كل ما خلق الله من مخلوقات فقير، فقراً ذاتياً، إلى خالقه سبحانه. (ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد) (سورة فاطر: 15) ومقتضى فقر المخلوقات، والغنى المطلق للخالق، ألا يدعو أحدٌ إلا الله. فضلا عن أنّ الضرّ لايكشفه إلا هو، مثلما أنّ النفع لايجلبه إلا هو. قال تعالى في سورة الإسراء: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضرّ عنكم ولاتحويلا. أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربّهم الوسيلة ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إنّ عذاب ربك كان محذورا [الإسراء: 56 57]. بعضُ الناس إذا حزبهم أمر، وضاق بهم الحال، يفزعون إلى دعاءِ الأولياء معتقدين أنّهم بدعائهم سيكشف ضرّهم، ويتيسّر حالهم، وتزول شدّتهم. والحال أنّ هؤلاء الأولياء هم أشدّ الخلق التجاءً إلى الله، وأكثرهم حرصاً على التقرّب إليه، لعلمهم أنّه وحده مالك الملك ذو الجلال والإكرام الذي يملك أن يكشف ما نزل بهم من ضرّ، أو يعطيهم ما يرجون من خير. ولذلك فهم من عظيم إيمانهم، وقوّة صدقهم، وأمانة تبليغهم ونصحهم يدلّون الخلق على الله، لا على دعائهم. أي أنّهم يدلّونهم على إفراد خالقهم بالدّعاء والعبادة، وعدم إشراك أي أحد أو أي شيء من خلقه في ذلك. وهذا ما بينته هاتان الآيتان ببلاغة القرآن الكريم التي لاتضاهي. ونجد هذا المعنى العظيم مؤكدا في كتاب الله العزيز بمختلف أساليب البيان. ولما كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول علماء التفسير والأصول فإننا نفهم قول الله تعالى: (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) (الإسراء: 80) فهما شموليا، إذ مدلول الآية أعم مما ذكره بعض المفسرين، من أن مدخل الصدق هو دخوله صلى الله عليه وسلم الى المدينة ومخرج الصدق خروجه من مكة وأن هذا هو أشهر الأقوال في تفسيرها. وبه قال قتادة وغيره. لكنا نفهم من الآية تعليما عاما لكافة المؤمنين، يتعلق بكل ما يفعلون ويتركون، أي بمجمل جوانب حياتهم، بحيث يكون عليهم أن يتحروا الدخول في كل أمر من أمورهم مدخل صدق وأن يخرجوا مخرج صدق. وأن يستعينوا على بلوغ ذلك بربهم، بدعائه والوقوف ببابه أن يمنحهم ما منح نبيه الكريم من المدخل والمخرج الصدق. ولا يحرص على ذلك إلا من جمع بين أمرين هما أساس العبادة والمعاملة الشرعيتين ونقصد بهما: الإخلاص والمتابعة. إخلاص العمل لله، وفي هذا توحيد الألوهية، وإفراد الخالق بالقصد، من جهة. ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي هذا اقتداء بسنته من جهة ثانية، وبذلك يكون العمل مخلصا صائبا. فيتحقق فيه مدخل الصدق أو مخرج الصدق حسب مقتضيات الحال. لأن سر الإخلاص والمتابعة هو الصدق. وهذا مدخل ومخرج كل صادق. قال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له. وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) (سورة الأنعام: 165/164).. وإذا درسنا السيرة النبوية وجدنا أن هذه القاعدة أو المسلك القرآني طابعها العام، وخاصيتها الشمولية. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشي على الأرض. ومامن أمر من أمور الحياة، أو شأن من شؤون المجتمع، في السلم والحرب، إلا وكان المصطفى صلى الله عليه وسلم يدخله مدخل صدق ويخرج منه مخرج صدق. وهذا دليل استجابة الله له دعاءه في هذه الآية. وهو تعليم لنا، في نفس الوقت، أن ندعو الله به، ونتحرى التحلي بفضائله. ويتطلب هذا بذل جهد كبير مع الاستعانة بالله ودعائه. ذلك أن التحقق بالإخلاص والمتابعة والصدق، في العزم والقول والفعل والقصد، مناط الفوز بالسعادتين. ولذلك كان الدعاء الثاني في هذه الآية الكريمة هو: (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا). فطلب النصرة من الله عز وجل من أجل التحقق بالاخلاص والمتابعة، ومعنى هذا أن هذه الغاية تعوق تحقيقها عوائق داخلية وأخرى خارجية. ولا يمكن التغلب عليها إلا بمجاهدة النفس والشيطان وأعداء الدين، من جهة، وبالاستعانة بالله وحده ودعائه من جهة أخرى. وأول وأهم انتصار هو الانتصار على النفس وهواها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك» . والذين يظفرون بأنفسهم، هم الفائزون برضا الله، والمنعمون في جنات المعارف في الدنيا وجنان الخلد يوم لقاء الله. بهذا الفهم الشمولي للآية نستمد منها درسا في السلوك ووعيا لمقومات نجاحنا في هذا السلوك، وإدراكا لمعوقاته، وكيفية التغلب عليها. والنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو القدوة الحسنة لكل مسلم، كان يستعين في أموره كلها بالله وحده، ويستمد منه النصر والتأييد، في كل أحواله، ففتح الله له أبواب الفوز والفتح المبين. (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتمّ نعمته عليك، ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرا عزيزا) (سورة الفتح: 1-3) هذه سيرته وهذه سنته، من سلكها فاز، وكانت حلته ما جاء في هذه الآية الكريمة، قال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي: كتاب الله وسنتي».