد ، آنئذ أحسست بحسرة كبيرة وغصة مريرة لما آل إليه حالي وحال هذه الأمة أمة الغبن والجبن أمة " تفوت غي راسي او تجي فين بغات " هكذا نحن هكذا تلقينا تربيتنا المدرسية والمجتمعية والسياسية تربية الخنوع والخضوع تربية الذهنية الرعوية ، أصبحنا أمة أينما وجهتها لا تأتي بخير ولا يرجى منها صلاح ، ليس هذا كلامي ولا نسجا من خيالي وإنما هي الأحداث قالت كلمتها وحكمت حكمها ولكم واسع النظر.