مرت الذكرى السوداء كما يمر السحاب العابر في براري سماء أغسطس، تاركة وراءها حبات أحزان متناثرة في حقول أمسها البعيد، وأيقظت في حقول ذكراها المهاجرة نيران الصدمة القاتلة، تاركة سفينة عمرها الضائع شاردة في مرسى آهاتها الموجعة .. تداعت صروح الأحلام الوردية، وانهدت أبراج الصباح المنتظر على صخرة الحقيقة المرة .. تلاشت حقول الياسمين واستسلمت أزهار البنفسج لشمس الظلام المحرقة، وأصبحت الآمال المتراقصة سرابا في صحاري الذكريات البائدة … رحل “الزوج” قبل الأوان وبدون سابق إعلان، كما رحل “الإبن”، اختطفتهما خفافيش الغدر على حين غفلة، دون أن يرسما على لوحة خديها قبلة الوداع الأخيرة، اقتنصتهما عناكب العدم عنوة .. جرفتهما السيول الجارفة كما لو كانا قطعة قماش تائهة، وأرمت بهما في عوالم اللاعودة .. مصممة أن تخرس صوتهما الدافئ إلى الأبد، أن تنتشلهما عنوة من قاموس الحياة، أن تحولهما إلى رواسب عالقة في أوحال الذكرى العابرة .. رحلا قبل الأوان كما رحلت شمس ذاك المساء .. في عنفوان الربيع الزاهر .. في عز المطر العابر .. اختلت “راجيني” بنفسها في غرفة آهاتها بعيدة عن العيون المتربصة.. كل شيء عبث به الزمن العابر منذ الليلة السوداء.. ذبل الزهر و جفت العيون الساكنة وأضحى القلب الشارد جمرة في رماد الفراق المحرق .. كل شيء يذكرها بزوجها وإبنها الراحلين، .. تقاسيم وجههما.. عيونهما الجذابة كاللؤلؤ .. نظراتهما المتناثرة كأوراق الهيام.. ضحكتهما المتدفقة بانسياب وعنفوان كالشلال الهائم .. أحلامهما الكاسحة المنسابة كقطرات الندى .. أحاسيسهما الفيحاء كالأريج .. يومياتهما ..آهاتهما.. صرخاتهما .. كل شيء طوته عساكر النسيان وأرمت به في زنازن الذكريات الهاربة .. كل شيء صار في خبر كان… وحدها الأجساد المحترقة بنيران العدم تردد ترانيم الآهات .. وحدها القلوب المكتوية بلهب الألم ولوعة الفراق تتقلى في مقلة العذاب بعيدة عن عيون العالم … جلست كعادتها على سريرها الخشبي ..تتأرجح بين مطرقة الوحدة وسندان الفراق المؤلم .. تحتسي فنجان قهوتها المفضلة “موس بلونش” .. تسيطر على بلاط نفسها ملايين من الكلمات .. تاهت بين ثنايا صمتها الرهيب، تخترق سكناتها أسئلة الممكن و اللاممكن .. اللقاء والفراق .. الموت و الحياة .. تتذكر “المكان” و “الزمان” و دموع الأسى لا زالت ترسم مسيلات على وجهها الشاحب .. الزمان : ليلة الجمعة 16 مايو 2003 و “المكان” : الدارالبيضاء .. تتذكر بدقة متناهية “الزمان” الذي غير مجرى حياتها وأرمى بها في أودية الوحدة الموحشة .. وتتذكر”المكان” الذي انطفأت فيه شمعة زوجها وإبنها ..” دار إسبانيا” .. كان اليوم يوم “جمعة” .. مر كما تمر الأيام المهاجرة .. لم يكن أحدا يظن أن حبائل الوصال ستنقطع وأن الإعصار الجارف قادم لا ريب .. لم تكن”راجيني ” تدرك أن النورس” الوديع ” سيغادر حضنها بدون رجعة ، وأن “حبها ” القدسي سيشنق على ربوة العدم بدون رحمة ولا شفقة …. رحلت شمش ذاك النهار وأرخى الليل أجنحته على ”المدينة القديمة” و”المرسى” و “درب عمر” و “درب غلف” و “لقريعة” و” كراج علال” .. على “أنفا” و “المعاريف” و “عين الذباب” ..على “كاريان زرابة” و “طومة ” و”الرحامنة “.. على “سيدي مومن” و “مولاي رشيد” و “سيدي عثمان” … على كل الأمكنة و الشوارع و الزقاقات .. فجأة وعلى غفلة من الزمن العابر.. دقت طبول العدم واهتزت أركان المدينةالبيضاء من شدة الانفجارات المدوية .. هرع “البوليس” إلى الأمكنة المحترقة وكأن القدر أصر إلا أن تتلطخ لوحة احتفالات الذكرى (16 ماي) بطلاء الدم، وهرولت سيارات الإسعاف مخترقا صداها الشوارع الساكنة، وأعلنت حالة الاستنفار في يوم العيد والذكرى..قتلى وجرحى بالجملة .. أجساد متفحمة متناثرة كأوراق الخريف .. أشلاء متطايرة .. نوافذ مكسرة .. برك من الدماء .. صرخات تنبعث وسط ركامات الإعصار الجارف .. وآهات تكسر صمت العيون الشاردة .. كل شيء تغير في لمحة بصر .. ذبلت حقول العنبر .. وهاجم الخريف آخر أوراق السلام الساكن .. تاهت الكلمات بين ركامات الحيرة و الذهول .. بين الفاعل و المفعول به .. بين المبتدأ و الخبر .. بين الجار و المجرور .. بين المضاف و المضاف إليه .. وشمر البوليس على سواعدهم المرهقة في يوم الذكرى (16 ماي) من أجل البحث و التحري وكشف النقاب عن الحلقة المفقودة في “مسلسل العدم” .. تحركت الأقلام الجافة في مجاري المداد الراكد .. تكاثرت الأخبار كما تتكاثر الجرذان في البالوعات المنسية .. وتناسلت المقالات العطشى مكسرة طوق الإيقاعات الرتيبة بحثا عن الحقيقة الضائعة خلف مرايا العيون الشاردة … بعد مضي سنوات على الحادث المدمر، لم تقو”راجيني” على التخلص من ماضيها المدمر.. لا زال ” الزوج” و”الإبن” يسكنان جوارحها كالجنيين العاشقين .. فلا هما رحلا عنها ولا هي استطاعت أن تفك معهما حبائل الوفاء و الوصال .. لازالت ترعى في براري ذكراهما العابرة كما ترعى الغزلان المتيمة في مروج العشق الجارف، وتتنقل برشاقة وكبرياء بين موجات أثيرهما كما لو كانت نحلة ولهانة تبحث عن رحيق متناثر وسط الحقول العطشى .. ترجلت بخطوات متثاقلة نحو “البالكونة” بعد أن وضعت فنجان القهوة على المائدة .. نظرت إلى السماء بعيون شاردة تبدو كمدارة طرقية تتقاطع فيها كل شوارع اللوعة والحسرة والحرقة والشوق والفراق، وبعد هنيهة، رسمت الدموع مسيلات متموجة على وجهها الشاحب، تنهدت تنهيدة قاتلة، وتمتمت بكلمات متقاطعة قائلة : “الله ياخد فيهم الحق .. الله ياخد فيهم الحق..”، كلمات كانت تنساب كالشلال الثائر على مرايا قلبها الجريح، فتبث في كواليس نفسها، شحنة قوية، تجعلها تزداد إصرارا في الحياة وزرع شتلات الأمل والمحبة والتعايش والسلام، من أجل زوجها وإبنها الذين اختطفتهما أيادي العدم من بين ذراعيها .. من أجل ضحايا 16 ماي .. من أجل كل من امتدت إليه مخالب التطرف الجبان .. لملمت جراحها واستجمعت قواها، وغادرت البيت على عجل، في اتجاه ساحة محمد الخامس الشهيرة، من أجل المشاركة في وقفة تضامنية أمام “النصب التذكاري”الذي يخلد للذكرى الأليمة، استحضارا لروح ضحايا فاجعة 16 ماي الأليمة ..وهو شوط من أشواط معركة بلاهوادة، ضد التطرف والكراهية والإقصاء، أصرت إلا أن تنخرط فيها، دفاعا عن رسالة المحبة والتعايش والحياة … مهما دقت طبول العبث والعدم … يتبع …