للعولمة وجهان واحد اقتصادي يمعن كل يوم في تأصيل التفاوتات الاجتماعية بين الشعوب ويكرس بذلك التبعية السياسية للمجتمعات الفقيرة، وآخر ثقافي يتخذ من التكنولوجيا التواصلية أداة ناجعة لتعميم نماذجه الثقافية على هذه المجتمعات وتجريدها من هويتها وانتمائها، تمهيدا لتذويبها في ثقافة البلدان المحتكرة لتلك التكنولوجيا. فالعولمة الثقافية مدعومة بالرافد الاقتصادي، تريد اليوم بناء مجتمع معرفة جديد قوامه ثقافة الأقوى. وقد قطعت أشواطا وما تزال في تعميم نماذج الثقافة الغربية وصياغة قيم جديدة تؤسس لهوية ثقافية أخرى قد تتأصل بعد عقود قليلة في المجتمعات التي يسميها القاموس الاقتصادي رفقا بها، ب"النامية"، بعد أن يتم اغتيال ما تبقى لديها من عناصر المناعة والتحصين. وتنتصب تكنولوجيا المعرفة كقوة الدفع الأساسية للعولمة الثقافية، حيث 15 بالمئة من سكان العالم يوفّرون جميع الاِبتكارات التكنولوجية الحديثة، وحيث 50 بالمئة هم وحدهم قادرون على استيعاب هذه التكنولوجيا استهلاكا وتداولا، بينما البقية (35 بالمئة) تعيش في حالة انقطاعٍ وعزلة تامين عن هذه التكنولوجيا. وهذا الواقع يعني أن مقولة "القرية الكونية" التي أطلقها سنة 1962 العالم الاجتماعي الكندي، مارشال ماكلولهن، غير صحيحة بالمرة على الرغم من كثرة استخداماتها في الأدبيات الإعلامية الحديثة. فالقرية الكونية تقتضي امتلاك الشعوب جميعها وعلى اختلاف مواقعها، نفس الوسائل والإمكانات التكنولوجية التي تمكنها من الانصهار في بوتقة تواصلية واحدة، وبالتالي المشاركة تأثيرا وتأثُرا في صنع الحضارة الإنسانية. وهو أمر مستحيل في ظل الهوة التكنولوجية العميقة بين صنفين من البشر، الأول يمتلك المعرفة التي تمنحه سلطة القرار، والثاني يقبع في مستنقعات الجهل والتخلف ولا يملك سوى الامتثال لسلطة القرار. ومن هنا، فإن العولمة الثقافية تتغلغل في المجتمعات الفقيرة التي لا تملك القدرة إبداعا وإنتاجا على المقاومة. وهذه المجتمعات تمثّل اليوم أحد المجالات الحيوية للعولمة الأخرى الموازية، وهي العولمة الاقتصادية، حيث كلما تدنت ظروف العيش عند الشعوب المتخلفة، تراجع التحصين الثقافي لديها، مما يجعل السقوط في أحضان ثقافة الأقوى أكثر احتمالا. ويتجلى هذا الواقع فيما يشهده الإبداع الثقافي العربي (سينما، تلفزيون، رواية، مسرح، شعر، صحافة..) من منافسة قاهرة تغلق في وجهه كل نوافذ الانصهار والتفاعل مع الثقافات العالمية. فالإنتاج الثقافي العربي بأشكاله المختلفة لم يؤثث لنفسه فضاء يذكر في رفوف الخزائن والمكتبات الغربية، حيث نسبة حضور المنتوج العربي لا تتجاوز 0،5 في المئة ضمن الإنتاجات العالمية، بينما لا تمثل الإصدارات الصحفية العربية (جرائد، أسبوعيات، مجلات متخصصة...) أزيد من 0،2 بالمئة من الإصدارات العالمية.. والزحف الثقافي الغربي لا يستهدفنا من مسافات بعيدة فقط، بل يكتسحنا حتى في عقر دارنا. فالمنتوج الأدبي والصحفي المكتوب بالعربية، لا يمثل في المغرب، على سبيل المثال، أزيد من 20 في المئة، والباقي نتاجات أجنبية أو مكتوبة بلغة أجنبية. العولمة الثقافية هي إذن أشد ضراوة من العولمة الاقتصادية التي ينتج عن هيمنتها الفقر المدقع المتفشي اليوم في قلب المدن الكبرى وضواحيها من الدارالبيضاء إلى هافانا مرورا بالقاهرة وإسلام أباد وغيرها.. العولمة الثقافية تكتسحنا في بيوتنا، في مدارسنا ومؤسساتنا المجبرة في معظمها على الاشتغال بلغة وفكر أجنبيين. العولمة الثقافية لا تُبصر ولا تسمع، وليس لها قلب أو إحساس. فهي كالصخرة تجثم على الهوية دون اعتبار القيمة الأخلاقية والإرث الإنساني لمجتمعات ذنبها أنها لا تمتلك اليوم تكنولوجيا المعرفة. ولأن نفوذ هذه العولمة الفكرية واسع ومردوديتها مربحة اجتماعيا واقتصاديا، فإن الدول الغربية نفسها تخوض منافسة قوية لكسب الرهان، وإن كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية قد حسمت المعادلة لحسابها، على اعتبار أن نصف عقول أوروبا (52 في المئة) من مثقفين وباحثين وخبراء في شتى الاختصاصات هاجروا إلى الولاياتالمتحدة، وأن 700 باحث من أصل 1000 من كبار الباحثين العالميين يشتغلون في أمريكا وكان بإمكانهم أن يفيدوا بلدانهم لولا الرواتب الضخمة التي يتقاضونها وشروط العمل والبحث العلمي الجيدة. ولا عجب في أن تكون معظم جوائز نوبل في الطب والهندسة والفيزياء وغيرها من نصيب الأمريكيين أو من نصيب من يشتغلون في المختبرات الأمريكية. العولمة الثقافية هي اليوم بصدد تبضيع المجتمعات وتحويلها إلى سلعة، وتشد بيدها في ذلك العولمة الاقتصادية التي تمعن في تأصيل التفاوتات بين الشعوب على اعتبار أن نصف سكان البشرية، أي أزيد من ثلاثة ملايير شخص، يعيشون اليوم تحت مستوى عتبة الفقر المطلق. والفقر المطلق هو دولار واحد في اليوم للشخص. كما أن هناك 1،3 مليار شخص يحافظون على بقائهم على قيد الحياة بأقل من دولارين في اليوم. وإذا أضفنا إلى ذلك مليار من الأميين ثلثاهم من النساء، وأكثر من مائة مليون طفل لا يذهبون إلى المدرسة، فإن الأمر ينذر بكارثة عظمى سببُها العولمة الثقافية.