تعززت الخزانة الوطنية قبل أيام بمولود جديد عبارة عن مذكرات أصدرها الوزير والقيادي الاتحادي السابق فتح الله ولعلو، طافحة بالعديد من الأحداث التي عاشها خلال مساره السياسي والأكاديمي على عهد ملكين، الملك الراحل الحسن الثاني ووارث عرشه الملك محمد السادس. هي مذكرات رجل استثنائي، كان لعقود واجهة الاتحاد الاشتراكي البرلمانية، التي ظلت تهز الرأي العام المتعطش للديمقراطية والعدالة الاجتماعية. كان فتح الله ولعلو خطيبا مفوها شاء القدر أن تتطابق قدراته البرلمانية مع الوزن السياسي لحزب القوات الشعبية. هذه هي الصورة التي يحفظها جيلان على الأقل عن هذا الرباطي ذي الملامح الطفولية، وهي مغايرة نسبيا للصورة التي خلفها الرجل نفسه وهو أول وزير للمالية في حكومة التناوب سنة 1998. وإضافة إلى أنه اقتصادي بارز وثاني مغربي يحصل على الدكتوراه من باريس في هذا التخصص بعد الراحل عزيز بلال، فإن من سيقرأ مذكراته التي نزلت يوم الخميس 24 أبريل 2025 في المعرض الدولي للكتاب بالرباط، سيكتشف رجلا آخر، وسيخلق بالتأكيد حميمية مع رجل لا يمكن أن تميز في سيرته بين ما هو خاص وما هو عام، بين حياته ونضاله. وربما لهذا أعطى هذه المذكرات عنوان «زمن مغربي» وهو يرجح العام على الخاص وهذا مفهوم عموما، ولكنه سيفهم أكثر عندما يبحر القارئ في الصفحات الطويلة والغنية في مجلدين بالتمام والكمال. يبدأ ولعلو مذكراته منذ الولادة حين تزوج والده بنعيسى ولعلو بنت خاله غيثة الجزولي، وسكن دار أبيها بالسويقة في المدينة القديمة بالرباط، ليفتح عينيه في أسرة ليست أرستقراطية ولكنها أسرة «عمل وكد واجتهاد» كما يصفها. وأما عن جده من والده، فيقول إنه كان بائع خضر صغيرا قرب زنقة القناصل، ولكن من بيت جده لأمه مصطفى الجزولي سيبني ولعلو كل عالمه في بيت كبير سيتحول إلى قبلة للوطنيين إلى أن يقرر والده الرحيل إلى حي العكاري ويواصل الفتى دراسته وينخرط في العمل النضالي. المذكرات طويلة جدا، ونحن هنا سنقوم بانتقاء، هو على أية حال تعسفي، وما نتمناه أن يكون هذا التعسف مهنيا نابها. وأن نقرب القارئ من حياة هذه الشخصية المغربية الوازنة وهي تقدم روايتها للتاريخ بمرافقة الزميل لحسن العسيبي، الذي أعد المذكرات للنشر، وخصنا بهذا السبق، فشكرا على ثقة الرجلين. وهذا الجزء الأول من الصفحات الساخنة التي ارتأت الأيام نشرها: كنت أبيع الدلاح والبطيخ في عطلي الصيفية توفي جدي من والدتي في نفس فترة انتقالنا إلى حي العكاري مما جعل والدي يستقل طبيعيا بتجارته، خاصة بعد أن تم بيع متجر جدي من قبل الورثة. الأمر الذي جعله يفتتح محلا تجاريا جديدا للمواد الغدائية قرب الجوطية بالعكاري يساعده فيه الشاب الأمازيغي من تمنار الذي حكيت عنه من قبل الذي كان قريبا من العائلة بل جزء منها. ثم أن يفتتح أيضا دوشا عصريا جديدا (إضافة إلى دوش المدينة القديمة) وإلى جانبه مباشرة دكانان صغيران. كان الدكان الأول منهما مخصصا لبيع الملابس النسائية والعطور. حيث كنت في كل عطلة دراسية (خاصة العطلة الصيفية) أعمل في ذلك الدكان، مما مكنني باكرا أن أحتك بنساء الحي تجاريا وفطنت لتقنياتهن في الشراء، الأمر الذي شحذ عندي باكرا واجب الإنتباه إلى علاقة السوق بالقدرة الشرائية. كانت أغلب أولئك النسوة محجبات وأدركت باكرا طبيعة تفكيرهن اجتماعيا بالمعنى الذي يعني غلبة الرؤية للذات من داخل منظومة قيمية تقليدية بدوية وفلاحية. مما أذكره أن من زبائننا آنذاك شابة من الحي ستصبح فيما بعد ممثلة شهيرة هي الفنانة فاطمة الركراكي رحمها الله. بينما كان الزبناء الذين يثيرون فضولي وأنا ما أزال فتى في ما بين الحادية عشرة والرابعة عشرة من عمري هم الجنود السينغاليون، الذين كانوا يشترون كل يوم أحدٍ العطور (خاصة نوع «ريفدور» الذي ما زلت أذكر ثمنه وهو درهمان وعشرين سنتيما). كانوا يأتون جماعات من الثكنة العسكرية «غارنيي» حيث يقيمون التي تحولت في ما بعد إلى الحي الجامعي مولاي اسماعيل بحي المحيط، فاكتشفت من خلالهم تقاليد سلوكية لشعوب إفريقية مختلفة عن تقاليدنا، ساهمت في توسيع مداركي وتجاربي في الحياة ومكنني ذلك الإحتكاك أن أطرح أسئلة باكرا حول ثقافة الشعوب الإفريقية، الأمر الذي أغناني معرفيا وجعلني أصدر دوما عن أحكام نسبية غير إطلاقية في الرؤية إلى الآخرين بمختلف ثقافاتهم. فيما كان الدكان الثاني يخصصه والدي في فصل الصيف لبيع فاكهتي البطيخ الأصفر والبطيخ الأخضر (الدلاح)، كنت أقضي به أيضا أوقاتا كثيرة للمساعدة في عمليات البيع. حيث كنا نأتي بتلك الفاكهة الصيفية من نواحي مدينة فاس بواسطة شاحنة والدي، التي وظف في ما بعد سائقا مساعدا له كان جنديا مغربيا سابقا عائدا من حرب الفيتنام شهد هزيمة فرنسا في معركة ديان بيان فو الشهيرة في 7 ماي سنة 1954. من خلاله سأعرف باكرا تفاصيل مدققة عن تلك المعركة ساهمت في زيادة تفتح وعيي السياسي ببعد دولي.