أخنوش ل"المبخسين": لا يهمهم سوى مقاعد البرلمان والمواطن يعرف الفرق بين الأمس واليوم    احتفاء بكأس أمم إفريقيا 2025.. مزيج بين الفن والرياضة في عرض "موج" بمحطة الرباط-أكدال        مطارات المملكة جاهزة لاستقبال كأس إفريقيا للأمم 2025    نقابات الصحة تصعّد وتعلن إضرابًا وطنيًا باستثناء المستعجلات    مدرب إيفرتون: "علينا احترام كأس أمم أفريقيا ومشاركة اللاعبين مع منتخباتهم أمر طبيعي"    الناظور .. انطلاق فعاليات النسخة ال10 للمعرض البين-ثقافي الافريقي    نشرة إنذارية برتقالية: ثلوج كثيفة وأمطار رعدية بعدد من مناطق المغرب    التونسي وهبي الخزري يعتزل كرة القدم    توقيف مواطن ألباني في أصيلة مبحوث عنه دوليا    المغرب: خبير صحي يحدّر من موسم قاسٍ للإنفلونزا مع انتشار متحوّر جديد عالمياً    كأس أمم إفريقيا 2025.. "الكاف" ولجنة التنظيم المحلية يؤكدان التزامهما بتوفير ظروف عمل عالمية المستوى للإعلاميين المعتمدين    نادي الأهلي السعودي يحتفي بالرجاء    القنيطرة .. يوم تحسيسي تواصلي لفائدة الأشخاص في وضعية إعاقة    جهة الدار البيضاء : مجلس الأكاديمية الجهوية يصادق على برنامج العمل وميزانية 2026    ضحايا "زلزال الحوز" ينددون بحملة التضييقات والأحكام في حقهم    تساقط الثلوج يقطع طرقات في تنغير    الطريق بين تطوان والمضيق تنقطع بسبب الأمطار الغزيرة    الممثل بيتر غرين يفارق الحياة بمدينة نيويورك    الملك تشارلز يعلن تطورا لافتا في علاجه من السرطان    خطابي: فلسطين تحتاج "محامين أذكياء"    السغروشني تعلن تعبئة 1,3 مليار درهم لدعم المقاولات الناشئة    حبس الرئيس البوليفي السابق لويس آرسي احتياطيا بتهم فساد    تفاقم عجز السيولة البنكية ب 5,93 في المائة ما بين 4 و11 دجنبر    الركراكي يرفع سقف الطموح ويؤكد قدرة المغرب على التتويج بالكان    تشيوانتشو: إرث ابن بطوطة في صلب التبادلات الثقافية الصينية-المغربية    الإقصاء من "الكان" يصدم عبقار    الإمارات إلى نصف نهائي كأس العرب لمواجهة المغرب الإثنين المقبل    بنونة يطالب ب «فتح تحقيق فوري وحازم لكشف لغز تهجير الكتب والوثائق النفيسة من المكتبة العامة لتطوان»    عاصفة شتوية تصرع 16 شخصا بغزة    "الأنفلونزا الخارقة".. سلالة جديدة تنتشر بسرعة في المغرب بأعراض أشد وتحذيرات صحية        نشرة إنذارية.. أمطار قوية أحيانًا رعدية مرتقبة بطنجة هذه الليلة    يونيسكو.. انتخاب المغرب عضوا في الهيئة التقييمية للجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي    بتمويل أوروبي ب150 مليون أورو.. مشروع "سايس 3" يهدف لتأمين الري ل20 ألف هكتار وحماية المياه الجوفية    بورصة البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الارتفاع    إيران تعتقل متوجة بجائزة نوبل للسلام        بريطانيا.. موجة إنفلونزا "غير مسبوقة" منذ جائحة (كوفيد-19)    أخنوش من مراكش: المغرب ملتزم بتعزيز التبادل الحر والاندماج الاقتصادي المستدام في إفريقيا    ميناء العرائش .. انخفاض طفيف في حجم مفرغات الصيد البحري    مدينة الحسيمة تحتضن فعاليات الملتقى الجهوي السابع للتعاونيات الفلاحية النسائية    نورس موكادور الكاتب حسن الرموتي في ذمة الله    صادرات الصناعة التقليدية تحقق نموا    تناول الأفوكادو بانتظام يخفض الكوليسترول الضار والدهون الثلاثية    تيميتار 2025.. عشرون سنة من الاحتفاء بالموسيقى الأمازيغية وروح الانفتاح    باللهجة المصرية.. محمد الرفاعي يصدر جديده "روقان"    مراسلون بلا حدود: سنة 2025 الأكثر دموية للصحافيين وقطاع غزة يتصدر قائمة الاستهداف    حوادث النَّشْر في العلن والسِّرْ !    وثيقة سرية مسربة تفضح رغبة أمريكا استبعاد 4 دول عن الاتحاد الأوروبي    منظمة الصحة العالمية .. لا أدلة علمية تربط اللقاحات باضطرابات طيف التوحد    تخفيف عقوبة طالب مغربي في تونس تفضح سوء استخدام قوانين الإرهاب    فيضانات تجتاح الولايات المتحدة وكندا وإجلاء آلاف السكان    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    موسم حج 1448ه... تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بزقة
نشر في طنجة الأدبية يوم 27 - 12 - 2012

غريب أمري، كلما تأزَّمت روحي واختنقت من هذا الكم، هذا الكل، هذا اللاشيء، لم تنقذني سوى الكتابة أو شفتا تلك التي أحبها وغابت. بينها والكتابة وأنا رابطة، لا أعرف ما هي، شيء أكبر من الحب نفسه، وأصغر منا نحن الإثنين.
المشكلة عماذا سأكتب ؟ فحديث الحب لا يزيدني إلا معاناة، هل أكتب عن الملوك والطغاة وباغيات الشوارع، أم أتقنص ثمِلا يروي لي حكايته مع القنينة وتلك التي خانته وذهبت إلى الجحيم دون رجعة.
لا أعرف ما الذي كنت سأفعله لولا الكتابة، لعلي انتحرت أول ما بادرني هذا الشعور، ولعلي فزت بشفتيها، تلك التي غابت، وأنجبت منها دزينة أطفال ألعب معهم الكرة على أن تكون هي حارسة المرمى لكل أهدافي. لا يمكنني أن أعرف أين تتقاذفني هذه الحياة الكريمة بعطائها أو اللعينة بسلبها، منعرج واحد وتجد نفسك مع امرأة لا تحبها، حبيسا في سجن كبير اسمه العمر، أو ميتا بعد حادث سير بسبب قيادة ذلك الثمل الذي كنت ستكب عنه.
لقد انطفأتُ ولم يبق لي شيء أكتب عنه، وقد كتب السابقون عن كل شيء. لم يدع أولئك الملاعين وأشر الخلق سبيلا، وأحسبني منهم ، شيئا صغيرا ولا كبيرا إلا وكتبوا عنه ، كتبوا عن الحمار والحصار والصرصار والحمارة أيضا. لم يتركوا لنا ريحا ولا عورة ولا ذرة في الأرض ولا في السماء إلا ووصفوها أدق وصف وقدحوها بأقذع العبارات. سأكتب عن الجنس، فالناس، نساء ورجالا، يحبون الجنس رغم أنهم يقولون إن الحديث عنه عيب و"حشومة" ولو كان عن حلال بين الأزواج، لكن بعض شخصياتي في قصصي غير محترمة، وأنا ديموقراطي جدا معهم، أتركهم يعبرون عن أنفسهم تعبيرا حرا، وإلا كيف أنتقد الاستبداد وأستبد بهم.
لقد تعبت، أريد الكتابة فقط لأنام هذه الليلة التي لن أرى فيها شفتيها، قد أحلم بحمرتهما ولذتهما وعسلهما لكن ذلك لن يزيدني سوى شقاء، وقد تزورني نحلة وتلسعني فلا أنام. أريد أن أكتب لأفيق صباحا وأنتبه لغناء طير على نافذتي، وأحس أنني إنسان، وأنني لم أعش للأكل والشرب والنوم والعمل هذا اليوم، وإلا فإنني سأقترب غدا من أنكر صوت لأجمل حمار لأشاركه نغمات النهيق، أو أركض خلف كلب أجرب كما يركض الناس خلف الخبز.
لقد تعبت من القراءة ومن العمل ومن السياقة ومن البشر والطرقات ومن نفسي، حتى أناملي أشعر بها تثور ضدي، وفؤادي هذا يكاد يخرج من مكانه، أما عقلي فقد خرج فعلا دون عودة منذ عرفتها.
العالم كله تختزله هذه الورقة البيضاء، عرس بعد كل كتابة، فرح بعده أيما فرح، وأنا واثق ان كل المهن ستنقرض في عالمنا الحديث والمتطور والسريع جدا إلا الكتابة، حتى العلاقات صارت وجيزة قصيرة ، وكثر الطلاق، وقل الزواج، وندر الحب، إلا علاقتي بالكتابة تتوطد على مر الأيام كعلاقتي بتلك التي أحبها وغابت.
المهم أنني حين أكتب لا أكذب، لأن الخيال مستمد من الواقع المليء بالكذب. لذلك فإن علاقتي بالكتابة سوف تستمر كل الحياة وحتى بعد الممات. للاحتياط، سآخذ معي أقلاما حجرية، فهناك روحي ستكتب على التراب الذي خُلقنا منه، ولعلي أجد تلك التي غابت عني هناك.
مازلت لا أعرف عماذا سأكتب؟ غيرت مكاني ، جلست على كرسي مريح، قعدت على الأرض، انبطحت فوق السرير الوثير، اتكأت حسب وصية الأجداد على الحائط العتيق ، خرجت أهذي ويداي في جيبي، حضنت وحدتي ، تأملت السماء ، أحصيت بعضا من النجوم الشاردة ، تذكرت التي غابت، لا فائدة.
خضت دوامة التيه في المدينة كما فعل شارل ديكنز، حاولت الكتابة واقفا كما همنغواي، وقرأت تعاويذ هومر وسومر وحتى الطالبان، لم ينفع شيء، وتجردت من كل ملابسي كما هوجو وبقيت عاريا بئيسا بينما كتب هو البؤساء. الكتابة استفراغ وإن لم أكتب سأنفجر ، وغدا سيجدونني مثلهم قطعا متناثرة.
حاولت الكتابة عن عيشة قنديشة، ذهبت إلى الحمام ، فسقط الصابون وكيس الحمام من علِ، واقشعر بدني ووقف شعري ، ولعل شعر قارئ كان سيقف أيضا ولعله قد وقف الآن فعلا، وسمعت ضجيجا غريبا ، وكلما ركبت سيارتي الآن أنظر إلى الخلف الفارغ لعلها هناك تملؤه، يقولون إنها روح كاهينا الأمازيغية التي حاربت العرب قد تحولت إلى جنية ذات قائمتيْ ناقة، تفتن الرجال بجمالها حتى إذا ماوقعوا في شراك حبها أرشدتهم إلى طريق الموت، أما أنا فلن أقع في حبها لأن قلبي قد غادر مع تلك التي غابت.
ولقد كان الجاهليون يعتقدون أن شعراءهم مسكونون من الشياطين. وقد سمعت يوما عن كاتب في عصرنا اعتقدوا أنه مسكون لأنه يحدث نفسه طول اليوم، وحين أتوا له بفقيه ليقرأ عليه آيات وطلاسم، خرج له الجن يضحكون وسكنوا الفقيه نفسه.
وكاتب آخر كان يخرج بين الناس وينظم الحلقات الساخرة من تأليفه، ويزغرد ويطبل ويغني ويرقص، لو كان في فرنسا أو بريطانيا لأصبح مسرحيا مشهورا، لكنهم عندنا أخذوه إلى مستشفى 36، هناك يأخذون الكثير من العقلاء جدا.
أريد أن أكتب، فأنا مختنق ومكتئب جدا، وأنا الآن أعرف شعور هذه السماء التي غصت بالسحب الحاملة ولم تمطر قطرة واحدة، أريد أن أكتب لأدفأ قليلا في هذا الشتاء. ولو كان الفران البلدي موجودا في حيّنا لملأ "الطراح" مجمري، لكنهم هدموا الفران وبنوا عمارة مكانه، وفي الطابق السادس تسكن بعض الفاتنات، يقلن إنهن يشتغلن بالتسويق، وكثيرون هم الرجال الذين يزورنهن للتبضع ربما، بعض الزائرين يسكنون العمارة نفسها ومتزوجون أيضا، لعلهم لم ينتظروا اللواتي غِبن عنهم، وقرروا الزواج لأجل الإنجاب، وهاهم الآن ينتقمون من أجسادهم. ولو كانت تلك التي غابت معي الآن لشعرت بالدفء وكتبت.
أعتقد أنه انتقام الحروف التي ألُمُّها وأبعثرها كيفما اشاء. وأنّى لا تكون لها حياة وتحقد وتحب وتكره مثلنا وهي التي بدونها لا يكتمل معنى. وقد كان هناك شاعر ينتقم من الكلمات، يختار عبثا صفحة في جريدة ويقطعها كلمة كلمة، ثم يملأ بها كيسا، ويشجه شجا، فيخرجها ويدونها دون مراعاة لمعنى الواحدة تلو الأخرى ، كان ذلك نهجه، وكانت تلك قصائده، حتى أصبح رائدا لشعر أحمق يسمى بتيار الدادائية.
وأنا أريد أن أكتب فقط، لا تهمني التيارات الآن ولو كانت تلك التي في البحر، وقد مشيت على شاطئه حين غروب الشمس لعلي أرى حورياته، لكنهم كذبوا علينا في الصغر، ولا حوريات ولا هم يسبحون.
أترى صورة قلمي هذا الذي جف حبره، كم بكى وكم كتبت به من قصص وقصائد وإلياذات ومسرحيات، لقد أقمت له جنازة بعد نفاد دمه، وجمعت له كل الأقلام الغالية والرخيصة التي لم تسعفني بسطر واحد، وحملته إلى المقبرة ودفنته هناك، وكل يوم جمعة أذهب إلى تفقده ومعي أحد مؤلفاته، أقرأ ما تيسر منها عليه لعل السطور تشفع له عند رب القلم.
وأنا لا أمشي إلى القبور ولا خلف الجنائز إلا إذا مات إنسان لا يملك حتى ثمن ضراطه، فللأغنياء من يركض وراءهم في المحيا وعند الممات، وأنا متأكد جدا أنهم متساوون عند الرفيق الأعلى.
شرِبَ آخر جرعة ويسكي من القنينة الرابعة والأخيرة، بزق على الورقة، وقال : سأكتب عن البصقة أو البزقة أو البسقة، لم يكتب عنها أحد، وسأستفتي غدا رأي الأصمعي في الصاد والزاء والسين.
نسيت ما كنت سأقوله، لكن الكلام عن الكتابة لا ينتهي إلا بالموت أو النعاس.
وضع رأسه على الطاولة، ونام عميقا، غدا سيصحو كما الذين لا يكتبون : سكرانا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.