مات محمد الأمين بلكناوي يوم الأربعاء فاتح أبريل الجاري عن سن 101 سنة.. رحل الرجل الذي خدم الرياضة الوطنية لثمانين سنة دون أن يشعر يوما بالتعب أو الإرهاق. مات الرجل الذي ولج عوالم الرياضة في العشرينات من القرن الماضي متحديا الرفض الاستعماري الفرنسي ووقوفه ضد أية مبادرة من مواطن مغربي في هذا المجال. للأسف العديدون من الجيل الحالي لا يعرفون الرجل، ويجهل الكثيرون ما أنجزه لصالح الرياضة الوطنية بشكل عام والرياضة في مدينة الرباط بشكل خاص. محمد الأمين بلكناوي، وكما جاء في مذكراته التي انفردت جريدة " الاتحاد الاشتراكي" بنشرها سنة 2008، واكب البدايات الأولى لقيام الحركة الرياضية بالمغرب، وكان من الآوائل الذين أخذوا مبادرة اقتحام حركة التأسيس الرياضي بمدينة الرباط. اشتغل محمد الأمين بلكناوي، طيلة ما يناهز ثمانين سنة، في مجال التسيير الرياضي، كما ساهم بنصيب وافر في إنشاء الجمعيات الرياضية في مدينة الرباط، رافعا بذلك تحديا كبيرا في ظل ما كان يعرفه الشارع المغربي من غليان تجاه الوجود الفرنسي . لم يكن المستعمر يقبل بقيام شباب مغاربة بممارسة أنشطة رياضية منظمة ، ولأجل ذلك، سعت الإدارة الفرنسية إلى وضع مختلف العراقيل في وجه جميع من كان يأخذ المبادرة لتأسيس نشاط خاص بالمغاربة بعيدا عن وصاية المستعمر. محمد الأمين بلكناوي يعتبر موسوعة رياضية، بل أكثر من ذلك، فالحديث معه كان بمثابة حديث عن الرياضة، التاريخ، الأدب، السياسة... شغل الكثير من المناصب والمهام الرياضية قبل الاستقلال، عضوية عصبة الغرب، عضو اللجنة الرياضية العامة، عضو اللجنة المنسقة بين الشبيبة والرياضة، عضو المجلس المصغر للرياضة والمجلس الرياضي بالمغرب، وفي عهد الاستقلال، تولى رئاسة وتأسيس الجامعة الملكية المغربية للرماية، ومنصب نائب للرئيس في عدة جامعات ، كالريكبي ، كرة اليد، الكرة الحديدية والزوارق الشراعية، كما أسس وترأس فريق المغرب الرباطي.. يقول الراحل محمد الأمين بلكناوي في مذكراته: "عندما ولجت الميدان الرياضي وعمري لم يكن يتجاوز حينها ست عشرة سنة، لم يكن ذلك بدافع رياضي محض فحسب، بقدر ما كان الدافع الأساسي الذي حركني لذلك هو معرفتي المسبقة في ذلك الوقت، بكون الرياضة هي أحسن سبيل لنشر ثقافة الوعي بمبادئ الحركة الوطنية والمقاومة والبحث عن الحرية والاستقلال! ولجت ذلك الميدان وأنا مؤمن بسلامة التوجه، بالرغم من معارضة الأسرة والمعارف، ومقتنع بأن هناك، في ذلك الميدان، العديدين من أمثالي الذين سيكونون لي خير أنيس وخير رفيق في ذلك الدرب الذي اخترت ، عن حب وعن طواعية، أن أسلكه وأن أقدم من أجله سنوات عمري بدون أي تردد! أعتز بذلك التاريخ الذي كنت رقما أو سطرا من بين سطوره وسجلاته.. أفتخر، ولدي الحق في ذلك، كوني ساهمت ، بكل تواضع، في تدوين سطور من ذلك التاريخ. لم أكن، في حقيقة الأمر، أتخيل وأنا ألج الميدان الرياضي في بداية حقبة العشرينيات من القرن الماضي، أن القدر سيجعل مني أحد أولئك الذين تشرفوا بالإسهام في وضع اللبنات الأولى للصرح الرياضي الرباطي بشكل خاص، والوطني بشكل عام. في تلك الفترة الممتدة من سنة 1926، إلى ما قبل عهد الاستقلال، شهدت الساحة الرياضية الوطنية بروز أسماء كبيرة طبعت بدايات التاريخ الرياضي، خصوصا في رياضة كرة القدم. لكن وقبل أن أسرد بعضا من هذه الأسماء، أرى بأنه من الضروري أن أستحضر هنا، مقابلة كروية تاريخية كنت قد حضرتها وكنت أحد مهندسيها..مقابلة كانت قد خلفت صدمة حقيقية لكرة القدم الفرنسية. كان ذلك في فاتح يناير من سنة 1930، وكانت المناسبة لقاء "وديا " بين الفريق الوطني والفريق الفرنسي حرف " باء". التقى الفريقان بمدينة الدارالبيضاء.. وكانت المفاجأة انتصارالفريق الوطني وبحصة عريضة وصلت إلى أربعة أهداف مقابل لا شيء! كان من الطبيعي أن تستفز تلك النتيجة مشاعر وكبرياء الفرنسيين ورموز الاحتلال.. كانت فعلا، ضربة قاسية وموجعة..نتيجة أججت غضب وانفعال المقيم العام "لوسيو" أحد أهم صناع ومهندسي الظهير البربري المشؤوم! أذكر أنه مباشرة بعد تلك المباراة، نشرت الصحف التي كانت تصدر في تلك الفترة، مقالات ركزت في تحاليلها وقراءاتها على مهارات اللاعبين المغاربة، كما خصصت عناوين بارزة تثني فيها عليهم خصوصا منهم اللاعب الكبير امبارك بن عمر مايي، الذي كتبت بشأنه: "امبارك مايي لاعب مغربي كبير سحق الفريق الفرنسي، ووقف له ندا قويا، وتفوق على لاعبيه بفضل مهاراته الفنية والبدنية". في اليوم الموالي للمباراة، وكان يوم اثنين، قام المقيم العام باستقبال الفريق الفرنسي المنهزم، وخاطب أعضاءه بانفعال وغضب قائلا لهم: "أهذا هو الفريق الفرنسي العتيد الذي هزمه "زنجي صغير بمفرده"؟ استعمل المقيم العام كل العبارات التصغيرية والتحقيرية في حق الفريق الوطني، ولم يفته توجيه انتقاداته اللاذعة لأعضاء الفريق الفرنسي، مضيفا:"إنه خبر لا يصدق.. إنه انهزام جد مذل ليس لكم كلاعبين فحسب، بل لفرنسا في المقام الأول?! " عن رأيه في رياضة كرة القدم في بداية القرن الماضي، كان بلكناوي يقول: "لابد هنا أن أشير إلى أن الانطلاقة الأولى لكرة القدم ولممارسيها كانت من الكتاتيب القرآنية للبرهنة على أن كرة القدم لم تكن حراما، وأن كثيرا من رجال الحركة الوطنية ساهموا في تأسيسها وإنعاشها، وأنها امتزجت بالثقافة والفن، وأن خيرة الشباب قد انضموا إليها.." وفي مذكراته دائما: "أذكر أنه كانت قد مرت قرابة خمس سنوات على تأسيسي لجمعية المغرب الرياضي الرباطي، وتحديدا خلال سنة 1935، عندما قمنا بتنظيم "جمع عام" نتداول فيه كل التطورات التي عرفها الفريق، والبحث عن توفير شروط جديدة لتحقيق المزيد من الإشعاع الذي ميزه في تلك الفترة، حين سأفاجأ بالراحل باحنيني، الشخصية الوطنية التي تقلدت العديد من المناصب الحكومية بعد الاستقلال، وهو يسعى إلى انتزاع منصب الرئاسة في الفريق! في ذلك الجمع، وبعد أن عبر باحنيني عن رغبته تلك، أذكر أن الشهيد العربي الشاوي المزابي الذي سيتعرض في سنة 1944 إلى الاغتيال على يد المستعمرين وذلك في طريق تمارة، كان قد انتفض منفعلا وغاضبا، وكان ذا بنية جسدية قوية، وصاح في الجمع ، وهو يضرب بيديه طاولة كانت أمامه :" اسمعوني جيدا.. إذا فكر أي أحد في إزاحة السي محمد الأمين بلكناوي ، فسأكون له بالمرصاد.. لن يستمر هذا الفريق دون السي بلكناوي". خمنت لحظتها في العواقب المحتمل حدوثها، فأخذت الكلمة واقترحت على الحضور الاختيار بيني وبين باحنيني:"مَن من الحضور يؤيد بقائي رئيسا فليتوجه إلى هذا الركن.. ومن يرى عكس ذلك ويقترح باحنيني رئيسا فليتوجه إلى الركن الآخر". لحظات قصيرة بعد ذلك.. اتضح أن الأغلبية إن لم أقل الجميع كانت معي .. فقد اختار "الجمع" أن أستمر رئيسا للفريق". في سؤال حول كيف تعرف هو وجيله من شباب فترة العشرينيات على الرياضة، قال في مذكراته: "تعرفنا على الرياضة من خلال اطلاعنا على نشاط مجموعة من الرياضيين من مدينة الدارالبيضاء. كان ذلك سنة 1926. أذكر أن تلك المجموعة كانت تضم امبارك مايي موسى الجعواق بلعياد الجيلالي كاركا محمد ماسون( وكان أصله فرنسيا وأمه مسلمة) موستيك الكبير الناموسي الهاشمي الشلح.. وغيرهم من الأسماء التي وضعت اللبنات الأولى للبناء الرياضي الوطني.. ولوجي الميدان الرياضي، بدأ في الحقيقة انطلاقا من مرحلة الدراسة والتعليم. فقد درست بالمسيد بالزاوية المختارية التي كانت تقع وسط بيت كبير تعود ملكيته لجدنا سيدي علي بلكناوي. وقد عرفت هذه الزاوية، فيما بعد، توسعا وترميما على يد آل العوفير، وهي أسرة رباطية معروفة ولها امتدادات تاريخية مهمة بالعاصمة. بتلك الزاوية، نجحت في ختم القرآن وحفظته، ونفس الأمر بالنسبة للأذكار، الدعوات والفتوحات وكل ما يتعلق بعلوم الفقه والدين. كنا نتلقى الدروس في تلك الزاوية نحن مجموعة تضم قرابة 200 طالب، فمن قصبة لوداية كان هناك 55 طالبا، ومن عائلة العوفير 25، ومن الجيراريين 10، ومن شرقاوة 10، ومن الحاجيين 10، ومن الخياطة 10، إضافة إلى طلبة آخرين من عائلات ومن جهات مختلفة. في سنة 1930، وتحديدا في السادس عشر من ماي ، انتقلت إلى المدرسة... في نفس تلك السنة، أسست جمعية المغرب الرباطي.. حدث ذلك في سياق عام طبعه البحث عن رد سريع ضد الظهير البربري. قبل ذلك ، كانت هناك أحداث قربتني كثيرا من عالم الرياضة. ففي سنة 1925، كما أذكر، اصطحبنا الفقيه السي الحاج المعطي عاشور إلى الشاطىء، كانت تلك أول مرة ننزل فيها إلى الشاطىء ونشاهد فريقا يلعب كرة القدم. مباشرة بعد ذلك، بدأ التفكير في تأسيس إطار رياضي يجمعنا. في البداية، تأسست فرقتان تابعتان لسيدي المامون وسيدي العكاري. انصهرتا فيما بعد في فرقة مدرسة أبناء الأعيان، ثم تأسست فرقة الجردة، نسبة الى الحديقة الموجودة حاليا قرب باب البويبة، وعندما انتقلت المدرسة من سقاية بن المكي الى ثانوية مولاي يوسف، تولى تدريب الفريق مدربون أكفاء، وكان اللعب بالملعب البلدي، ملعب أحمد شهود حاليا. ولما تأسس كل من الأولمبيك وسطاد، أخذ التلاميذ ينضمون إليهما، فمن الذين انضموا إلى الأولمبيك السي الحبيب، والزرهوني وأحمد بن مسعود، وأحمد زروق، والصديق الأزرق، ومن الذين انضموا إلى سطاد، الحاج محمد بن جلون (أحد مؤسسي الوداد) وأحمد الخطيب، والصديق زروق، ومحمد شهود، ومحمد بن بوجمعة الصويري، وهذا هو الذي حبب إلينا الكرة. تم تأسيس فريق أطلقنا عليه اسم المغرب الرياضي الرباطي، وقبل ذلك، أنشأنا جمعية باسم المنضور برئاسة السيد الحاج اسماعيل فرج، يساعده كل من محمد بن ادريس من داخلية مولاي يوسف، وسيدي السيتل العيناوي، وقد تقدموا بطلب رسمي فرُفض، ثم انضم إليهم أبو بكر القباج، وتقدموا بطلب من جديد، فرفض. واستمر هذا الرفض حتى بعد التأسيس، فقد كان بوسير، ممثل سطاد المغربي يمانع في أمرين: تأسيس جمعية مغربية، والسماح لنا بالتدريب في الملعب البلدي. " رحم الله محمد الأمين بلكناوي وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه الصبر والسلوان. وإنا لله وإنا إليه راجعون.