محلل سياسي وخبير إستراتيجي. يختزل المثل الأمازيغي "أمان أرسكيل بدا لبلاسط نس"، حكمة كونية عميقة، تختصر علاقة الإنسان بمجاله الطبيعي في معادلة بسيطة وصارمة، أساسها أن المياه لا تنسى مجاريها، واذا حوصرت أو حرفت لا بد أن تعود إلى مصارفها و مسالكها الأصلية. إنها ليست عبارة شعبية فحسب، بل قانون طبيعي ثابت، لايجب تجاهله .فما شهدته مدينة آسفي، يعيد إلى الواجهة سؤال العلاقة الملتبسة بين الإنسان ومجاله، ويكشف بعمق حدود السياسات العمرانية حين تنفصل عن منطق الجغرافيا وذاكرة المكان. فهذه الكارثة الطبيعية ليست طارئة ولا إستثنائية، بل هي إمتداد تاريخي لمسار طويل من الفيضانات المتكررة التي عرفها وادي الشعبة عبر قرون، كما وثقته المصادر التاريخية المحلية منذ القرن السابع عشر إلى بدايات القرن العشرين. إن إستحضار هذا الامتداد الزمني لا يهدف إلى إجترار الماضي، بل إلى مساءلة الحاضر وإستشراف المستقبل. فمن الناحية الجغرافية، ينتمي وادي الشعبة إلى نمط الأودية الموسمية القصيرة والسريعة الجريان، المرتبطة بإنحدارات الهضبة الداخلية والمتصلة مباشرة بالمحيط الأطلسي. هذا المعطى البنيوي يجعل المجال الحضري لمدينة آسفي عرضة لفيضانات فجائية ذات طاقة تدميرية عالية، خصوصا عند تزامن التساقطات المطرية الغزيرة مع ظاهرة المد البحري. وهو ما أكدته الوثائق التاريخية التي تحدثت صراحة عن "إضافة ماء المطر إلى ماء البحر"، وهو نفس السيناريو الذي أعاد نفسه، بتفاصيل شبه مطابقة، خلال هذا الفيضان. غير أن التحليل الجغرافي وحده لا يكفي لفهم حجم الخسائر، ما لم يستكمل بقراءة سكانية وعمرانية. فقد عرفت آسفي، كغيرها من المدن المتوسطة، توسع حضري متسارع فرضته الضغوط الديمغرافية والتحولات الإقتصادية، لكنه توسع تم في كثير من الأحيان على حساب المجال الطبيعي للوادي وروافده. لقد جرى التعامل مع مجاري المياه باعتبارها فراغات "قابلة للاستثمار"، لا بإعتبارها بنية إيكولوجية حيوية. فتم ردم أجزاء منها، وتغليف أخرى بقنوات إسمنتية محدودة الإستيعاب، وتحويل سهوب منخفضة كانت تلعب دور مناطق إمتصاص طبيعي للمياه إلى طرق ومحاور إسفلتية، الأمر الذي حول المدينة إلى سطح يسرع الجريان بدل إمتصاصه. و تبرز مساطر التعمير بإعتبارها الإطار القانوني والتنظيمي الذي كان يفترض أن يشكل خط الدفاع الأول ضد المخاطر الطبيعية. فتصاميم التهيئة ودراسات التأثير على البيئة، تلزم بأخذ المعطيات الهيدرولوجية بعين الإعتبار، وتمنع البناء في مجاري الأودية أو المناطق المعرضة للفيضانات. غير أن الإشكال لا يكمن دائما في غياب النص القانوني، بل في ضعف تفعيله وفي الفجوة بين التخطيط الورقي والإنجاز الميداني. لقد أفرغت الإعتبارات السياسية والإنتخابية في الكثير من الحالات قوانين التعمير من روحها الوقائية، وحولتها إلى أدوات لتدبير التوسع لا لضبطه متسببتا في أزمات وكوارت إنسانية. وتتحمل المجالس الترابية والسلطات المكلفة بمراقبة التعمير، في هذا الإطار، مسؤولية مضاعفة، ليس فقط بوصفها جهات مانحة للرخص، بل باعتبارها فاعل استراتيجي في حماية السلامة العامة. فالتقاعس عن تحيين خرائط المخاطر، أو التغاضي عن البناء غير القانوني أو ضعف التنسيق مع المصالح التقنية المختصة، كلها عوامل تجعل من الفيضانات "كارثة متوقعة" أكثر منها قضاء وقدر. إن التاريخ المحلي لوادي الشعبة، بما يحمله من توثيق دقيق للخسائر البشرية والمادية، كان ينبغي أن يشكل مرجع تحذيري دائم في كل قرار عمراني. كما كشف فيضانات آسفي عن مفارقة عميقة، فبينما تطورت أدوات الرصد المناخي والهندسة المدنية، تراجعت مكانة الحكمة المجالية في القرار العمومي. لقد نبهت الثقافة الأمازيغية،عبر المثل الشهير "أمان أرسكيل بدا لبلاسط نس"، إلى حقيقة بسيطة لكنها حاسمة،أن الماء لا ينسى مجراه. وما وثقته الذاكرة الشعبية والكتابات التاريخية لم يكن مجرد سرد للخراب، بل تعبير عن وعي مبكر بخطورة تجاهل قوانين الطبيعة. إن إقصاء هذا الوعي من التخطيط الحديث هو في حد ذاته شكل من أشكال القطيعة المعرفية. واقعة آسفي تفرض اليوم مراجعة جذرية لمنهجية تدبير المجال الحضري في المدن المعرضة للمخاطر الطبيعية. فالمطلوب ليس فقط تقوية البنيات التحتية، بل إعادة الاعتبار لمفهوم "التعايش مع الخطر" بدل محاولة محوه. ويقتضي ذلك استرجاع مجالات تصريف المياه، وإعادة تهيئة الأودية كفضاءات طبيعية محمية، وتبني تخطيط حضري مرن يستوعب الظواهر القصوى المتزايدة في سياق التغيرات المناخية. كما يقتضي ترسيخ مبدأ المسؤولية، وربطها بالمحاسبة وبشكل صارم، حتى لا تبقى الكوارث تتكرر بنفس الأسباب وتحت عناوين مختلفة. ختاما، إن فيضانات آسفي، من الماضي إلى 2025، ليست مجرد أحداث مناخية متعاقبة، بل هي مرآة تعكس علاقتنا بالمجال وحدود سياساتنا الترابية. فحين تهمش الجغرافيا وتنسى ذاكرة الوادي، يتحول التقدم العمراني إلى هشاشة مستترة. أما حين يصغى لحكمة المكان ويستحضر التاريخ في التخطيط العمراني، يصبح المستقبل أقل كلفة وأكثر أمانا خاليا من المخاطر.