الخط : إستمع للمقال يمرّ المشهد السياسي المغربي هذه الأيام بحالة غير مسبوقة من التوتر الصامت، حيث تتوالى الشكايات والتصريحات والاتهامات التي تضع رئيس الحكومة عزيز أخنوش في قلب زوابع سياسية وأخلاقية، دون أن يُكلف نفسه عناء الخروج للتوضيح أو التفاعل مع ما يُثار حوله من وقائع خطيرة. في أقل من شهر، برزت إلى السطح معطيات غاية في الحساسية، تتعلق بادعاءات رشاوى انتخابية، واتهامات بمحاولات شراء صمت إعلاميين ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي. القضية التي فجّرها رشيد الفايق، النائب البرلماني السابق والرئيس الأسبق لجماعة أولاد الطيب، والتي كشف من خلالها عن دفع ما مجموعه ثمانية ملايين درهم لمسؤول كبير في ولاية فاس، لضمان فوز ثلاثة مرشحين من حزب التجمع الوطني للأحرار خلال انتخابات 8 شتنبر 2021، ليست بالهينة، خاصة وأنها تأتي على لسان برلماني معتقل منذ 2022 في قضايا فساد عمراني، ويضع عبر شكايته الرسمية أمام النيابة العامة مؤشرات قوية تستدعي تحقيقا جديا، من باب احترام منطق العدالة أولا، والشفافية السياسية ثانيا. لكن ما يُثير القلق أكثر من مضمون الشكاية نفسها، هو صمت وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت. فإلى حدود الساعة، لم يصدر أي توضيح رسمي من وزارة الداخلية بشأن هذه الاتهامات الخطيرة التي تمسّ مباشرة نزاهة واحدة من أهم المحطات الانتخابية في تاريخ المغرب الحديث. هذا الصمت المريب يطرح أكثر من علامة استفهام حول حدود مسؤولية وزارة الداخلية في حماية مصداقية العملية الديمقراطية، ودورها الدستوري في صيانة الثقة الانتخابية، خصوصا حين تُوجَّه اتهامات خطيرة من داخل السجن إلى مسؤولين ترابيين كبار دون أن يتحرك أي تحقيق رسمي من طرف "أم الوزارات". وفي وقت كان الرأي العام ينتظر توضيحا من الحزب المعني، أو موقفا رسميا من رئيس الحكومة، ظلّ الصمت هو سيد الموقف، في تجاهل مثير لتساؤلات المواطنين حول مدى شرعية الانتخابات الأخيرة، التي باتت تُوصف من طرف فاعلين سياسيين وحقوقيين بأنها كانت مطبوخة بمال لا يُسأل من أين أتى ولا إلى أين ذهب. وفي سياق هذا التوتر المتصاعد، عادت إلى الواجهة قضية أخرى لا تقل خطورة، كان محورها هذه المرة اعترافا علنيا موثقا بالصوت والصورة للمدونة مايسة سلامة الناجي، عبر فيديو نشرته على صفحتها بمنصة فيسبوك، كشفت فيه أنها تلقت عرضا ماليا بقيمة 100 مليون سنتيم من طرف رئيس الحكومة عزيز أخنوش، مقابل التزام الصمت خلال فترة الحملة الانتخابية لسنة 2021. ورغم أن مايسة رفضت العرض، كما قالت أمام متابعيها، فإن خطورة الواقعة لا تكمن فقط في قيمة المبلغ أو في طبيعة العرض، بل في ما يفتحه هذا التصريح من تساؤلات جوهرية حول طبيعة العلاقة بين رأس السلطة التنفيذية ووسائل التأثير الرقمي. هذا، علاوة على الانتشار الواسع لمقطع فيديو يعترف فيه رضى الطاوجني بتلقيه سنة 2021 – حسب تصريحه – من طرف مقربين من رئيس الحكومة، بعرض يتضمن مبلغ 20 ألف درهم شهريا، إضافة إلى دعم سنوي بقيمة 170 مليون سنتيم لموقعه الإلكتروني، مقابل الانسحاب من الترشح للانتخابات الجماعية، والامتناع عن انتقاد أخنوش. فإذا كان نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي يتلقون مثل هذه العروض المغرية، فكم بلغت إذن "الصفقات الإعلامية" الموجَّهة للمنابر التي اختارت الصمت، أو تلك التي انخرطت في ترويج خطاب التبييض السياسي والتلميع الإعلامي لرئيس الحكومة؟ وهل نحن أمام نمط جديد من "التحكم الناعم" في الرأي العام، قائم على النفوذ المالي؟ ورغم أن هذه التصريحات ليست جديدة، وتم تداولها سابقا في مناسبات متفرقة، فإن إعادة نشرها اليوم في هذا التوقيت الدقيق يؤكد حجم الغليان الذي يعيشه الرأي العام، وشعور فئات واسعة بأننا نواجه أزمة ثقة سياسية عميقة، تتجاوز القوانين والأرقام إلى جوهر العلاقة بين المواطن والحكومة، والصحافة والساهرين على تدبير الشأن العام، والمال والشرعية. أما الضربة التي تبدو الأشد حساسية دوليا، فقد جاءت من باريس، حيث يُعاد حاليا تدوير فيديو للنائب الأوروبي السابق خوسيه بوفيه، الذي شغل منصب مقرر لجنة التجارة الخارجية بالبرلمان الأوروبي ما بين 2009 و2014، والذي فجّر مفاجأة مدوية سنة 2022 حين صرّح لإذاعة فرانس أنتر بأن عزيز أخنوش، وزير الفلاحة والصيد البحري آنذاك، عرض عليه "هدية" في مقهى بمدينة مونبلييه، خلال فترة مناهضته لاتفاقية التجارة الحرة مع المغرب، في ما اعتبره محاولة رشوة سياسية مباشرة. وفيما توقفت الواقعة حينها دون تبعات قانونية، عاد بوفيه ليُفجّرها بعد أكثر من عقد، في سياق ما بات يُعرف ب"فضائح التأثير المالي داخل البرلمان الأوروبي"، مما دفع عزيز أخنوش إلى رفع دعوى قضائية بتهمة التشهير أمام القضاء الفرنسي، معتبرًا أن تلك التصريحات "كاذبة وتعكس حقدًا دفينًا". لكن الرد القضائي، مهما كانت مخرجاته، لا يغني عن المسؤولية السياسية، خاصة حين تتقاطع مثل هذه الاتهامات مع ملفات داخلية تتعلق بالمال الانتخابي، وشراء الصمت، والتأثير على الإعلام. الرأي العام المغربي اليوم لا يطلب توضيحات إنشائية، بل كلمة واضحة من رئيس الحكومة بشأن ما يُثار من شكايات واتهامات. هل صحيح أن المال العمومي استُعمل لتدجين الصحافة؟ هل صحيح أن الترتيب الانتخابي تم بضمانات مالية؟ هل صحيح أن وزير الفلاحة والصيد البحري السابق ورئيس الحكومة الحالي نفسه، موضوع تصريحات دولية تمسّ بسمعة البلاد؟ إن أخطر ما في هذه اللحظة السياسية ليس حجم الملفات، بل حجم الصمت. ذلك أن ما ينتظره المواطنون ليس تأكيد ما هو متداول، بل نفيه بالحجة، أو مواجهته بالجرأة. أما تسيير الحكومة وكأنها شركة مساهمة، يحق فيها لرب العمل ألا يردّ على أحد، فهي مغامرة بمستقبل الثقة، وبأسس التعاقد السياسي. ولعل المفارقة الأبرز في كل ما يجري، أن رئيس الحكومة، عوض أن يواجه العاصفة، اختار أن يختبئ في الصمت، في بلد لم يعد يحتمل مزيدًا من التجاهل. رجل الأعمال الذي دخل السياسة من باب الاستثمار، لم يفهم أن الشرعية لا تُشترى، والمصداقية لا تُكتسب بالصمت، والثقة لا تُدار من خلف الأبواب المغلقة. إن عزيز أخنوش، رغم أنه لا يزال جالسا على كرسي رئاسة الحكومة، فقد سقط معنويا وأخلاقيا وسياسيا في أعين شريحة واسعة من المغاربة. سقط لأنه لم يُجب. سقط لأنه لم يتكلم. سقط لأن الاتهامات تحيط به من الداخل والخارج، بينما هو يتصرف كأن شيئًا لم يكن. لم يسقط بعد.. نعم، لكنه انتهى. الوسوم أخنوش عزيز البرلماني رشيد الفايق المغرب حزب التجمع الوطني للأحرار