لحظة مغاربية دقيقة تلك التي جاء فيها خطاب العرش لهذه السنة، خطاب موسوم بنداء ملكي متجدد ينم عن نضج إستراتيجي وبعد إنساني رفيع يدعو إلى تجاوز التوترات المصطنعة بين المملكة المغربية والجمهورية الجزائرية، ويفتح أفقا جديدا لمصالحة تاريخية طال إنتظارها. في هذا السياق، يمكن إعتبار هذا الخطاب أكثر من مجرد إعلان نوايا، إنه رؤية متكاملة لتجاوز عوائق الجمود، ومرافعة سياسية من أجل عقلنة الخلاف وتغليب منطق البناء على وهم الهيمنة. فالخطاب الملكي ليس مجرد تعبير عن موقف داعم للوحدة المغاربية، بل هو انعكاس لإدراك نخب مغاربية متعددة بأن ساعة الإنفتاح قد دقت، وأن الرهان على التكتل الإقليمي أصبح خيارا وجوديا. فالدعوة إلى حوار مسؤول مع الجزائر تتجاوز الطابع الثنائي، لتلامس عمق الأزمة البنيوية التي تعوق حلم الاتحاد المغاربي، وتضع الجميع أمام مسؤولية تاريخية لصياغة ميثاق جديد للتعاون يؤسس لشراكة قائمة على الثقة لا على الريبة والشك. في الجانب الآخر ، فإن غياب التجاوب الجزائري الرسمي مع الدعوات الملكية المتكررة و التي اتسمت دوما بلغة هادئة وممتنعة عن الإنزلاق في السجال ، يطرح علامات إستفهام حول قدرة النظام الجزائري على التحرر من هواجس الداخل، وإستيعاب المتغيرات الإقليمية والدولية، خاصة في ظل تعاظم الدعم الدولي لمبادرة الحكم الذاتي كحل واقعي وذي مصداقية لنزاع الصحراء المفتعل. فمن واشنطن إلى مدريد وبرشلونة مرورا بلندن و باريس و إلى عواصم إفريقيا والشرق الأوسط، تكرس الإعتراف المتنامي بشرعية الطرح المغربي المقرون بتحولات في الرؤية الجيوسياسية الدولية، التي لم تعد تقبل بكيانات وهمية قزمية تفتقر للمقومات الواقعية والسيادية. وفي هذا السياق، تأتي المبادرة الأمريكية المتجددة لتحريك ملف الصحراء، من خلال دعم متواصل لمقترح الحكم الذاتي ضمن السيادة المغربية، بإعتبارها قاعدة تفاوضية جدية، تتقاطع مع مبدأ "لا غالب ولا مغلوب" الذي أكد عليه العاهل المغربي في خطابه. كما أن الدينامية الدبلوماسية للمغرب، المدعومة بقنوات التواصل المتعددة، بما فيها شراكات أمنية وتنموية مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، أضحت تشكل وزنا نوعيا في ترجيح كفة الحل السياسي على حساب الطروحات الإنفصالية التي لم يعد لها سند دولي معتبر. فالدعوة اليوم لم تكن لساسة قصر المرادية لوحدهم ، بل هي دعو لجميع النخب المغاربية إلى تجاوز منطق الاصطفاف الأيديولوجي والانغلاق ،من أحل إستشراف مغاربي جديد قادر على بناء وحدة مصالح لا وحدة شعارات، ويستدعي الجزائر باعتبارها شريكا لا خصما إلى الخروج من منطق العزلة والتحصن خلف الماضي البئيس. فالرهان الحقيقي اليوم ، لم يعد في إستمرار العداء المفتعل، بل في صياغة معادلة مربحة لجميع الأطراف، تؤسس لتكامل اقتصادي وتنموي وأمني في فضاء مغاربي مفتوح على المستقبل. إن الزمن المغاربي قد حل ، وليس من الواقعية السياسية ولا من الحكمة التاريخية أن تظل شعوب المنطقة رهينة حسابات أساطير و سرديات تجاوزها الواقع. لقد قدم الملك محمد السادس مرة أخرى دعوة صادقة إلى صفحة جديدة، فهل تملك القيادة الجزائرية الشجاعة السياسية للتفاعل المسؤول مع هذه اليد الممدودة؟ وهل تنجح النخب في كسر الجمود وتحريك عجلة التاريخ نحو مصالحة حقيقية تنهي عقودا من القطيعة غير المبررة؟ ختاما ، الجواب على هذه التساؤلات لا يكمن في تبادل البلاغات رسمية أو الخطابات الشعبوية، بل لابد من إرادة سياسية شجاعة تدرك أن كلفة الصراع أعلى بكثير من تكلفة السلام، وأن المصالحة المغاربية لم تعد حلما بل ضرورة تفرضها التحديات الأمنية والإقتصادية التي تجتاح المنطقة المغاربية. ذ/ الحسين بكار السباعي محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان. خبير في نزاع الصحراء المغربية.