فى الخامس والعشرين من شهر يوليو الفارط حلّت الذكرى العاشرة لرحيل الأديب، والصّحافي ،والوزير، والدبلوماسي محمّد العربي المسّاري رحمه الله ( من مواليد مدينة تطوان فى 7 يوليو 1936 ، والمتوفّى في الرباط فى 25 يوليو 2015). كانت تربطني بهذا المثقف الحصيف صداقة متينة ترجع إلى أوائل السبعينيّات من القرن المنصرم، منذ ان فقدنا هذا الصديق العزيز فقدنا معه جزءاً هاماً وغالياً من ذكرياتنا الغالية ،ومعايشاتنا المتواترة ، وصولاتنا، وجولاتنا المتكرّرة فى إسبانيا والمغرب وفي عالم الصحافة، والأدب، والثقافة، والدبلوماسية، والحياة. المسّاري وحرب الرّيف التحرّرية كان المساري مسكوناً، ومهووساً، ومفتوناً بالتنقيب الدؤوب في تاريخ الحركة الوطنية، أو ما أصبح يُسمّي بتاريخ المغرب الحديث ، وفي طليعته حرب الرّيف التحرّرية الماجدة ، وما زلت أتذكّر عندما كنت أحكي له بعضَ القصص، والحكايات التي سمعتها عن الوالد نجل شهيد معركة «أنوال» الخالدة المجاهد البارّ «مُوح نسّي أحمد الورياغلي، الأجديري، خطّابي» ، حول هذه الحرب الباسلة فكان يتابع كلامي باهتمام بالغ ،ويظلّ يُصغي بشغفٍ كبيرٍلما كنت أحكيه له من شغاف وأعطاف قلبي عن حياة هذا الشهيد الصّنديد الذي سأنشر عمّا قريب بحول الله رواية عن سيرة حياته واستشهاده تحت عنوان : ( عرين الأسُود ..تحت أشجار التّين والزّيتون ) . كان محمد العربي المساري المشمول برحمة الله قد كتب بالفعل غيرَ قليل من المقالات، والدراسات،والبحوث عن هذا الموضوع الحيوي الذي كان كثيراً ما يستأثر باهتمامه، ولن أذهب بعيداً فآخر كُتُبِه كان يحمل عنوان "محمد بن عبد الكريم الخطابي..من القبيلة إلى الوطن" . صديقٌ يستعصي على النّسيان هذا الصّديق الأثير كان أوّلَ من عيّنني مراسلاً من إسبانيا لجريدة «العَلم» المغربية عندما كان مديرها في الثمانينيات، وأوّل من فتح لي بطاقة خاصّة للتعويضات عن مقالاتي بها، وأوّل من دافع عنّى جهاراً أوائل السّبعينيات عند إنضمامي لإتحاد كتّاب المغرب، وأوّل من كتب مقدّمة ضافية عن أولى كتبي عن أمريكا اللاّتينية الذي يحمل عنوان «ذاكرة الحلم والوشم»: (قراءات في الأدب الأمريكي اللاتيني المعاصر)، وأوّل من إتّصل بي عند تعيينه سفيراً في البرازيل لأعمل إلى جانبه كشخص ثانٍ في هذه السفارة، وأوّل مَنْ هنّأني عند تعييني قنصلاً عامّاً في كلٍّ من جزر الخالدات، ومدريد، ثمّ سفيراً للمغرب في عدّة بلدان لأمريكا اللاتينية، وأوّل من كان يتّصل بي في العديد من المناسبات للمشاركة في مختلف اللقاءات، والندوات الثقافية والأدبية التي كانت تنظم داخل المغرب وخارجه، كما كنتُ أوّلَ من أهداه كتابَه «إسلاميات أدباء المهجر» عندما كان سفيراً لبلاده في البرازيل، وكنت أنا إبّانئذ أعمل كشخصٍ ثانٍ بسفارة المغرب بالمكسيك . هنا يكمن بيت القصيد ، فقد ظلّ هذا الكتاب الطريف قابعا بعناية في رفٍّ من رفوف مكتبتي بأجدير الحصين، وقد حالت مشاغل العمل المتواصلة التي لا ترحم ولا تنتهي، ومهام السّفر، والتنقل، والترحال خارج الوطن وداخله دون قراءته كاملاً قراءةً موفية ومتأنّية والإستمتاع به في حينه، وبعد أن إنتهى إلى علمي نبأ وفاة صاحب هذا الكتاب المرحوم المساري عُدتُ مهرولاً إلى مكتبتي لأبحث من جديد عن كتابه ، وأعدتُ قراءته بتأنّس بفيضٍ من المحبّة، والمودّة، والحنين، وبشعورٍ ممزوجٍ بهالات من الحسرة، والألم، والحزن على فقدان هذا الصّديق الغالي الذي إختطفته يد المنون فكانت هذه الافصاحات : المسألة الدينيّة عند أدباء المَهجر الأمريكي «إسلاميات أدباء المهجر» للمساري بحث ضافٍ حول ما أسماه ب «المسألة الدينية» عند أدباء المهجر الأمريكي. يشير في مستهلّ عرضه إلى أنّ الواعز الذي كان قد دفعه إلى وضع هذا الكتاب هو المحنة التي كان يعيشها إخواننا اللبنانيون بالخصوص في لبنان فى ذلك الإبّان ، بعد أن عاشوا قبلها في تلاؤم ووئام، بل وفي أمان وإنسجام «لا فرق بين مسلميهم ومسيحيّيهم إلاّ في الطقوس التي يناجي بها كلٌ منهما ربّه». مستدلاّ بشواهد تاريخية من الماضي على حدّ قوله ويشير أن المحنة التي عاشها لبنان آنذاك إنما هي أمر طارئ. وخير دليل في نظره هو التراث الذي يزخر به أدب المهجر في هذا السبيل. ويرى المساري أنّ أكثر من ما يوضّح هذا الإتجاه هو «التسامح والإخاء وسعة الأفق عند إخواننا مسيحيي المشرق، وما أنشدوه شعراً، وما كتبوه في مجال التغنّي بفضائل الإسلام»، فانكبّ على بحث وتقصّي إسلاميات شعراء المهجر، وكانت نتيجة ذلك جدّ غنيّة، كما يقول هو نفسه عند تقديمه لهذا الكتاب. ولقد صدّر المؤلف كتابه بتقديم ضافٍ حول أوّل مظهر من مظاهر الأدب المهجري التي إسترعت إهتمام القارئ أو الباحث، وهو مدى إعجابهم وتغنّيهم بفضائل وأخلاق الرّسول الأكرم، فيما أطلق عليه ب «المولديات» ( نسبة إلى المولد النبوي الشريف). خطب وكلمات وأشعار يستدلّ الباحث في هذا الباب بالعديد من شعراء المهجر بعضهم معروف لدى الدارسين، وبعضهم الآخر تعرّض لهم لأوّل مرّة بفضل حسّه الأدبي الرّفيع، وفضوله العلمي، وتقصّيه وتتبّعه بدون هوادة لغير قليل من المراجع والمظانّ مغتنماً وجوده في البرازيل، وإنكبابه ودراسته لكثير من المصادر، والوثائق والمراجع والخطب والكلمات. ويورد المساري عشرات الأبيات المؤثّرة والبليغة في التغنّي بمولد الرسول الكريم خاصّة لدى كتاب وشعراء المهجر المسيحيّين بالذات، وأوّل إستدلال أورده في هذا الصدّد كلمات للشاعر المهجري الكبير «جبران خليل جبران» التي يقول فيها: «خذوها يا مسلمين كلمة من مسيحيّ أسكنَ يسوعَ في شطر حشاشته ومحمّداً في الشطر الثاني». ويقول «حسني غراب» وهو من شعراء المهجر في البرازيل في أحد المولديات : شعلة الحقّ لم تزل يا محمّد / منذ أضرمت نارها تتوقّد جئت والناس في ضلال وغيّ / وسيف الهدى في يديك مُهنّد ويقول الشاعر نصر سمعان: بزغت فحيّت الجوزاءُ مهدك / وأعلنت فوق مجد الشمس مجدك وكلّ فمٍ له الفصحى لسان / يردّد بعد حمد الله حمدك ويشير الفقيد إلى أنّ تغنّي الشعر المهجري بمكارم الرسول ينطلق في نظره من فكرة تكريم أبرز إسم في تاريخ العرب تتجلّى فيه معاني العزّة، والإفتخار، بماضي الأمّة العربية. فضلاً على أنّ هذه الأشعار «ترمي إلى التبشير بفضيلة التسامح، والتحذير من التفرقة والتباعد والتنابذ ، « كما تهدف إلى ترسيخ مفاهيم النهضة القومية التي تقوم على قاعدة عاطفية جدّ قويّة. ويشير المسّاري فى هذا القبيل إلى أن "الجمهرة الغالبية من المهاجرين كانت وما تزال من المسيحيين، وهؤلاء كما هو مكرس في تاريخ تكوّن المهاجر العربية في الأمريكيتين نزحوا بدافعيْن إثنيْن هما البحث عن تحسين العيش، والبعد عن الإضطهاد وخاصة أيام الحكم العثماني". ويورد صاحب الكتاب معلومات طريفة إعتماداً على مذكرات أوّل قنصل عثماني في أمريكا اللاتينية (نشرت عام 1934) وهو أمين أرسلان الذي يشير إلى أن عدد العثمانيين أو الأتراك (وهذا هو الإسم الذي كان يطلق على المهاجرين العرب نظراً لكونهم جاءوا يحملون جوازات سفر تركية في ذلك الإبّان) وهم أساساً السوريون واللبنانيون والفلسطينيون، كانوا في عهده مائة ألف في الأرجنتين وحدها، وأكثر من ذلك العدد كان موجوداً في البرازيل، ويورد الكتاب معلومات قيّمة حول الهجرة العربية إلى بلدان أمريكا اللاتينية بشكل عام. التميّز الثقافي عند المهجريّين وتحت باب التميّز الثقافي المهجري في بيئته الجديدة يسوق الكاتب بعض الفقرات من الكلمات أو الدراسات التي سجّلها بعض الكتّاب وضمّنوها إنطباعاتهم حول العالم الجديد. ومن أطرف ما أورده في هذا السياق فقرة من مقال لأمين الريحاني حول مدينة نيويورك العملاقة منها: "أحشاؤكِ من حديد، وفيها عقمة، صدرك من خشب وفيه سوسة، فمكِ من نحاس وعليه صدأة، جبينكِ من الرّخام وفيه جمود، تشربين ذوب الإبريز، وتأكلين معجون اللّجين، وتنتعلين أجنحة العلم، أمّا قلبكِ فقار يشتعل" . كما يتحدث المؤلف المشمول برحمة الله عن الفطرة العربية لدى المهاجرين التي كانت أقوى عند الأديب المهاجر. وينقسم هذا الكتاب إلى عشرة أبواب منها: «التميّز الثقافي المهجري في بيئته الجديدة، التحرّر الديني، التبشير بالتسامح، التصدي للطائفية، إحترام الرابطة القومية، الإسلام ومحمد والقرآن عند أدباء المهجر، ومواكبة حثيثة لمشاغل أدباء المهجر، التغنّي ببطولات العرب» ثمّ خصّص المؤلف باباً قائماً بذاته للنصوص التي تتضمّن اشعاراً وكلمات وخطباً ومقالات. ويصل بنا الباحث بعد ذلك إلى موضوع كتابه الرئيسي وهو الإسلام ومحمد والقرآن عند أدباء المهجر، حيث يتناول إسلاميات أدباء المهجر المسيحيين، ويشير المؤلف إلى أنّ «المادّة في هذا الباب جدّ غزيرة، ومبعثها هو نبذ التمييز، والتبشير بالتسامح، ورفض الطائفية والتعلّق بالعروبة (كذا) والتغنّي بها، ويورد الكاتب في هذا الصدد بعض الأبيات التي تشير إلى هذه المعاني، كما أن الصّور الإسلامية ترد بسلاسة في شعر المهجريين المسيحيين على وجه الخصوص ، ويورد في هذا القبيل أبياتاً للشّاعر اللبناني الكبير «إليا أبي ماضي» التي يقول فيها: وطن النجوم أنا هنا / حدق أتذكر مَنْ أنا أنا ذلك الولد الذي / دنياه كانت ها هنا أنا من مياهك قطرة / فاضت جداول من سنا كم عانت روحي رباك / وصفّقت في المنحنى للّيل فيك مُصلّيّاً / للصّبح فيك مؤئّنا ويشير المؤلف إلى أنّ العرب من مهاجري البرازيل كوّنوا أندية لجمع شملهم كانت تعتني بإقامة حفلات في المناسبات الوطنية والثقافية، ومع الأيام صار تقليداً ثابتاً في تلك النوادي وهي أساساً للمسيحيين، وهم الجمهرة الغالبية في المهجر، الذين لا يتوانون في تنظيم إحتفالات بمناسبة عيد المولد النبوي وندر أن تجد شاعراً مهجريّاً لا يشارك في هذه المولديات. ويقوم بعد ذلك الباحث المساري بإجراء تحليل ضافٍ وعميق لمعظم القصائد التي تضمّنها كتابه حول المولد النبوي الشريف، وينتهي إلى القول: "إنّ الأديب المهجري تناول الموضوع الإسلامي بإعتباره تراثاً متوارثاً، معبّراً في الوقت نفسه عن إحترامه لجانب العقيدة، ومجاملة لإخوانه العرب المسلمين". وقد ضمّن الباحث كتابه منتقيات ومختارات من القصائد حول الشعور الديني لدى هؤلاء الشعراء المهجريين، فضلاً عن نصوص حول الموضوع نفسه تتضمّن مقطوعات نثرية من خطب وكلمات ومقالات ومداخلات فى مختلف المناسبات . ولا شكّ أنّ القارئ يدرك مدى الجهد المبذول في هذا الكتاب من طرف المؤلف سواء في الدراسة الرّصينة التي تصدّرته، أو في بحثه وتقصّيه للعديد من المراجع، والمصادر، والمظان، والوثائق، والمراسلات، والصحف، والمجلات، والدواوين، والكتب المهجرية بشكلٍ خاص. ولا ريب كذلك أنّ موضوعه هذا سوف يفتح الباب على مصراعيْه للباحثين في الأدب المهجري، والواقع أنّ المؤلّف الباحث لم يحصر بحثه في إسلاميات شعراء المهجر وحسب كما يبدو من عنوان الكتاب، بل إنه تجاوزه إلى مواضيع أخرى شيّقة وطريفة متعدّدة، لها صلة بالهجرة العربية، والإغتراب إلى الأمريكيتين الشمالية والجنوبيّة. وعليه يعتبر هذا كتاب المساري إضافة نوعية قيّمة للمكتبة العربية، ومرجعاً هامّاً لا محيد عنه للدارسين، والمتتبّعين للأدب المهجري، والهجرات العربية والاغتراب (للمسلمين وللمسيحيين على حدٍّ سواء) في القارة الأمريكية بشكل عام في شقّيْها الشمالي والجنوبي ، وفي البرازيل بشكل على وجه الخصوص . رحم الله الفقيد الصديق العزيز الذي كان دبلوماسياً حاذقاً، إلاّ أنّ هذه الدبلوماسية لم تلهه قطّ، ولم تشغله أبداً، ولم تثنه البتّة عن الخوض في غمار الثقافة، والعلم، والأدب، والصحافة، والإعلام، والكتابة، والتأليف، و البحث العلمي والتأريخ. -كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.