عاد الأمين العام عبد الإله بنكيران إلى الميدان بالقوة والصراحة المعهودة فيه ليعلنها يوم 27 رمضان صرخة في وجه الفساد والاستبداد. هو إعلان الصمود من مقبرة الشهداء بمناسبة زيارة قبر د. عبد الكريم الخطيب بجانبه قبر الشهيد عبد الله بها. في كلمته أرسل رسائل واضحة ووضع النقاط والعلامات على حروف الخط السياسي لحزب العدالة والتنمية في المرحلة ما بعد الانقلاب على المسار الديموقراطي: 1) رسالة إلى جميع العياشة الذين يزايدون بالملكية: يتبنى بنكيران تشبثه بالملكية عن قناعة وليس بسب الصداقة مع الملك أو بسبب المال أو بسبب السلطة أو المنفعة "موقفنا من الملكية موقف استراتيجي… وفاء الحزب للملكية صادر عن قناعة عقائدية … ونظرة استراتيجية… وعهد ثابت بيننا وبين الدكتور الخطيب". لقد أثبت عمليا هذا المبدأ خلال توليه لرئاسة الحكومة، فهو ليس ملكيا لأنه من الخدام بالأجر أو الهدايا أو الرعاية التي تميزه عن المواطنين أو بملء الحسابات البنكية في الداخل والخارج أو باحتلال البر والبحر. إنها قناعة عقائدية وكفى. إنه منظور لقناعة تريد حقا للملكية الوجود والاستمرار وتضمن الأمن والاستقرار. إنها رسالة للانتهازيين والمنافقين الذين يقولون "نعم" فقط لأنهم ينعمون بالرعاية الاستثنائية وبنعمة البلاط الملكي. 2)- الملكية التي نؤمن بها ليست مطلقة، ليست ملكية الولاء والانقياد الأعمى؛ بل هي الملكية المشروطة ب" الأسس الشرعية.. مبنية على الولاء والمناصرة.. والمناصحة الثابتة والشجاعة والمؤدبة" واستدل بالحديث النبوي "الدين النصيحة…". موقف متوازن: الولاء والمناصرة،لكن بلا انبطاح وبدون مقابل؛ لأن المنبطح هو جبان يسيطر عليه الخوف ولا تهمه إلا مصلحته. 3) يقيّم بنكيرانالمرحلة ويسابق الزمن ليرد على التوجه غير المنطقي المرسوم لتبرير إعفائه ويسعى إلى تبرير الانقلاب على المسار الديموقراطي، وعلىمن يسعى إلى أن يجعل شخصه موضوع مسؤولية تعثر الاصلاح".. نحن ساهمنا في مسار الاصلاح بأشياء أصبحت معروفة لدى الجميع.. يعرفها الداني والقاصي، ومن أراد أن ينكرها فلينكرها، ونحن لا نبالي به".إنجازات لن ينساها المغاربة كإنقاذ صندوق التقاعد من الموت، وإصلاح المقاصةوالزيادة في أجور السلاليم الدنيا والدعم المباشر للمطلقات واليتامى والزيادة في منحة الطلبة وتخصيص منحة لطلبة التكوين المهنيوإخراج المساعدة الطبية إلى الوجود والزيادة في رواتب المتقاعدين القدامى ومحاكمة المفسدين المعتقلين بالتلبس وإعفاء عدد منهم وإنقاذ المواطنين من شبح الظلام بدعم المكتب الوطني للكهرباء وتغريم استهلاك الميسورين والتضييق على المفسدين..الخ. إصلاحات كبرى تبناها الملك وافتخر بها أمام قادة العالم. وأهم الإنجازات كلها الاستقرار وإعادة الثقة في العمل السياسي ومؤسسات الدولة.والدليل على ذلك كله هو أنه بسبب إعفائه عادالياس وعدم الثقة في الدولة بعودة رموز الفساد بقوة ودورهم في تشكيل الحكومة بنفس الشروط التي قاومها بنكيران لأزيد من خمسة أشهر. 4) رسالةإلى أعضاء حزب العدالة والتنمية والفاعلين الاصلاحيين حول الاصلاح ومفهومه " يجب أن يعلم أبناء العدالة والتنمية أن الاصلاح لم يتم" بمعنى توقف أو يحتاج إلى مجهود أكبر؛ وفي هذا المعنى رسالة استئناف النضال لمواجهة الفساد"الإصلاح وجود مستمر … ونحن نريد في بلادنا أن يستمر الأمن والاطمئنان والاستقرار وأن يصبح للمواطن كرامة"بمعنى أن عودة رموز الفساد إلى الساحة وعرقلتهم لعملية الاصلاح هي نذير بعدم الأمن وزعزعة الاستقرار، وأن بعودتهم إلى تصدر الدولة تعود الحاجة إلى مطلبالإصلاح أقوى مما كانت. 5) رسالة تضامنية مع الحراك الاجماعي وتسليط الضوء على مساره وتبنى شعاره الرئيسي "الكرامة أولا" فيشير إلى أهمية الكرامة قائلا"صحيح نحن في حاجة إلى البنية التحتية والمستشفيات والمدارس والثانويات والجامعات والطرق الخ، لكن المهم أن ترجع للمواطن كرامته ويشعر أنه،سواء كان رجلاأو امرأة.. غنيا كان أو فقيرا..حضريا كان أو بدويا.. أن يشعر في وطنه أنه مكرم وأن الدولة تخدمه وتشعر أنها تتشرف بخدمته… يمكن أن نصبر على الطرق.. وعلى المدارس.. والجامعات لكن لا يمكن أن نصبر على الكرامة" .المشكل إذن ليس في عدم وجود البنية التحتية بسبب العجز أو الفشل؛ المشكل، وإن وجدت البنية التحتية، في الاستبداد والفساد، بعبارة موجزة "الكرامة..". 6)في كلامه تدقيق لمفهوم الدولة التي يجب الاستمرار في النضال حتى تحقيقها وهي "دولة الكرامة"؛ وهو مفهوم يتجاوز ما يعبر عنه في الأدبيات التقليدية ب" دولة الحق والقانون" لأن "الكرامة" هي الميزان والضابط لئلا تكون في الدولة قوانين ظالمة؛ الدولةالحقة "هي التي يشعر فيها المواطن بالكرامة… نحن أبناء العدالة والتنمية نقولها دائما بصراحة" أي إن الكرامة هي هوية أبناء حزب العدالة والتنمية، ومن تخلى عنها يفقد معنى انتمائه لنضالية هذا الحزب؛ 7) كلمة في "وحدة الصف" و"المنهج".سمى هذه المرحل التي انقُلِب فيها على المسار الديموقراطي بالامتحان الصعب لأبناء العدالة والتنمية "يعلمون أنهم الآن يجتازون امتحانا صعبا وحرجا"؛ امتحان الثبات على المبدأ وعدم الرضى بالمهانة.وتبعا حسَم في الجدل الدائر داخل الحزب حول مفهومي"وحدة الصف" و"المنهج" انطلاقامن مبدأ منقوش في اللوحة الخشبية التي أهداها الدكتور الخطيب لقيادة الحزب،وهو في قوله تعالى "واعتصموا بحبل الله جميعاولا تفرقوا".تطرق بنكيرانإلى معنى الوحدة الواجبة والتي يريدها من خلال شرحهللآية الكريمة بقوله: "الاعتصام بحبل الله ليس عدم التفرق على لا شيء"، ليس اجتماعا على لا شيئ وإنما هو على المبادئوبالتالي فإن الوحدة تكون بالإخلاص والتمسك بالمبادئ،والتفرق يكون بسبب عدم الإخلاص. وهنا يشير إلىالتميز في صف الحزب "أبناء العدالة والتنمية ليسوا هم المسجلون في اللوائح .. هم الناس الذين يخدمون وطنهم بإخلاص سواء في وظائفهم أو في أعمالهم أو في البرلمان أو في الحكومة أو في أي مكان، أولئك هم أبناء العدالة الحقيقيين.. هم الذين يعتصمون بحبل الله…يجب أن لا يتفرقوا، ويجب أن يستمروا كل واحد من الموقع الذي يسره الله له…" 8) رسالة إلى القاعدة الشعبية الاتي صوتت للحزب؛ إعلان العودة بنفس القوة ونفس المنهجإلى الميدان وعدم الاستسلام لمحاولة إنهاء دوره داخل الحزب وخارجه، والدعوة إلى التكاثف والالتفاف حول انتصاراته المتتالية للاستمرار في معركة الإصلاح ومحاربة الفساد والاستبداد وفاء للإرادة الشعبية "لأن الشعب الذي يثق فينا وأعطانا أصواته وبهذه الكثافة في 2011 وكررها رغم أنف الحاقدين والحاسدين والمتآمرين الذين افتضحوا وكشفوا والذين انقلبت عليهم مؤامراتهم، الشعب ضدهم سنة 2015 ، وكررها سنة 2016 رغم المظاهرات الخاوية والخزعبلات ورغم تصرفات الأطفال في السياسة". لقد حسمبنكيرانفي قرار استئنافه للمعركة بقوله"هذا الشعب الذي أعطانا أصواته لا يمكن أن نغدره (نخويو به) ونتركه، سنبقى معه إلى النهاية سنصبر معه وسنثبت معه…". 9) التحذير من الانبطاح والإقرار بأن هذه الجولةهزيمة مؤكدة، وأن تشكيل الحكومة بالطريقة التي شكلت بها ليست انتصارا للحزب "طبعا يمكن أن ننهزم ويمكن أن نتعرض للمؤامرة.. وأشياءأخرى.."، هي امتحان للحزب هل سيحافظ على هويته أو ينساق مع سياسة الانبطاح التي أراد له المتآمرون، "امتحان لصلابتنا وامتحان لما نريد أن نكون ومن نحن".بلغة مهذبة يوصل رسالة وهي أن هذه الحكومة وإن فرض على الحزب أن يسميها حكومته فهي لا تمثله ولا يمكن أن تستأنف مسار الإصلاحاتإلا بهوية الحزب الحقيقية؛ لذا لا بد من التعبئة لتقوية صف الحزبوالتحذير من الانبطاح والتدجين"فإذا كنا شيئا من السكر وشيئا من الملح يذوب في "كويس" من الماء فإننا سنذوب ونذهب غير مأسوف علينا، وإذا كنا صادقين ومخلصين وفعلا نبتغي وجه الله الذي تحدثنا عنه -لأن ابتغاء وجه الله هو دعوى يدعيها الجميع.. فسنبقى في هذا الطريق حتى نلقى الله تعالى".قضية الثبات على المبادئ والقيم وابتغاء وجه الله هي قضية محورية في مساره السياسي يتميز بها دائما، فلا يخلو اجتماع أو مناسبة إلا ويذكر بها نفسه وغيره. 10)وأخرا يرسم خريطة استراتيجية المعركة المقبلة للحزب. يلاحظ استعماله بقوة مصطلح "الاستبداد" مكان "التحكم" الذي كان يستعمله من قبل مقترنا بالفساد "وإذا خسرنا معركة لا يمكن أن نخسر الحرب على الفساد والحرب على الاستبداد". وبالفعل خسر الحزب المعركةبالانقلاب على المسار الديموقراطي وتشكيل حكومة لا طعم ولا لون ولا رائحة لها، عنوانها الانتكاسة على مستوى الدولة؛ لكن الحزب بثبات الزعيم وعودته إلى الميدان بقاعدته الصلبة التي لم تستسلم للهزيمة ولم تقبل الإهانةحتى لا تتسرب الانتكاسة إلى مشروع الحزب وهويته الاصلاحية؛ لأن"بدون رجوع الكرامة للمواطن وبدون زوال الاستبداد وبدون زوال الفساد أو على الأقل نقصانهما فإنه لا نستطيع أن نحقق شيئا". وأما إطار استئناف الحرب على الاستبداد فهو بالتأكيد"وطبعا دائما في إطار ثوابتنا التي نحن مصرون عليها إصرارا غير قابل للمساومة ألا وهي إسلامنا وملكيتنا ووحدتنا الترابية والوطنية". أثبت بنكيران بهذه المواقف أنه مازال في أوج عطائه لم تؤثر الأحداث في توجهاته ولم يبدل ولم يغير. خلال مدة غيابه وصمته الاختياري لترك الفرصة للآخرين وعدم التشويش عليهم، وهي مدة كافية للاختبار وبروز قيادات جديدة في المستوى، لم يستطع أحد ملء الفراغ الهائل ولا استطاع أن يعوضه في عفويته وبساطته وذكائه السياسي ومهاراته التواصلي؛رغم المحاولات اليائسة بالتصريحات والانتقادات الجريئة لخطه إلى درجة وصفه بالانحراف عن المنهج، ورغم قيام بعض القيادات بالجولات عبر الأقاليم والقيام بالتعبئة لتبرير الانبطاح وتأييده مما أدى ببعضهم إلى تقديم الأسوأ من أساليب التواصل؛وفي الأخير يطلبون منه صك البراءة بتوقيع بيان تأييد مطلق للحكومة. كاد الحزب أن يستسلم لقرار الاستبداد مثل غيره من الأحزابفجاءت مواقف بنكيران استجابةلأصوات كثيرة ليس فقط من داخل الحزب للحاجة الملحة إلى استعادة مكانتهوضمان وحدته وهويته الإصلاحية والحفاظ على استقلالية قراره السياسي؛ وإنما كذلك وبتزايد،من الديموقراطيين اليمينيين واليساريين وجموع المواطنين الذين يطالبونه باستعادة مبادرة استئناف النضال الديموقراطي ومقاومة النكوص الديمقراطي بعد إعفائه.لا شك أن هذه العودة وبهذه المواقف الصارمة وما سيترتب عنها في المؤتمر القادم من التكاثف والالتفاف حول الزعيم ستزعج المستبدين وخصومه السياسيين الذين أرادوا له موتا غير طبيعي، وستفشل خطة إضعاف الحزب وتدجينه.