زوما يدافع عن زيارته للمغرب: العلم الجنوب أفريقي ملك للشعب وليس للحكومة    قانون مالية 2026.. مواصلة تنزيل الإصلاحات الهيكلية والحفاظ على التوازنات المالية    فرنسا تندد ب"شدة" بخطة الحكومة الإسرائيلية لاحتلال غزة بالكامل    أسود البطولة يرفعون التحدي قبل مواجهة كينيا    أوغندا تكتسح غينيا بثلاثية في "الشان"    شيخ الطريقة القادرية البودشيشية في ذمة الله    موجة حر مع درجات حرارة تصل الى 48 بعدد من مناطق المغرب    وقفات مغربية تواصل مناصرة غزة    مشروع قانون المالية 2026.. تعزيز استدامة المالية العمومية ودعم النمو المستدام ضمن رؤية ملكية شاملة    تداولات بورصة البيضاء تنتهي بالأخضر    الحضري: بونو يستحق الأفضل في العالم    واشنطن توضح سياسة "رسوم الذهب"    "أولمبياد تيفيناغ" .. احتفاء بالهوية عبر منافسات تربوية في الحرف واللغة    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    المغرب يحتفي بأبنائه في المهجر ببرامج صيفية تعزز الانتماء للوطن وتواكب ورش الرقمنة (صور)    قادة دول ورجال أعمال يلتمسون ود ترامب بالذهب والهدايا والمديح    المعرض الوطني للطوابع والمسكوكات يتوج نسخته الثانية في مدينة خنيفرة بندوة علمية حول تاريخ النقود والبريد    عيطة الحال ... صرخة فنية من قلب البرنوصي ضد الاستبداد والعبث    الرباط تحتضن النسخة الأولى من «سهرة الجالية» بمناسبة اليوم الوطني للمهاجر    وفاة طفل غرقاً داخل حوض مائي بإقليم الحسيمة    ارتفاع صاروخي في صادرات الطماطم المغربية نحو إسبانيا بنسبة 40%    الشرطة توقف طبيبا متلبسا بتلقي رشوة 3000 درهم مقابل تسريع خبرة طبية    موجة حر تصل إلى 48 درجة وزخات رعدية مرتقبة في عدد من مناطق المملكة    قتيل ومصاب في انهيار بمنجم إميضر    رحيل الفنان المصري سيد صادق عن عمر 80 عاما في وفاة مفاجئة    الجمارك المغربية تجدد إجراءات الرقابة على المعدات العسكرية والأمنية    بطولة إسبانيا.. مهاجم برشلونة ليفاندوفسكي يتعرض للإصابة    مدافع برشلونة إينيغو مارتينيز في طريقه إلى النصر السعودي    المغرب في قائمة الوجهات الأكثر تفضيلا لدى الإسبان في 2025    بلدية إسبانية تتخذ قرارا مثيرا للجدل بحق المسلمين    بطولة أمم إفريقيا للمحليين.. بوابة اللاعبين المحليين صوب العالمية    مقاييس الأمطار المسجَّلة بطنجة ومناطق أخرى خلال ال24 ساعة الماضية    وفاة الفنان المصري سيد صادق    المغرب يصدّر أول شحنة من القنب الهندي الطبي نحو أستراليا        قتيل بضربة اسرائيلية على جنوب لبنان    لطيفة رأفت تعلق على "إلغاء حفلين"    النجم الحساني سعيد الشرادي يغرد بمغربية الصحراء في مهرجان "راب افريكا"    السلطات تحجز بالفنيدق طنا من البطاطس مجهولة المصدر وغير صالحة للاستهلاك    العربيّ المسّاري فى ذكرىَ رحيله العاشرة    واشنطن تعلن عن جائزة 50 مليون دولار مقابل معلومات للقبض على الرئيس الفنزويلي    سان جرمان يتوصل الى اتفاق مع ليل لضم حارسه لوكا شوفالييه    مدرب الرجاء يمنح فرصة لأبريغوف    "أوبن إيه آي" تقوي الذكاء الاصطناعي التوليدي    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    مسؤول أممي يرفض "احتلال غزة"    المغرب على رادار البنتاغون... قرار أمريكي قد يغيّر خريطة الأمن في إفريقيا    أطروحات يوليوز    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    عمليتا توظيف مالي لفائض الخزينة    المغرب يواجه ضغوطا لتعقيم الكلاب الضالة بدل قتلها    تسجيل 4 وفيات بداء السعار في المغرب خلال أشهر قليلة    "دراسة": تعرض الأطفال طويلا للشاشات يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب    من هم الأكثر عرضة للنقص في "فيتامين B"؟        الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    من الزاويت إلى الطائف .. مسار علمي فريد للفقيه الراحل لحسن وكاك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سرير الأسرار
رواية الكائن المهمّش بامتياز

"سرير الأسرار" الرواية المغربية الصادرة حديثا عن دار الآداب اللبنانية التي ودّعنا منذ أيّام صاحبها الألمعي الذي لا تعوّض خسارته، الأديب الكبير سهيل إدريس، تحدث وقعا سحريا عجيبا في المشهد القرائي للنّصّ الروائي العربي المعاصر. والحقّ أني سمعت عن الرواية عبر الخبر المتسرّب قبل أن تصلني أخيرا وأخبر فحواها. فقد شاع الحديث في النوادي عن ميلاد روائي تطواني جديد ينضمّ إلى لائحة المبدعين الذين شقّوا الطريق لإغناء أنطلوجيا الكتابة السّردية التي يزدان بها المشهد الثقافي لهذه المدينة المغربية الموسومة بفيض الحضارة وعبق التاريخ. هذا الّرّوائي، وصاحب هذا العمل، هو كاتب قادم من الهامش بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معان ودلالات. هامش الانتماء للحارة والنشأة في أحضانها، وهامش الانتساب الوظيفي إلى حقل مغاير للمسار الثقافي الأساسي الذي رسمه التكوين العلمي والثقافي للمبدع باعتباره خرّيج معاهد الدراسات الأدبية والقانونيّة . علما بأنّ المجال الذي عوّدنا على جديد الإبداع القصصي والرّوائي في هذه المدينة، هو مجال الممارسة في حقل التربية والتعليم الذي أنجب أسماء لامعة من قبيل محمد أنقار وأحمد المخلوفي وخالد أقلعي ومحمد برحو، وغيرهم ممن لا زالوا يسعون إلى إثراء مجال الحكي وينهلون من كنوز المدينة الحضارية وألوانها الثقافية، ويستلهمون نماذجها البشرية سليلة العوالم السحرية.
أمّا الأستاذ البشير الدامون مبدع "سرير الأسرار" فهو موظّف بقطاع البريد والاتصالات، وهو المجال الذي يحتكم إلى تقنية التسيير والتدبير أكثر مما يرتهن إلى كفايات اللغة وتشغيل قدرات الكلام. بيد أنّ هذا الرّوائي الواعد أبى إلاّ أن يمنحنا المتعة التي طالما افتقدناها كقرّاء للأدب، متعة القراءة لمحكيات جذورها متأصلة في تربة الواقع العياني المحلّي المحدود، ولكن فروعها تمتدّ عبر أعماق الوجدان الكوني الصّادق الذي يستمدّ ألقه وصفاءه من بساطة الكائن المهمّش الذي يكتوي بنار القهر ومعاناة الغبن من جرّاء سوء تدبير القيم.
إنّها حقّّا متعة المفاجأة باستقبال مولود إبداعي جديد تشكّل عبر مواثيق ضّمنية بين كاتب متحرّر من ضغط الرّقيب الذي يحصي الأنفاس، ومتلقّ ملّ من قراءة الاجترار والتّسطيح والتعتيم، ويطمح إلى الجديد المشرق الطّالع من بقايا الرّماد.
"سرير الأسرار" عمل روائي شيّد معماره من خلال ركوب مغامرة الكتابة الواقعية التي تقتضي البوح والكشف عن العلامات المختزلة للسّنن الاجتماعي، واختبار اللغة القياسية ثمّ إعادة إنتاجها وفق أنساق اللغة التعبيرية التي تلامس الجوهر الإنساني وتطبعه بصدق الشعور. والسّارد في "سرير الأسرار" مؤنث، وهو يتماهى بالشخصية الحكائية المحورية. فيتعيّن من جراّء ذلك انطلاق البنية السردية من الدّاخل المحكي صوب الحكي الخارجي، حيث تسلّط عدستها على كلّ شاردة طريفة تستقيم من خلالها الرؤية الواقعية التي يتوق المتن الحكائي إلى عرضها وبسطها للقارئ. والرؤية هنا برغم استنادها إلى مواصفات الفضاء النّوعي الذي يستدعي جغرافية المكان الواقعي كشرط أساسي، عبر توظيف ثيمة الحارة ذات الملمح الاجتماعي الثقافي المتميّز، فهي لم تسقط في الطابع التسجيلي المباشر الذي قد يقع في شركه كثير ممن كتبوا عن الحارة من منطلق تغليب العرض الوصفي على المحكي الخيالي. ولعلّ مقدرة الكاتب على حفظ الانسجام في تقمّص الأنثى السّاردة والأنثى الشّخصية البطلة، و في تعاطيه مع الفضاء بأبعاده المكانية والزمانية والشّعورية، لدليل على قدرته الفائقة على الإمساك بالمحكيات وتطويعها وفق ما تقتضيه الأوضاع السّردية.
ويبلغ حجم الرواية 222 صفحة، وقد كانت الفرضية الأولى التي وضعتها من خلال ملاحظة هذا الكم الطباعي أن يسود التفكك والتنافر لغة الحكي ومتن المحكيّ، ولاسيما أنّ المبدع يخوض تجربة كتابة الرواية كمغامرة غير مسبوقة بالتجريب في مجالات الحكي الأخرى، خلافا لما ألفناه من تعدّد مسارات التجريب لدى الجمهور من كتّاب السّرود. ولقد شدّني حرص الرّوائي على تحقيق شرط الانسجام والتماسك في الكتابة حينما وجدت خيوط التنامي السردي تتضاعف وتتقوى من خلال مجموع المقاطع السّردية الفرعية التي تغذّي اللوحة الأساسية لمحكيّ الرّواية. وتعرض هذه اللوحة حكاية صبيّة لقيطة وجدت نفسها تعيش في فضاء اجتماعي تطوّقه مظاهر البؤس والشّقاء في اتصالها بأبعاد الرذيلة والانحراف. ومع ذلك فالطّفلة البريئة تعكس سمات الطّهر ولا تعدم أن تجد أيادٍ تمتدّ إليها بالعطف والرّحمة من قلب هذا الوسط الفاسد، بل وتتعهّدها بحسن الرعاية وتحاول تجنيبها سوء المآل. بيد أن توفّر أسباب الكبح والممانعة لدى هذه الأنثى المتلاشية الجذور لن تمكّنها من الصّمود طويلا أمام دواعي الانجراف، وبقدر ما تجنّبها السّقوط في الانحراف والرّذيلة بقدر ما تزرع فيها بذرة الانكسار النفسي وتحيطها بالمخاوف والشكوك. وتخدم هذا المسار الحكائي المتنامي عبر فضاء النص وفضاء المحكيّ بؤر سّردية مغمورة بفيض الوجدان وبلواعج البؤس والأسى. فحكاية "المهداوية" الفتاة القروية مجهولة الأب التي نبذها مجتمع القرية ودفعها إلى الانسحاب مكرهة من مسرح الحياة، تتماهى وضعيتها مع وضعية البطلة، إذ تؤسّس ملامحها لتحوّلات جذرية في مسار الحكي، وترسم حدوسها النهاية القاتمة للرّواية (2). وتدعّمها حكاية "كارمن" الاسبانية الهاربة من أصولها الحضارية إلى أصول بديلة تتماشى مع فلسفتها في الحياة، فتسحقها حياة المهمّشين.(3) وحكاية "جميل" الفتى الوسيم الذي تعلقت به البطلة في ظل معاناة حبّ عفيف، يصدم هو الآخر بحقيقة انحرافه، ويعمل على تكسير مثال الرّجولة الافتراضية المعوّضة للأب المجهول.(4) ثمّ أخيرا حكاية (علي) الفتى القادم من القرية مهد الصّفاء، جالبا معه مشعل النور والأمل لاكتساح الظلمة وتطهير الكينونة. ولكنّ البصيص رغم الجهارة يخبو لأنه أعجز من أن يخترق كثافة الظلمة. فتخبو معه آخر خيوط الأمل ( 5).
كلّ هذه البؤر السّردية في علاقتها بأصولها وامتداداتها كفيلة بأن تفجّر عبر مسار الحكي كنه التّحول في مصير البطلة، وبأن تقودها إلى حيث تدفن فطنتها وذكاءها وأحلامها وصفاءها النفسي في هذه التربة الآسنة تربة الهامش المنسيّ.
وختاما أجدني ملزما بعرض المساءلة التالية: هل ثمّة علاقة افتراضية بين الجسد الأنثوي والعمل الفنّي تترصّها هذه الرواية، لاسيما وأن المبدع يعتمد قناع الأنثى ويستفرغ من خلاله منظور السّردي والحكائي معا؟
ولعلّ بوادر الإجابة قد تترجمها هذه القولة للباحث الكندي (يانيك ريش) (الشخصية الأنثوية تبلور مواجهة الأشياء ومواجهة العالم بشكل حميمي يلخّص رغبة الحياة )(6) ومؤدّى ذلك أن ّ الصّوت الأنثوي يعكس تمثّلات الحياة في أبعادها الحميمية، ويرتّب في واجهة الواقع موقعا لمنطق المرأة الذي يميل إلى الفضح والتّعرية وكسر الحواجز التي قد يتلذّذ المنطق الذّكوري بوضعها لتطويق صوت الإدانة. ولعلّ عنوان الرّواية "سرير الأسرار" مؤشّر دالّ على هذا المنحى الأنثوي المشاكس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.