وجّه عاهل البلاد، في خطابه الأخير، دعوة صريحة إلى إطلاق مشاورات واسعة وإعداد مبكّر لكل القوانين المؤطّرة للاستحقاقات الانتخابية المقرّرة سنة 2026. هذه المبادرة، في أبعادها الزمنية والسياسية، تحمل أكثر من رسالة إيجابية، إذ تعكس إرادة واضحة لعقلنة الزمن التشريعي، وفتح أفق الاستحقاقات أمام مختلف الحساسيات المجتمعية، سواء كانت ممثَّلة داخل البرلمان أو خارجه، شريطة أن تؤمن بالعمل المؤسساتي وتلتزم بقواعده. هذا التوجّه هو ما دافع عنه دومًا حزب الاتحاد الاشتراكي، باعتباره ضمانة لترك مسافة زمنية كافية بين إقرار القوانين وخوض غمار الانتخابات، بما يجنّبنا ضغط اللحظات الأخيرة، حين كانت النصوص الانتخابية تُفرَض تحت وطأة الآجال الضيقة، فيربك ذلك الأحزاب والبرلمان معًا، ويجعل النقاش التشريعي رهين الحسابات السياسية الضيقة بدل أن يكون فرصة لتجويد النصوص وتوسيع آفاق الحوار الديمقراطي. وفي هذا الإطار، تظل الحكومة معنيّة، باعتبارها الفاعل التنفيذي الذي سيدخل معترك الانتخابات للدفاع عن حصيلته، فيما تتبوأ وزارة الداخلية موقع المنسق والمؤتمن على العملية الانتخابية، خاصة في ظل شخصية وزيرها الحالي، الذي ينتمي إلى فئة الوزراء غير الحزبيين، وما يتيحه ذلك من مسافة مفترضة عن التنافس السياسي المباشر. ورغم أن النقاش حول دور وزارة الداخلية في المسار السياسي والانتخابي قديم ومتجدد، فإن الظروف الراهنة، بما تتسم به من ضبابية وتجاوزات، تجعل من دورها في ضمان الانضباط الإجرائي وتنظيم الاستحقاقات دورًا لا غنى عنه. ما يضفي على الدعوة الملكية وزنًا سياسيًا مضاعفًا هو الربط بين الإعداد المبكر للانتخابات والرسالة القوية التي وجّهها جلالة الملك بمناسبة مرور 60 سنة على تأسيس البرلمان المغربي، حيث أكّد أن الديمقراطية ليست وصفة جاهزة تُستورد من الخارج، بل تجربة وطنية متدرّجة تقوم على التعددية والتوافق الداخلي، مع الالتزام بالمعايير الكونية، وعلى رأسها الانتخابات الحرة والنزيهة وتداول السلطة. وفي السياق نفسه، شدّدت الرسالة الملكية على ضرورة تغليب المصلحة الوطنية والمواطن على التجاذبات الحزبية الضيقة، والدعوة إلى وضع مدوّنة سلوك وأخلاقيات تحكم الحياة البرلمانية، بما يحوّل العمل التشريعي من مجرد ممارسة إجرائية إلى ممارسة قائمة على قيم ومبادئ مؤسساتية راسخة. وجوهر هذه الرسالة أن النزاهة وبراءة الذمة المالية والأخلاقية يجب أن تكون شروطًا أساسية، لا مجرد شعارات، في انتقاء المرشحين، وهنا تبرز أهمية وزارة الداخلية، بما تملكه من آليات وخبرة قانونية لضبط لوائح الترشيح، بما يحمي هيبة البرلمان، باعتباره مؤسسة تجسّد السيادة الشعبية وفق الدستور. نحن، كمجتمع سياسي، في حاجة ماسّة إلى جرعة أمل ورجة سياسية تعيد الثقة في العملية الانتخابية، وتشجع الشباب والمواطنين على كسر القطيعة مع الفعل الحزبي، وتعيد الاعتبار للمجال العام كفضاء للنقاش والتأثير، غير أن تحقيق ذلك لا يقتصر على تعديل القوانين، بل يتطلب رؤية دولة متكاملة تجاه المنتخب، وهو ما عبّر عنه جلالة الملك من خلال حرصه على الإعداد الجيد للانتخابات باعتبارها ركيزة لصون المكتسبات الديمقراطية وتعزيز المسار الإصلاحي. وفي السياق ذاته، فإن تصريح وزير الداخلية مؤخرًا أمام مجلس المستشارين، برفضه توجيه الاتهام لأي منتخب خارج المساطر القضائية وبدون أدلة، يحمل دلالة سياسية ودستورية عميقة، إذ يجسّد تمسك الدولة بقرينة البراءة كأحد أعمدة الأمن القانوني، ويؤكد ضرورة صون المكانة الاعتبارية للمسؤول المنتخب، لكن هذا الموقف، على أهميته الرمزية، لا يُعفي الحكومة من مسؤوليتها في حماية نقاء الفضاء العام، خاصة أمام ما يُتداول من اتهامات ثقيلة، ذات أبعاد أخلاقية وسياسية وقانونية. فالمطلوب ليس الاكتفاء بالمواقف المبدئية، بل تحريك المساطر القانونية متى وُجدت المعطيات، حمايةً لحرمة العمل السياسي وطمأنةً للمواطن، وتكريسًا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، كما أن الإنصاف يقتضي حماية الفاعل، مهما كان موقعه، من التعميمات الجارفة التي تذيب الفوارق بين النزيه والفاسد، وتختزل المشهد السياسي في صورة قاتمة واحدة. وتسهم بعض وسائل الإعلام، أحيانًا، في ترسيخ هذه الصورة السلبية، حين تقدّم الإثارة والسبق على حساب التحقيق والتوثيق، مما يخلق بيئة من الشك العام ويقوّض الثقة بالمؤسسات. ومن ثم، تبرز الحاجة إلى مقاربة متوازنة، تحافظ على حرية الصحافة واستقلاليتها، وتلتزم في الوقت نفسه بالمعايير المهنية والاعتماد على تحقيقات مؤسَّسة على أدلة دامغة، لا على الانطباعات والأحكام المسبقة، بما يصون الحق في المعلومة ويحول دون تحويله إلى أداة للتشهير أو تصفية الحسابات. إن المرحلة المقبلة، بما تحمله من رهانات، تستدعي تجديد النخب السياسية بوجوه تحمل روحًا وطنية صادقة، وخطابًا إصلاحيًا واقعيًا، وقدرة على مواجهة التحديات. فالكفاءة الحقيقية ليست في تراكم الشهادات أو إتقان اللغات فحسب، بل في الغيرة الوطنية، والنزاهة، والقدرة على تحمّل المسؤولية بأمانة، والتحصين أمام إغراءات المال والمناصب. إنها باختصار المدرسة الوطنية. للمواطن الحق في أن يرى في ممثليه مرآة لآماله وهواجسه، لا مجرد شخصيات تتزين بالشعارات أو تخضع لمنطق الريع والمصالح. ويبقى السؤال الجوهري: هل نملك، كجماعة وطنية، الشجاعة والقدرة على كسب هذا الرهان وتجديد النفس الديمقراطي الذي يليق بمغرب يطمح إلى أن يكون في مستوى تحدياته واستحقاقاته الإقليمية والدولية؟