أبرز البحث الوطني الذي أنجزه المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية حول "الرابط الاجتماعي 2023″، أن أهم عامل للعيش المشترك السلمي، هو تحسين القدرة الشرائية، وتوفير العمل للجميع، ثم حب الوطن، يليها التضامن، والأمن، والاستقرار، والولوج إلى الخدمات الاجتماعية، في حين تذيلت مؤشرات العدل واحترام الحقوق والالتزام بالواجبات، والحرية والعلمانية لائحة الأولويات.
وأكد استطلاع الرأي الذي شمل عينة ضمت 6 آلاف شخص، تفوق أعمارهم 18 سنة يتوزعون على جميع أنحاء المملكة، أن تكثيف التطلعات الاقتصادية يعد مؤشرا موثوقا على تحول الطبقات الوسطى نحو المادية، وأن الارتفاع المفاجئ الذي تضاعف أربع مرات في غضون سبع سنوات لسمة "التحسن في القدرة الشرائية"، لم يكن ليحدث لولا مشاركة الطبقات الوسطى التي قرر بعضها الانضمام إلى الفقراء في مطالبهم.
العربية الفصحى أولا وكما في الاستطلاعات التي أنجزها المعهد سنتي 2011، و2016 خلص استطلاع 2023 إلى تعريف الهوية المغربية بأنها أولا وقبل كل شيئ الانتماء إلى الإسلام، وحب الوطن والتعلق بالوحدة الترابية للمملكة.
بالمقابل أبرز البحث المسحي أن منظومة الهوية في المغرب تقوم على ثلاثة ركائز: ركيزة وطنية تنبني على روابط هوياتية، الإسلام، والمغرب، والعروبة، وركيزة تعبر عن التنوع العرقي والثقافي للمغرب بمكوناته الأمازيغية والصحراوية الحسانية، ثم ركيزة شمولية، تعبر عن النزعة الكونية، بداية من المغرب العربي، إلى إفريقيا والعالم، وهي العلامات التي أشار المسح إلى أنها شهدت انتعاشا ملحوظا بين عامي 2011 و2023.
من جانب آخر، أعرب حوالي ثلاثة أرباع المغاربة الذين استطلعت أراؤهم عن تفضيلهم للعربية الفصحى كلغة أولى، وعلى الرغم من أن عدد الذين يفضلون الدارجة المغربية تضاعف ثلاث مرات مقارنة بالاستطلاع الذي أجري سنة 2016، إلا أنه مع ذلك لم يتعد 11 بالمائة في عام 2023.
وسواء في الاستطلاع السابق أو الحالي فإن عدد الذين أبدوا رغبتهم في إضفاء الطابع الرسمي على الأمازيغية لا سيما بوصفها لغة تعليم لم يتجاوز 5 بالمائة.
وعلى العكس من ذلك، فإن المستجوبين أبدوا اهتماما كبيرا باستخدام اللغات الدولية وتعلمها، وعلى الرغم من تفضيل المغاربة للغة الفرنسية، إلا أن التراجع من 63.5 بالمائة، حسب نتائج المسح الذي أجري سنة 2016 إلى 36.9 بالمائة في الاستطلاع الأخير، يبقى ذا دلالة مهمة. وعلى العكس منه تضاعف عدد اللذين أبدوا تفضيل اللغة الانجليزية، حيث انتقل من 12 إلى 22 بالمائة.
وليبق كل واحد في بيته ساهمت تدابير التباعد الاجتماعي في تفاقم بعض الظواهر الاجتماعية مثل الطلاق، إذ أشار 54 بالمائة من المغاربة الذين شملهم البحث إلى أن أزمة كوفيد-19، ساهمت في ارتفاع معدلات المشاكل الأسرية. وعلى الرغم من دور الأسرة مايزال هو العامل الأهم في بناء رابط الصداقة، إلا أنه في تراجع بشكل ملحوظ، حيث لم يتجاوز 57 بالمائة، بعد كان قد بلغ 88 بالمائة في الاستطلاعين اللذين أجريا عامي 2011 و2016.
وبخصوص نوع الجوار، كشف نصف المستجوبين أنهم يفضلون "مرحبا وليبق كل واحد في بيته"، إذ سجل التعارف المباشر بين الجيران انخفاضا ملحوظا، فقد أكد 24 بالمائة فقط أنهم يتبادلون الزيارات مع جيرانهم.
وعلى العكس من ذلك ما تزال قوة الرابط الاجتماعي في الوسط المهني مرتفعة، إذ عبر 76 بالمائة أن علاقاتهم مع زملائهم في العمل جيدة، مقابل 22 بالمائة قالوا إنها ليست جيدة، ولكنها أيضا ليست سيئة، غير أن زملاء العمل يجدون صعوبة في إنتاج أشكال من التواصل الاجتماعي خارج الوسط المهني.
الإذاعة والتلفزيون يتراجعان
وحول مدى ثقة المغاربة في المؤسسات التعليمية، السيادية، الإعلامية، المجتمع، والمؤسسات التمثلية، أبرز المسح أن المغاربة الذين استطلعت آراؤهم، أن ثقتهم في المؤسسات التعليمية والسيادية زادت بشكل طفيف، في حين استقرت ثقتهم في المؤسسات الإعلامية وفي المجتمع المدني، بينما مازالت المؤسسات التمثيلية تواجه صعوبة في ترسيخ ذاتها في فضاءات الديمقراطية التمثيلية، على الرغم من التحسن النسبي الذي تم تسجيله منذ عام 2011.
على صعيد آخر كشفت النسخة الجديدة من البحث الوطني حول الرابط الاجتماعي عن نمو هائل في استخدام الإنترنيت في الحياة الاجتماعية والمهنية للمغاربة، في وقت باتت فيه مساهمة الإذاعة والتلفزيون في تعزيز الرابط الاجتماعي آخذة في الانحسار.
وحسب البحث، فإن 25 بالمائة من المستجوبين اعتبروا أن الإذاعة ومواقع التواصل لهما دور قوي في تعزيز التماسك الاجتماعي بالمغرب، مقابل 28 بالمائة اعتبروا أن التلفاز له دور أقوى. ومقارنة بنتائج المسح الذي أجري قبل سبع سنوات فإن 42 بالمائة كانوا يعتبرون أن التلفاز يلعب هذا الدور، مقابل 38 بالمائة اعتبروا أن الإذاعة هي التي تلعب هذا الدوري القوي، في حين لم يكن يتعد عدد الذين اعتبروا أن مواقع التواصل الاجتماعي لها القدرة على احتلال هذه المكانة سوى 26 بالمائة.
شبكات التواصل الاجتماعي والأخبار الزائفة
يعتقد أزيد من ثلثي المغاربة (71 بالمائة) أن الفضاء الافتراضي يشكل تهديدا للتماسك الاجتماعي في المغرب. ويذهب أغلبهم (85 بالمائة) إلى أن شبكات التواصل تساهم في انتشار الأخبار الزائفة، لكن لماذا يتصفح المغاربة هذه الشبكات إذن؟
أجاب جل المستجوبين عن هذا السؤال، بالقول إن السبب الرئيسي لتصفح شبكات التواصل الاجتماعي هو البقاء على اتصال مع العائلة والأصدقاء (89 بالمائة)، وتزجية الوقت (78بالمائة). في حين أن 73 بالمائة، قالوا إنهم يتصفحون هذه الشبكات من أجل مواكبة الأحداث الاجتماعية والثقافية والسياسية. مقابل 72 بالمائة أعربوا عن تطلعهم للتعرف على أشخاص جدد.
وقال نصف المستجوبين تقريبا (44 بالمائة) إنهم يتصفحون شبكات التواصل الاجتماعي من أجل الاطلاع على أسس الإسلام السني، فيما 10 بالمائة فقط قالوا إنهم يفعلون ذلك من أجل تنظيم الأنشطة السياسية.
وحسب نتائج المسح فإن الاستخدام السياسي للإنترنيت ما يزال ضعيفا، ويظل حكرا على الأقليات النشطة، في الوقت الذي يظهر مستوى التردد على الشبكة الافتراضية أن القضايا السياسية محدودة جدا مقارنة بالدوافع الأخرى الاجتماعية أو المهنية أو الثقافية، أو الدينية التي تشكل في العادة السبب الرئيسي لتصفح الشبكات الاجتماعية.
مغاربة العالم
قال نصف المغاربة الذين لديهم أفراد من عائلاتهم يعيشون أو يعملون في الخارج إنهم يكونون على اتصال بأقاربهم المغتربين مرة واحدة على الأقل شهريا، مما يدل على وجود ارتباط عائلي لا يتلاشى رغم بعد المسافة. ويتواصل 43 بالمائة منهم مرة واحدة في الشهر على الأقل، مقابل 31 بالمائة يتواصلون مرة واحدة على الأقل في الأسبوع، في حين أن 19 بالمائة يتواصلون مرة واحدة في السنة على الأقل، مقابل 7 بالمائة يتواصلون أقل من مرة واحدة في السنة.
وتظل علاقة نصف المغاربة بأقاربهم في الخارج جيدة (45 بالمائة)، أو ممتازة (32 بالمائة). وعموما أكد المستجوبون أن مغاربة العالم يرتبطون ارتباطا قويا ببلدهم، وأن البعد الجغرافي لا يؤثر على قوة هذا الرابط.
الثقة في المستقبل
أظهر المسح تراجع مخاوف المغاربة بشأن الأمن، وبأنه لم يعد الشغل الشاغل بالنسبة لهم، حيث تراجعت نسبة المواطنين الذين لا يشعرون بالأمن على الإطلاق، أو بالأمن الكافي بشكل كبير، من 23 بالمائة سنة 2016 إلى 15.3 بالمائة. وعبر 85 بالمائة عن شعورهم بالأمن والأمان، فيما قال 14 بالمائة إن شعورهم بأن الأمن غير كافي، مقابل 1 بالمائة قالوا إنهم يشعرون بأنهم غير آمنون على الإطلاق. هل تثير الأزمات العالمية قلق المغاربة بشأن مستقبلهم؟ عبر 84 بالمائة من المغاربة عن خوفهم من أن يكون السياق الحالي للأزمات العالمية المتعددة مصدر قلق حقيقي على مستقبلهم. ويبرز مؤشر الثقة في المستقبل، كرأسمال اجتماعي ناشئ ينبغي استثماره من أجل الثقة في المؤسسات، وتقوية مزايا المغرب التنافسية على الصعيد الدولي. والخلاصة، يشير البحث إلى أن مؤشر الثقة في المستقبل أقوى على المستوى الوطني منه على المستوى الدولي.