بقلم: محمد أبو غيور 430 سنة مرت على معركة وادي المخازن المجيدة، وهي فترة طويلة نسبياً.. كافية لتأملها من منظور تاريخي، لا من أجل أن يكون الاحتفال بها مقصوداً لذاته، وإنما لكي تكون دروسها حافزا للفعل ودافع لإنهاض الأمة ومواجهة المقبل من الأحداث والأيام.. إن الأهمية التي تكتسيها هذه المعركة المجيدة لا تتعلق بمضمونها العسكري ولا بالوضع الذي كان يحثه خطاب الجهاد الإسلامي النخبوي التحريفي والتحرري ضمن تسلسله الزمني التاريخي بل أيضا في كونها تمثل فاصلة كبرى في تاريخ أمة شاء القدر أن تكون في قلب احتدام الصراع من أجل البقاء.. وشاء القدر أن يكون فيها اليوم صراع مروع حول مستقبلها.. ونحن في حزب الاستقلال، حين نحتفل بهذه الملحمة الكبيرة فلاستقراء قيمتها التاريخية والتمعّن في محتواها.. موضوعها.. أسبابها.. ونتائجها ومن مختلف النواحي: العسكرية، السياسية، الفكرية، الاقتصادية، الاجتماعية. وبعبارة أخرى إننا أمام نصّ ملحمي، تاريخي بالغ الخطورة لأنه يصوّر جانباً من الشخصية المغربية التي حافظت على قيمها وجوهرِها الأصيل.. وخرجت من محنتها مع المدّ الصّليبي والاستعماري بعد ذلك أصلب عُوداً وأقوى عزيمة في مقارعة الأحداث والملمّات.. وبعبارة أخرى كذلك، إننا أمام نصّ ملحمي تاريخي بالغ الخطورة من زاوية التحول التاريخي في مجرى التطوّر المرتبط بتأسيس دولة قوية بمؤسساتها وعنصرها البشري الموحّد.. لها خياراتُها السياسية والاقتصادية المختلفة جذرياً.. خيارات الوسطية والتعادلية والديمقراطية التي تستقطب حولها كافة فئات الشعب المغربي الذي هو الرصيد الوحيد الحقيقي لمعركة بناء دولة المؤسسات الوطنية القوية وما يستلزم ذلك من تعزيز لأصالة الأمة وشخصيتها الحضارية وقيمها الدينية والروحية التي تحفز باستمرار على التقدم والإنتاج والإبداع.. إنها مناسبة إذن، في غاية الأهمية، تبقى بالنسبة لنا، بعيدة عن طابع الاحتفالية الفلكلورية والحماسة العاطفية عندما نفكر في هذا الحدث التاريخي الكبير ونستحضر أجواءه العظيمة اليوم.. .. إنها مناسبة تتطلب منا اليوم السمعي المثابر لبلورة مقومات لأصالة المعاصرة والهوية الخصوصية لأمّتنا بما يمكنها من الاستجابة الفعّالة للتحديات التي تواجهها حاضراً ومستقبلاً.. وبذل الجهود الواعية المنظمة لكسب رهان معركة الحاضر والمستقبل متعدّدة الأشكال، والإفصاح عن حاجة حقيقية وملحّة تتصل اتصالا وثيقاً بضرورة تحقيق مقومات العدل الاجتماعي واحترام كرامة الإنسان المغربي وتأكيد حقه في الحياة الحرة والكريمة وفي توفير كافة مستلزمات حياته الاجتماعية بما ينعكس على تفكيره ونفسيته وفي سياق مهامه وهمومه الكثيرة. نعيش أجواء هذه الملحمة البطولية الخالدة بكلّ ما ترمز إليه وتعنيه.. ملحمة اهتزت لها وقتئذ مشاعر المسلمين في أنحاء الأرض وانهارت في أعقابها امبراطوريات صليبية بكاملها وتوازنات محسومة بين الصليبية والإسلام. وإذا كان حزب الاستقلال، أول من تنبّه إلى هذا الحدث التاريخي الكبير وفهمَ بالضبط ما يرمز إليه وما يعنيه فذلك لأنه شعر أننا في مواجهة موقف يستدعي منه استشعار الأجيال الطالعة بمواضع القوة والأصالة من تاريخها وتبصيرها بالنقاط المضيئة من ماضيها المشرق، والهدف من وراء هذا كله أن نحقّق التوازن الذي كان يختل عندما افتقدنا أحد الرّكنين، وهو التراث الذي بدونه لا يستعيد الركن الثاني، وهو ركن المعاصرة توازنَهُ واستقراره المنشودين داخل أنفسنَا. لقد أصبح من أكبر الضرورات القوية الملحة خلق جيل مماثل للظرف الذي كان عليه المغاربة عند وقوع معارك المصير، ولا نستطيع أن نحمل المغربي على الدفاع عن أرضه وقومه ودينه ومبادئه ما لم يتعشقها ويحسّ بضرورتها وأهميتها، وإلاّ فإننا سنضع أنفسنا في طريق مسدود.. فالنصر الحقيقي لا يتم إلا برجال يتسلحون بالمبادئ النابعة من دينهم وقيمهم وبالشعور المقدّس بالولاء والانتماء، ولكي تكتمل القناعة في النفس المراد تنميتها وطنياً ودينياً واجتماعياً، يجب أن نحسن المقارنة، وعندئذ نعلم أن تاريخنا الطويل المجيد، قد قوى جزءاً من واقعِنا الحالي، وعالجَ الأجداد ذلك الواقع الأليم بأسلوبهم الثوري المعهود يومئذٍ وانتصروا على الأعداء الصليبيين، وهذا هو جدوى التاريخ العسكري لمعركة وادي المخازن ومغزى بعْثه في نفوس المواطنين لتنميتهم تراثياً، لمواجهة عالم مضطرب يتلاعب فيه الكبار بأقدار الصغار وفقاً لمصالحهم وهو موقف يحتاج إلى عقل واع ونظَر بعيد.. وإرادة عملُ شجاعة لمواجهة مخاطر الأحداث.. موقف يحتاج منّا إلى استخلاص الدروس من معركة وادي المخازن التي كانت قد وضعت الأمة أمام خياريْن: إما الدفاع عن الذات والحفاظ على مكوّناتها في إطار الإسلام، وإما التلاشي والذوبان، لقد كان للاستمرارية وفعالية الجهاد أبعاداً مهمّة في استنفار وسائل التعبئة الحقيقية قيادةً وقاعدةً. وفي تصميم المجاهدين أن عليهم مواجهة وهزيمة الجيوش الصليبية الغازية مهما كان الثمن. وهكذا تمكن المغاربة من طرد الغزاة الصليبيين. فكانت معركة وادي المخازن بحق نقطة تحوّل في تاريخ الجهاد والمقاومة أقنعتْ الجميع وقتنئذ بأنه يمكن التصدّي للعدوّ مهمَا كان تفوّقه العسكري وهزيمته إذا توفرت شروط المواجهة ومقوّمات التعبئة من كل وجوهها وإذا كانت لصالح الأمة ومن أجلها. ومن الواضح أننا في هذا العصر وتطوراته المهولة ذاتها تحتم علينا التمسك بالوحدة إذ من له هوية جماعية كبرى في هذا العالم يشارك في تقرير مصيره ومن يقْبعُ في جزء أو زاوية تدفعه الأمواج إلى الهامش. قال أحد فلاسفة التاريخ إن الأمم لا تسقط، ولكنها تنتحر. والانتحار يحدث عندما ترى الأمة خطراً مُحْدقاً بها فتغالِط النفس وتعلّلها بالأماني حتى تجرفها الخطوب. وهذا هو الدرس الذي علينا أن نتعلّمه من معركة وادي المخازن المجيدة.