يودع أباه في محطة القطار بالدمع و الحزن، الفراق صعب و فراق الحبيبة أصعب، يصعد سلم الحافلة معتنقا حافظته الصغيرة حيث يحفظ فيها عناوين و أرقاما هاتفية، و أشياء غالية.يأخذ مكانه و عبر زجاج النافذة يشير إليه إشارة الوداع الأخيرة. أخذت الحافلة تخترق زمان الطريق، و أخد محمود يخترق زمان الذاكرة، يسترجع شريط الأحداث منسوجا على الطريقة الهوليودية، حين يرى أمه تبكي مستغيثة، مستعطفة لعلهم يتركون فلذة كبدها بين أحضانها، أو أن تكون عنه بديلا، و بإصرار و تحد منها لتنقذ ابنها من بطشهم، تستقبل اللكمات و الضربات الموجعة حتى تنبطح أرضا، فتنهض لتعود إلى موجة الإصرار و العناد لتفوق مداها، حينها صوبوا نحوها الفوهات لتسقط جسما هامدا يمتص دمه التراب، فأجهش بالبكاء و هو يراها تصغر و تصغر أمام عينيه حين أخذت سيارة الاعتقال تبحر به إلى مكان غير معلوم. وهو شارد في ذكراه تسيل من عينيه دمعات، فتتراوح سحنته بين العبوس و الانفراج بين الحزن و الضجر، وبين العزم والإصرار، لأن محمود من شباب جيله عقدوا العزم على أن لا تقهرهم البنادق والسيارات المصفحة.كانت الحافلة غاصة بالركاب، منهم من يتحدث عن رحلته، ومنهم من تسمع قهقهاته من هناك، أحدهم يتكلم و الآخر ينصت للكلام، الجميع أو ربما أغلبهم يعرفون أفق رحلاتهم عداه هو فلا يعرف وجهته.. شارد الذهن، يدعوه أحد المسافرين بجانبه، ليتجاذبا أطراف الحديث، فلا يأبه به، فعالمه علم شرود وتفكير مستمرين، فإلى أي أرض سيرحل، و أي بلدة تستضيفه ؟؟ غريب دوما، أما بلدته فلقد أصبحت بلا روح ولا قلب، أصبحت بلدة من يفيقون وينامون على الحوقلة. عزم محمود على أن يكون فداء لبلدته بالدم والروح، سلاحه الحجارة قنبلة، وهاهو اليوم يغادرها حزينا ضعيفا مقهورا، يده التي كانت مدفعا أصبحت لا تنفع حتى للتحية.. أخذت الحافلة تستهلك الطريق ومحمود يستهلك الفضاء حوله محملقا بمقلتيه غيوم السماء قاتمة يحاول أن يذوب بنظراته في سباق الأشجار ليفك عن نفسه.فجأة يقف كل شيء بالخارج.. ومازالت الحافلة تجري، حتى بالداخل عم السكون ولم يعد يسمع صوتا أو همسا، فأخذت تتراءى له صورة أمه في كل شيء حتى في أدق الأشياء في العيون في المقاعد في السماء في الأرض حتى في الشجر و الحجر، تلوح إليه بيديها تلبس لبوس الملائكة يشع منها نور روحاني تبتسم له، فتنقشع الغيوم القاتمة ويصبح الزمان ورديا بنفسجيا ينشد سيمفونية الخلود فتناديه " يا محمود..يامحمود..عد إلى بلدتك..عد إلى رغيفها وشمسها..عد إليها بروحك وجسدك..فيصيح محمود" ولكنني عاجز ضعيف ؟؟؟فيتعالى صوتها ليملأ الفضاء " عد يا محمود إلى الأرض التي أنبتتك وقاوم بالدم، بالقلم، بالرمش و الألم..."