الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    البطولة: اتحاد طنجة المنقوص عدديا ينتصر على نهضة بركان    مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ناصيف نصار وأسئلة العصر قراءة في آخر إصداراته
نشر في طنجة الأدبية يوم 12 - 10 - 2011

قضايا عديدة وملحة يتناولها بالدرس والتحليل كتاب المفكر اللبناني ناصيف نصار "الإشارات والمسالك: من إيوان ابن رشد إلى رحاب العلمانية"، منها النظرة إلى التراث النقدي للثقافة العربية الإسلامية، مسألة التواصل الفلسفي، حقوق الانسان، سلطة الدولة، والعلمانية. رشيد بوطيب يقدم لنا قراءة نقدية في أهم أفكار هذا الكتاب.
يبدأ ناصيف نصار كتابه بتفكيك العلاقة شبه البكائية مع فيلسوف عربي قديم إسمه ابن رشد، ونحن نتحدث هنا عن علاقة المفكر العربي المعاصر مع ابن رشد. وقد كانت المستشرقة الألمانية آنكه فون كيكلغن قد درست حضور ابن رشد والرؤى المخلتفة إلى فلسفته داخل الفكر العربي المعاصر في القرن العشرين دراسة نقدية، مستفيضة وسلطت الضوء أيضا على البعد الأيديولوجي لهذه العلاقة أو بالأحرى لهذه العلاقات القائمة مع فلسفة ابن رشد، والتي كان يهدف أغلبها إلى استثمارها من أجل خلق حداثة عربية و مجابهة قوى المحافظة والتقليد . لكن موقف ناصيف نصار هنا يختلف جذريا عن تلك المواقف التي يمكن أن ننعتها وفي لا حرج ب "التأرخخ"، فتجاوز التراث لا يمكن أن يمر بالعودة إليه بل بالقطيعة معه، وأعني التراث الميت الذي لم يعد يربطنا به شيء وأضحى نسيا منسيا، والذي قد يكون موضوعا للدراسة في مجال تاريخ الأفكار كما ندرس الإليادة والأوديسا ولكن لا يمكننا البتة التفكير به ومن خلاله في قضايا عصرنا.
ثم ما التراث بالنسبة لي اليوم؟
أليست الثورة الفرنسية وتراثها الفكري الذي أسس للحداثة أحق بالعودة إليه والإصغاء له والاستفادة منه من تراث ابن رشد أو ابن خلدون؟ من حق ناصيف نصار أن يحذرنا من القراءات المدائحية، وأفضل في هذا السياق، استعمال تعبير أكثر دقة: "القراءة البكائية للتراث"، لأن الأمر بلغ حالة العصاب، وفعلا يصيب حين يبين بأن دفاع ابن رشد لم يكن عن الفلسفة عموما، بل عن فلسفة هدفها النظر في الموجودات وفي علاقاتها بالصانع، وبلغة أخرى معرفة الله. فالفلاسفة هنا ليسوا أكثر من ورثة للأنبياء، و الفلسفة محصورة في البعد الديني، لا ممارسة حرة للعقل، بل ممارسة مقننة بالشرع لا تتجاوز أفقه أو نفقه، هدفها الإثبات لا الاختلاف والتبرير لا التفكيك، تستمد شرعيتها من الشرع لا من العقل، وتنادي "بقتل الزنادقة"، أي بقتل الخارجين عن الحقيقة الشرعية.
فأي فلسفة رشدية يريد عابد التراث بعثها من الموت؟ ولا عجب إذن أن يعنون ابن رشد أحد كتبه ب "بداية المجتهد"، إذ الأمر يتعلق بمجتهد لا بمفكر، والاجتهاد "مصطلحا" و"ممارسة" و"وجهة نظر" في السياق الثقافي الإسلامي، تفكير مقيد، وليس بتفكير حر، قد يلجأ إلى القياس لكنه يرفض حتى اعتبار الإجماع كمبدأ مستقل، "لأن ذلك يعني إضافة قانون بشري خالص إلى الشرع المنزل" كما أوضح نصار منتقدا ابن رشد. فهل يحق لنا أن نقول مع محمد عابد الجابري في "نحن والتراث":"ما تبقى من تراثنا الفلسفي، أي ما يمكن أن يكون فيه قادرا على أن يعيش معنا عصرنا، لا يمكن أن يكون إلا رشديا"؟ قطعا لا، فلم يتبق شيئ من تراثنا الفلسفي يمكننا أن نستعين به لحل مشاكل عصرنا، ليس المجتهد من نحتاجه اليوم ولكن الفيلسوف، هذا الفيلسوف الذي يجب أن ننجزه في علاقتنا بالآخر، واستعدادنا للتعلم منه، في ممارستنا للنقد المزدوج. علينا أن نركن قليلا إلى التواضع ونعترف بأننا لا نملك في التراث شيئا يساعدنا على مواجهة أسئلة عصرنا، وحين أقول بالقطيعة مع التراث، لا أعني قتله ونسيانه ولكن أعني التعامل معه في سياقه التاريخي وعدم إخراجه من هذا السياق ومحاولة فرضه على سياق آخر، له شروطه وأسئلته المختلفة، فإذا أخذنا قضية الدين مثلا، باعتباره جزءا من التراث ومن راهننا أيضا، فأن نفهمه في سياقه اليوم، يعني ضرورة أن نفهمه بشكل مختلف، وإلا تحول إلى عقبة حقيقية، وأعني بشكل مخلتف أن نفهمه كما يفهمه اليوم الانسان الغربي كعلاقة شخصية مع الله، وليس كمشروع للانقضاض على السلطة، وقس على ذلك من قضايا مشابهة وملحة، كشكل الدولة والعلاقة بين الجنسين والتربية إلخ.. ولكن حتى نعود إلى ابن رشد مرة أخرى، أريد أن أشير إلى قضيتين أسايتين، تتعلقان إلى حد ما بموقف ناصيف نصار من فيلسوف قرطبة. فأولا ورغم تأكيده وتوضيحه القاطع على ارتباط الفلسفة بالشرع لدى ابن رشد وانحصارها خلف جدرانه، إلا أنه يرى في آخر ما كتبه عن هذا الفيلسوف في كتابه بأن هناك ما يستحق الأخذ به لدى ابن رشد وهو دفاعه عن مبدأ كونية الفلسفة وبأنه لا قومية لها، وهوكلام مردود لسبب واضح وهو أن حصر دور الفلسفة في مجال النظر في الموجودات وعلاقتها بالصانع أفرغ الفلسفة من كل بعد كوني، وعطل فعل التفلسف الحر من قبل الشروع فيه، فشرط الكونية هو الاستقلال العقلي وحرية ممارسة النظر في الصانع وغير الصانع، ودفاع ابن رشد عن العودة الى كتب القدماء، وإن تميز بنوع من التسامح مقارنة بأهل عصره، إلا أنه لا يؤسس لاستقلال فلسفي حقيقي، فالنظر في كتب القدماء واجب شرعا، وفي ربطنا للنظر بالشرع نعمل من حيث لا ندري على اعتقال النظر داخل الشرع، أو نحن نمارسه انطلاقا من مسلماتنا الشرعية وأحكامنا الدينية المسبقة بشكل لا يسمح لهذا النظر أن يؤسس لحقيقة مختلفة، فالأمر أشبه بعوليس الذي كان بعد كل مغامراته يعود دائما إلى إيتاكا، وهذا شأن المجتهد، قد يشطح في كل اتجاه لكنه يعود خاضعا ليقبل يد الشرع. القضية الثانية، التي نختلف فيها مع نصار ونتفق فيها جزئيا مع ابن رشد، وهي تأكيده أن"ّالعقل عاجز عن إدراك بعض الحقائق في الشرع المنزل، وأنه يجب قبول الشرع وتقبله، بمبادئه الميتافيزيقية.. "، أقول جزئيا، لأني أريد الاحتفاظ هنا فقط بمسألة عجز العقل عن معرفة كل شيء، وليس بالمعنى الرشدي الضيق، الذي يوصم العقل بالعجز حتى يحرمه من الشك. وبلغة أخرى، قد نتحدث انطلاقا من ابن رشد وضده عن "عقل ضعيف"، أي عقل واع بقصوره وأخطاءه ونسبية حقائقه، لكنه في الآن نفسه منفتح على الشك ليس فقط بالشرع ولكن بنفسه أيضا وقدرته على إدراك كل شيء. طبعا لم يكن ابن رشد ليؤسس لهذا "العقل الضعيف"، بالمعنى الابستمولجي والأخلاقي للكلمة. ولم يتوقف ناصبف نصار عند ابن رشد وسؤال راهنيته، بل عرج أيضا على رمز من رموز الفكر العربي الكلاسيكي، اهتم به عديد من المفكرين العرب في القرن العشرين. ويرى نصار أن ما يثير إعجاب العرب اليوم بفكر ابن خلدون، إنما هو "استمرار الماضب الي فسره في حاضر العرب اليوم" وهي استمرارية لها علاقة باستمرارية "ثنائية العمران البدوي والعمران الحضري وظاهرة العصبية المنتجة للملك والاستبداد فاعلتين عبر التراث الحي في تورايخ شعوبهم". لكن نصار يعتقد أنه من الخطأ اعتبار الخلدونية كافية لوحدها لتفسير حاضر التخلف العربي، وهو يتفق في ذلك مع عبد الله العروي وما كتبه في "ثقافتنا ي ضوء التاريخ": "جاء ابن خلدون في نهاية حقبة من التاريخ الإسلامي وفحصها بعد أن صارت قطعة هامدة لم يعد في إمكان أي أحد أن يعير فيها شيئا. لا عجب إذا وجدها خاضعة تمام الخضوع لأحكام الطبيعة، ورأى فيها نهاية محتومة لقوة طبيعية تظهر، فتنمو، ثم تنقرض. استخرج من هذا التشريح مقاييس لتمحيص الأخبار المروية عن تلك الحقبة ولم يهدف إلى أي نفع آخر".
مفهوم التواصل وإشكالياته
رغم أن ناصيف نصار حصر فصله المعنون ب "التواصل الفلسفي والمجال التداولي" في دراسة مفهوم التواصل داخل الفلسفة، إلا أن دراسته تسلط الضوء بشكل غير مباشر على الأسباب الكامنة خلف إخفاق التواصل بين الثقافتين العربية والغربية. يتحدث نصار عن أهمية الصراع والتواصل في كل ثقافة، وحتى وإن كان يتبنى مفهوما تقليديا عن الاختلاف كمقوم للتواصل "يستلزم وجود حد من الاشتراك أو من التماثل بين الأطراف الداخلة فيه"، لأن الاختلاف المطلق في رأيي هو شرط التواصل، ودينامية التواصل كما بين نيكلاس لوهمان يضمنها الصراع، لا الإجماع كما يرى هابرمس، كما أن التواصل الدينامي لا يبغي إقناع الآخر وربطه بنظام الأنا، فالاحترام المتبادل بين أطراف التواصل، أهم من التقاءها عند حقيقة واحدة. ونصار يقول ذلك، وإن لم يكن يدرك أبعاده وهو يتحدث عن الاعتراف المتبادل بين طرفي التواصل، فالاعتراف أخلاق وليس معرفة، إنه لقاء بالآخر لا اتفاق معه، علاقة وليس بوعي. وبالفعل، فإن فعل التواصل القائم على الاعتراف يتصمن تجاوزا للأنوية وللمركزية الذاتوية كما بين ذلك أحد كبار فلاسفة الاعتراف الألمان آكسيل هونيث في كتابه "كفاح من أجل الاعتراف". يؤكد نصار ارتباط فعل التفكير بفعل التواصل، فلا تفكير بدون تواصل أو كما يقول "لأن الحق يقتضي، في جملة شروطه، شرط التواصل"، لكن ألا يخطئ ناصيف نصار حين يتحدث عن "طريق للاستقلال الفلسفي" داخل الثقافة العربية إزاء الفلسفة الغربية؟ أي حين يحذرنا من التبعية؟ ألا يحق لنا أن نميز بين تبعية إيجابية وأخرى سلبية؟ أي بين تبعية مستلهمة ومنتجة وأخرى مستهلكة ومريضة؟ وألا يحق لنا أن نتساءل إن لم تكن تبعيتي، أنا العربي المتخلف حضايا، لغرب منتج للحضارة أصلح لي وللأجيال المقبلة من انغلاق على الذات وقبول بالمكتوب؟ ثم من قال بأن الفلسفة الغربية تهدف إلى السيطرة علي وهي في واقع الأمر لا تأبه بوجودي؟ ثم أليست سيطرة التخلف والقمع والتعصب الديني والطائفي أسوء من سيطرة الثقافة العربية المطالبة بحرية الانسان؟ إن الحديث عن الهيمنة الثقافية يخفي الهيمنة الحقيقية، هيمنة التخلف، وهو حديث يلغي كلام نصار عن التواصل من أساسه. فأي تواصل نقدي بين "الفلسفة العربية" والفلسفة الغربية، لا يجب أن يقوم على "مبدأ الشراكة" كما يريده نصار ولكن على مبدأ التعلم من الآخر والانفتاح عير المشروط عليه. لكن لننتقل الآن إلى الانتقادات الثاقبة التي وجهها ناصيف نصار لطه عبد الرحمن وما طرحه في كتابه "الحق العربي في الاختلاف الفلسفي" و فكرته عن "قومية الفلسفة"، وهي فكرة أقل ما يمكن القول عنها أنها بعيدة عن مفهوم نقدي وحر للفلسفة، لفلسفة لا ارتباط دينيا أو عرقيا لها. إن الباحث عن تأسيس فلسفة عربية، هوا باحث واهم، والوهم أقصر الطرق إلى التخلف، فهو واهم أولا، لأنه يطلب تأسيس فلسفة عربية عبر فك الارتباط مع الفلسفة الغربية، وثانيا لأنه يعتقد أن كل فلسفة ترتبط بهوية قومية محددة، في حين أن الفلاسفة عبر التاريخ كانوا أكبر المفككين لهوياتهم وثقافاتهم من سقراط، مرورا بكانط ونيتشه وانتهاء عند فوكو ودريدا وجيل دولوز. إن ما يدافع عنه طه عبد الرحمن ليس حقا في الاختلاف ولكنه حق التقوقع على الذات والتمترس خلف أقانيمها الواهية، إنه يدافع عن الحقد لا عن الحق وعن الانغلاق لا عن الانفتاح وعن البداوة لا عن المدنية، وهو بعيد أشد البعد في ذلك من رموز الفكر المغربي الذين كانوا رموزا للاختلاف داخل الفكر العربي المعاصر كمحمد عزيز لحبابي وعبد الكبير الخطيبي ومحمد أركون. محق نصار وهو يبين أن التواصل عند طه عبد الرحمن محكوم من "خارج الفلسفة"، لكن الفلسفة تخاطب الانسان، وهنا تمكن كونيتها، فأسئلتها تتمحور حول الانسان ووجوده، أصله ومآله، علاقته بالزمان وبقية البشر، إلخ.. وهي أسئلة تهيمن، حتى لو كان من يطرحها فيلسوف مسيحي ككيركغارد أو فينومينولجي كهايدغر أو وجودي كسارتر أو يهودي كليفيناس، لأنها فلسفات أو أسئلة لا ترتبط بقومية معينة. وحجاج طه عبد الرحمن بأن كل تفلسف مرتبط بسياق تاريخي واجتماعي معين، لا ينفي البتة كما بين نصار كونية الفلسفة، كما أنه لا يؤكد قوميتها، فالكونية لا تعني البتة التباث ولا تتعارض مع التاريخية، بل تمتح منها أسئلتها، كما أن ارتباط الفلسفة بلغة معينة، لا ينفي أهميتها بالنسبة لثقافات أخرى، وأذكر هنا مثلا بتأثير فلسفة التنوير الغربية على ثقافات عالمية مختلفة، منها العربية، وعلاوة على ذلك فإن اللغة تموت وتنقرض حين تتحول إلى سلاح أيديولوجي بيد القوميين، أي حين تفقد صلتها بالآخر/العالم.
"العلمانية انتصارا للعدل"
يؤكد ناصيف نصار بأن العلمانية مرتبطة بالتطور البشري، وأن النظرة الدينية نفسها تتأثر بهذا التطور وبالتغييرات التي ترافقه. ويرى نصار أنه إذا كان الصراع، الذي اتخذ أحيانا طابعا دمويا، هو المنهاج الذي اتبع في مواجهة الدين و"تسلطه" في الماضي، فإن العلمانية، جاءت لتتجاوز أخطاء المعسكرين: الديني والسياسي وترسم حدودهما، بشكل يضمن تعايش مختلف وجهات النظر إلى العالم، ويضمن من خلال ذلك التنوع الثقافي والتعدد الاجتماعي. لكن قبل أن أستمر في غرض أفكار ناصيف نصار بشأن هذه المسألة، لا مندوحة من الإشارة إلى سوء فهم وشطط كبير يعود في جزء منه إلى تعامل بعض وجوه الفكر العربي المعاصر، تعاملا لا نقديا ولا تاريخيا مع فلسفة التنوير ومفاهيمها، وهو ما نلمسه مثلا في اللعة العنيفة التي يستعملها وينتجها هؤلاء المفكرون، فحين يتحدث نصار، وغيره كثير، عن "تسلط للدين"، يعتقد القارئ بأن الدين غول كبير جاء لابتلاع البشرية، وهو أمر قد يصدق على الحروب الدينية في أوروبا ولكن لا يمكن يأي حال من الأحوال تعميمه على مناطق وتواريخ أخرى، والأصوب رغم ذلك هو الحديث عن استغلال سياسي أو دنيوي للدين. فالدين، ولنأخذ الإسلام مثلا، نص متعدد يتجاوز النص القرآني، بل القرآن نفسه لا يمكن الحديث عنه كنص مغلق، أي كنص منتج للعنف ونهائي، لأنه لا ينحصر في تأويل أو ترجمة محددة، بل وحتى قبل بحث مضمون القرآن، فإن شكله ذاته متعدد ومفتوح وملتبس، وتكفي في هذا السياق الإشارة الى القرآت القرآنية المختلفة، وهو ما أوضحه بشكل كبير المفكر الألماني توماس باور في كتابه "ثقافة الالتباس: نحو تاريخ آخر للإسلام"، والذي يفكك جناية الحداثة الغربية ووكلاءها المحليين على تعددية الثقافة الإسلامية. إذن، لنقل بأن المواجهة لم تكن بين الحداثة والدين ولكن بين مجتمع بورجوازي أنتج قيما جديدة، ضد مجتمع فيودالي كان يحتكم إلى الدين بشكل متضخم أو بالأحرى يستغله للمحافظة وتبرير وضعه وسلطته، كما نختلف مع نصار، الذي يربط التقدم نحو العلمانية، بتعزيز "العقلانية المنتجة للعلم والفلسفة والصناعات.." لأن العلمانية ليست رؤية إلى العالم، بل نظاما إجرائيا لتنظيم العلاقة بين الدين والسياسة والمجتمع، وبشكل مرن ومفتوح ويقوم على مبدأ التعلم من الآخر. وحين نؤكد على إجرائية مفهوم العلمانية، فإن ذلك يعني أنه غير مرتبط ب "العلم" والتقدم العلمي بالضرورة، ولا ب "العقل" بما هما وجهتا نظر إلى العالم، بل هو "مفهوم "غير مفهومي"، أي حر من كل مضمون معرفي، أخلاقي، أو أيديولوجي. لهذا يتوجب رفض النظرة الثقافوية إلى العلمانية، فالتطور نحو العلمانية لا يمر جبرا، كما يعتقد نصار وآخرون "بنزع الصفة الدينية عن الدولة ونظامها" بل بالإنتقال من مجتمع تقليدي، متخلف، تضخم فيه دور الدين وأقحم فيه الله في كل مكان وفي كل قضية، من مجتمع يحمل الدين ما لا يتحمل، ويستغله كإله للثقوب، وصكوك غفران وصلاة استسقاء وقدر ومكتوب، إلى مجتمع متعدد، ولا أقول إلى مجتمع حديث، لأن الحداثة ليست أقل عنفا من التقليد، ومن شأن مجتمع التعدد، أي مجتمع تحكمه رؤى ضعيفة إلى العالم، أن يعيد إلى الدين "دينيته" المغتصبة.
حتما إن العلمانية لا تلغي الدين، كما يقول نصار، لكن مجرد وضع الدين في مواجهة الحداثة، والحديث عن العلمانية كتطور أفرزته الحداثة، ولهذا يظل مرتبطا ومحكوما بها وبأفقها، يفرع العلمانية من كل حياد، ويحولها إلى حقيقة، وبلغة أخرى إلى سلطة ضد الدين. ولهذا لا يخطئ الإسلامويون اليوم حين يماهون بين العلمانية وبين العداء للدين، لأن العلمانية كما مارسها النظام العربي الرسمي وكما نظر لها المفكر العربي القومي أو الماركسي أو الليبرالي، كانت محكومة بنوع من الحقد المرضي على الذات وتراثها الديني، وقد بين ذلك أيضا توماس باور في انتقاداته التي وجهها للحداثويين العرب. بقي أن نشير إلى قضية أساسية، لقد تحدث المفكر العربي الحداثوي وغير الحداثوي في جرعات كبيرة عن الدين، لكنه لم يعمد مرة إلى تحديد مفهومه، وهو ما تسبب ومازال بسوء فهم كبير. وقد نقول في شكل متسرع بأن الدين علاقة مزدوجة، فهو من جهة علاقة الإنسان بخالقه وهو من جهة ثانية علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وإذا كانت العلاقة الأولى محصورة في المجال الديني البحث، يحدد تفاصيلها وطقوسها وأبعادها الرمزية ، فإن العلاقة الثانية لا يعمل الدين أكثر من رسم عناوينها الأخلاقية الكبرى، فاتحا الباب، في لغة دينية، للاجتهاد بل و ل "النسخ"، أي للتجاوز. والعلاقتان متربطتنا بالفرد لا بالجماعة "فالله يخلقنا أفرادا ويحاسبنا أفرادا"، تقول إحدى شخصيات نجيب محفوظ، وترتبط العلاقة الثانية بمجموعة من الأوامر والنواهي الأخلاقية، التي تتميز بطابع كوني ونصادفها في أغلب الأديان، بل وفي أغلب الشرائع الوضعية. إن تحديد مفهوم واضح للدين، والاعتراف به كجزء لا يتجزأ من المصير الإنساني، أمر لا مندوحة عنه في طريق رسم معالم مجتمع متعدد، بل ومن أجل تحقيق فهم أفضل للعلمانية. إن نصار يقدم تعريفا تقليديا للدين، فالله الذي يطالبه بالطاعة، يطالبني بالعمل، وفي عملنا فقط نكون مؤمنين، والعمل هو العلاقة بامتياز، لأنه يشترط الآخر، وبلغة أخرى المجتمع والأخلاق. كما أن الله ليس سلطة مطلقة، وأًنى له أن يكون كذلك وأنا قادر على الإلحاد به وضرب أوامره ونواهيه بعرض الحائط. إن الإنسان مشارك للله في الخلق، كما كتب لحبابي في "الشخصانية الإسلامية"، ولأنه خالق، فهو حر في تقرير مصيره. الأصل في الدين الحرية، وإلا بطل شرط قيامه. إله ضعيف فقط يمكنه أن ينفذنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.