بعد خيباته المتراكمة .. النظام الجزائري يفتح جبهة جديدة ضد الإمارات    في خطوة رمزية خاصة .. الRNI يطلق مسار الإنجازات من الداخلة    وداعاً لكلمة المرور.. مايكروسوفت تغيّر القواعد    برشلونة يهزم بلد الوليد    منتخب "U20" يستعد لهزم نيجيريا    العثور على ستيني جثة هامدة داخل خزان مائي بإقليم شفشاون    إسرائيل تستدعي آلاف جنود الاحتياط استعدادا لتوسيع هجومها في قطاع غزة    من الداخلة.. أوجار: وحدة التراب الوطني أولوية لا تقبل المساومة والمغرب يقترب من الحسم النهائي لقضية الصحراء    الوداد يظفر بالكلاسيكو أمام الجيش    جلالة الملك يواسي أسرة المرحوم الفنان محمد الشوبي    الناظور.. توقيف شخص متورط في الاتجار في المخدرات وارتكاب حادثة سير مميتة وتسهيل فرار مبحوث عنه من سيارة إسعاف    حقيقة "اختفاء" تلميذين بالبيضاء    مقتضيات قانونية تحظر القتل غير المبرر للحيوانات الضالة في المغرب    البكاري: تطور الحقوق والحريات بالمغرب دائما مهدد لأن بنية النظام السياسية "قمعية"    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    أمسية احتفائية بالشاعر عبد الله زريقة    نزهة الوافي غاضبة من ابن كيران: لا يليق برئيس حكومة سابق التهكم على الرئيس الفرنسي    52 ألفا و495 شهيدا في قطاع غزة حصيلة الإبادة الإسرائيلية منذ بدء الحرب    تقرير: المغرب يحتل المرتبة 63 عالميا في جاهزية البنيات المعرفية وسط تحديات تشريعية وصناعية    قطب تكنولوجي جديد بالدار البيضاء    الموت يفجع الفنانة اللبنانية كارول سماحة بوفاة زوجها    تفاصيل زيارة الأميرة للا أسماء لجامعة غالوديت وترؤسها لحفل توقيع مذكرة تفاهم بين مؤسسة للا أسماء وغالوديت    المغرب يبدأ تصنيع وتجميع هياكل طائراته F-16 في الدار البيضاء    ابنة الناظور حنان الخضر تعود بعد سنوات من الغياب.. وتمسح ماضيها من إنستغرام    حادث مروع في ألمانيا.. ثمانية جرحى بعد دهس جماعي وسط المدينة    العد التنازلي بدأ .. سعد لمجرد في مواجهة مصيره مجددا أمام القضاء الفرنسي    توقيف شخص وحجز 4 أطنان و328 كلغ من مخدر الشيرا بأكادير    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    مجموعة أكديطال تعلن عن نجاح أول جراحة عن بُعد (تيليجراحة) في المغرب بين اثنين من مؤسساتها في الدار البيضاء والعيون    الملك: الراحل الشوبي ممثل مقتدر    وصول 17 مهاجراً إلى إسبانيا على متن "فانتوم" انطلق من سواحل الحسيمة    كلية العلوم والتقنيات بالحسيمة تحتضن أول مؤتمر دولي حول الطاقات المتجددة والبيئة    الإمارات وعبث النظام الجزائري: من يصنع القرار ومن يختبئ خلف الشعارات؟    العصبة تفرج عن برنامج الجولة ما قبل الأخيرة من البطولة الاحترافبة وسط صراع محتدم على البقاء    إسرائيل تعيد رسم خطوط الاشتباك في سوريا .. ومخاوف من تصعيد مقصود    تونس: محكمة الإرهاب تصدر حكما بالسجن 34 سنة بحق رئيس الحكومة الأسبق علي العريض    الملك محمد السادس يبارك عيد بولندا    كازاخستان تستأنف تصدير القمح إلى المغرب لأول مرة منذ عام 2008    بيزيد يسائل كاتبة الدولة المكلفة بالصيد البحري حول وضعية مهني قوارب الصيد التقليدي بالجديدة    الإقبال على ماراثون "لندن 2026" يعد بمنافسة مليونية    منحة مالية للاعبي الجيش الملكي مقابل الفوز على الوداد    الداخلة-وادي الذهب: البواري يتفقد مدى تقدم مشاريع كبرى للتنمية الفلاحية والبحرية    أصيلة تسعى إلى الانضمام لشبكة المدن المبدعة لليونسكو    اللحوم المستوردة في المغرب : هل تنجح المنافسة الأجنبية في خفض الأسعار؟    الكوكب يسعى لوقف نزيف النقاط أمام "الكاك"    غوارديولا: سآخذ قسطًا من الراحة بعد نهاية عقدي مع مانشستر سيتي    الفنان محمد الشوبي في ذمة الله    الصحة العالمية تحذر من تراجع التمويل الصحي عالميا    دراسة: هذه الأطعمة تزيد خطر الوفاة المبكرة    دراسة: مادة كيمياوية تُستخدم في صناعة البلاستيك قتلت 365 ألف شخص حول العالم    "موازين" يعلن جديد الدورة العشرين    وفاة الممثل المغربي محمد الشوبي    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحب في وطن الفواجع
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 07 - 01 - 2011


1 تقديم الرواية:
فوضى الحواس1، هي الرواية الثانية في رباعية الروائية الجزائرية ، أحلام مستغانمي، بعد «ذاكرة الجسد» وقبل «عابر سرير» و«النسيان». هي رواية تحتفي بالحب والعشق كما في كل روايات الكاتبة، غير أن «فوضى الحواس» ربما أكثر إشكالية وأوسع مفارقة وأعمق طاقة تخييلية. هي رواية تتخيل شخصية نسائية كاتبة وهي نفسها بطلة الرواية التي تكتبها وتسرد أحداثها، وفي نفس الوقت تربط علاقة غرامية مع بطل روايتها المفترضة. غير أن حضور، أو استحضار، هذا البطل مع اشتداد ضغظ العشق على الشخصيتين معا، يرتبطان دائما بحادث سياسي وطني مثير ينبثق فجأة. ومن الصفحات الأولى نتتبع هذا البطل العشيق دون أن نعرف عنه الكثير، يبقى بدون اسم ومقمط بالغموض خلال الجزء الأكبر من النص.
وفي الثلث الأخير من الرواية يبدأ في الانكشاف، خاصة حين عاد بوضياف ليكون رئيسا للجمهورية فشكل مجلسا وطنيا استشاريا من المثقفين والسياسيين النزهاء من أجل إنقاذ البلاد، وأصبح البطل ضمن أعضاء المجلس.
وفي هذا السياق انكشف أيضا أن البطل كان أحد أهم عناصر الثورة الجزائرية مع بوضياف ضد الاستعمار، ثم اتضح أن اسمه هو خالد بن طوبال، وهو اسم تجلى أن الساردة الروائية كانت قد أعطته لإحدى شخصياتها في رواية سابقة، ثم يظهر أن ذلك الاسم ليس له، ثم نصادفه صحفيا مع صديقه، عبد الحق، الصحفي اللامع، ثم يغتال بوضياف فيتماهى معه البطل ويختفي اختفاء غامضا أيضا ولعل هذا البطل هو نفسه الحب أو الحلم الذي جسده بوضياف للشعب الجزائري فاغتيلا مع اغتياله...
والبطلة في الرواية سليلة عائلة مناضلة، كان أبوها من أهم وجوه الثورة الجزائرية أيام المقاومة، كان مثل رفاقه مفعما بالحلم الوطني والقومي، وقد أخذ معه حلمه حين استشهد قبيل الاستقلال تاركا وراءه طفلين، حياة، اسم البطلة/الساردة، وطفلا سماه ناصر، تيمنا باسم جمال عبد الناصر، وبعد الاستقلال، وخلال التسعينيات من القرن الماضي، أصبح ناصر إسلاميا، ينتظر الاعتقال أو القتل في كل لحظة الأمر الذي دفعه إلى الهجرة بعدما اقتنع أن الموت قريب منه...
وقد تزوجت حياة من ضابط كبير في الجيش، أحد الجنرالات الذين وزعوا بينهم خيرات الوطن وأنتجوا كل الفواجع التي عانى ويعاني منها الشعب. وقد مارست البطلة/الكاتبة متعة الحب مع رجل مفترض أصبح عشيقها المتخيل، تريد الإعلان عن أنوثتها وتحقيقها. لكن الحب هنا وفي الواقع يعتبر من المحرمات، تراه الساردة تهمة، ويقول عشيقها ذاك: «تدافعين عن هذه التهمة! أية تهمة؟ وأمام من؟ أمام زوجك؟ وهو أحد المتهمين في هذا البلد! الذي أعجب له الأكثر، أن يكون الحب هو الفعل الذي يحرص الناس على إخفائه الأكثر، والتهمة التي يتبرأون منها بإصرار. ما عدا هذا.. فبإمكانك أن تكون مجرما وسارقا وكاذبا وخائنا وناهبا لأموال الوطن...»، يعتبر الحب جريمة، مع أن كل الجرائم الحقيقية سائدة ومباحة. إنه مثل الأنوثة، فالإعلان عنها أيضا جريمة فتصبح الأنوثة، مثل الكتابة، تهمة «كنت أتحدى القتلة، شاهرة التهمتين اللتين جمعتهما: تهمة الأنوثة وتهمة الكتابة، تلك التي كانت تحديا صامتا في يدي...»2. وإذا كانت الأنوثة تهمة تلصق فقط بالمرأة لأنها هي الوحيدة التي ابتليت بها، فإن التهمتين الأخريين مشتركتان بين المرأة والرجل، لذلك أضحت «الكتابة في هذا البلد هي التهمة الأولى التي قد تفقد بسببها الحياة». فكان على رأس قائمة من يستهدفه الإسلاميون والجيش معا بالقتل هم الكتاب الصحفيون، فعاشوا قبل قتلهم يختبئون أو يلتحفون الظلام أو يسيرون جنب الحائط. الكتابة/التهمة هي التي جعلت الساردة تقرر أن تقوم «بمحاولة اكتشاف فضائل الجهل، ونعمة أن تكون أميا، في مواجهة الحب، وفي مواجهة الكتابة.. وفي مواجهة العالم.»3. فيكون الجهل في الجزائر قيمة مطلوبة وضرورية تؤخر القتل بعض الشيء...
لقد افتقدت البطلة /الساردة /الكاتبة المتخيلة متعة الحب في بيتها مع زوجها، وهو ضابط كبير أو دكتاتور صغير في هيئة زوج4 يتحكم في قدرها، زوج تدخله في خانة أحد «نوعين من الأغبياء: أولئك الذين يشكّون في كل شيء. وأولئك الذين لا يشكون في شيء»5. وحين افتقدت متعة الحب في بيتها اختلقت رجلا من ورق عشقته ومتعت به أنوثتها المشتعلة، تنجذب إليه بواسطة صوته وصمته أو بواسطة كلامه النادر وغموضه وبواسطة عطره الممزوج برائحة السجائر، كل شيء فيه يثير شبقيتها فتسافر إليه من قسنطينة إلى العاصمة؛ وكثيرا ما نبهها للخروج من أوهامها، قائلا: «... أنا كائن حبري أسافر بين دفاترك ومعك فقط ومن قسنطينة إلى العاصمة..»6، ليؤكد أنها تعيش الوهم في هذا الحب. ولكنها مصرة على أن تقدم صورة المرأة التي لا تملك ولا تضمن أي شيء لها إلا هذه الأنوثة اللصيقة بها، لأن الأقارب كلهم مهددون، مثلها، بالرحيل، فقد كانت الساردة تعيش بين ثلاثة رجال ينتظرون القتل المفاجئ، «بين أخي الأصولي الذي تطارده السلطة، وزوجي العسكري الذي يتربص به الأصوليون، وذلك الصحفي الذي أحب، والذي يصفي الاثنان حساباتهما وخلافاتهما بدمه، كيف يمكن لي أن أعيش خارج دائرة الذعر»7. فخارج دائرة الموت المحقق ينحشر المواطن في دائرة الذعر...
وحين ترغب البطلة في ممارسة الحب الوهمي مع عشيقها الوهمي أيضا تنتقل من قسنطينة إلى العاصمة لتقيم في فيلا من فيلات إحدى القرى السياحية المجاورة، تعود «إلى أيام الاحتلال الفرنسي، يوم كان كبار الإقطاعيين الفرنسيين، يعمرون فيلات فخمة على الشواطئ الجزائرية» قريبا من السهول التي كانوا يملكونها. «بعد الاستقلال، حجزت الدولة الأملاك الشاغرة التي تركها المعمرون الفرنسيون لتكون مقرا صيفيا لكبار الضباط والمسؤولين الذين أصبح لهم وجود شرعي ودائم على شواطئ موريتي وسيدي فرج، ونادي الصنوبر»8، يعيشون فيها الليالي الحمراء حينا وحينا يرسلون إليها نساءهم وأولادهم، وقد جعلت حياة، الزوجة فبيلاتها مستقرا لها كلما تخيلت بطلها المعشوق فتنتقل إليه بسهولة. وحياة، الكاتبة، العاشقة لبطل روايتها، والزوجة على ضرة تزوجها منذ عشرين سنة وله معها ثلاثة أولاد، «قبل أن يصبح ضابطا، بحيث كان لابد له ككل المسؤولين من حوله، أن يعيد النظر في حياته الزوجية»9. الساردة هي زوجة ثانية تزوجها صغيرة حين أصبح ضابطا كبيرا في الجيش، زوج لا تشعر بأي انجذاب نحوه، هو مجرد زوج «السترة». والبطلة متعددة الأدوار في الرواية هي الشخصية الرئيسية في الرواية وساردة لكل أحداثها، وهي كاتبة في النص، وزوجة وبنت وأخت وعشيقة، غير أنها، مثل عشيقها بطل روايتها المفترضة، خلقت منذ البدء لتكون «كائنا من ورق وحبر، تلغيه هذه الكميات الهائلة من الماء والبخار»، صرحت الساردة حين ذهبت مع أمها إلى الحمام البلدي دون أن تأخذ معها مستلزمات الحمام10. حب وحبيبان من حبر على ورق. حب/ وهم تحلم به المرأة المثقفة في هذه البلاد المشبعة بالفواجع.
2 حب/ هروب:
لكنه لم يكن حبا عاديا، هو حب غريب. حب واهم: «ولكن قبل أن أرفع السماعة، دق الهاتف وهزني. كان زوجي على الخط يَحدث لكلمة «ألو» أن تقتل الوهم أيضا»، كانت تتهيأ لتتصل بعشيقها من فيلا الاستجمام تلك، تستعجل اللحظات الممتعة فسبقها زوجها الضابط بذلك «الآلو» ليتبادلا جملا عجلى، «وكأننا نتحدث على بعد قارات.» 11. فيغتال فيها الحلم الممتع، أو الوهم اللذيذ، إنها بحبها ذاك تهرب من زواج كالكابوس، يعانقها فيه زوج مزعج وقاتل، كما قال لها أخوها ناصر: «ولا يزعجك أن يحتضنك بيدين ملطختين بالدم؟ بتعليمات منه يسجن الأبرياء، وتمتلئ هذه القبور.»12. تهرب من واقع عام كالجحيم، ينتظر فيه الشخص، في كل لحظة، رصاصة أو خنجرا ينبثقان من المجهول... غير أنها كلما راودتها نية الحب تنبت فجيعة في الوطن، «طبعا... لم أكن أدري أنه يكفي أن أنوي الحب، كي تنقلب البلاد رأسا على عقب، ولا توقعت أن التاريخ سيهدي إلى الجزائر يومها إحدى مفاجآته. ولا أن الرئيس الشادلي بن جديد سيختار ذلك السبب بالذات، ليعلن في نشرة الثامنة مساء من ليلة 11 يناير 1992 استقالته، وحل البرلمان ومن ثم دخول البلاد في متاهة دستورية. لم أعتب على الشادلي بن جديد إهدار رغبتي. فقد أهدر قبلها سنوات بأكملها من رغبات شعب»13. الشادلي بن جديد رغم مساهمته في إهدار رغبات شعبه فقد أحس بخيوط القتل تنسج حوله، فأراد أن ينجو بجلده، ليقدم المقصلة لمحمد بوضياف على عرش من الرئاسة... كانت ترغب في لقاء عشيقها حين هز هذا الحدث بلادها. وحين انتقلت إلى عشيقها في قسنطينة وهي راكبة سيارة زوجها الضابط الكبير، سيارة دولة بسائقها، قتل هذا السائق على مقربة منها لاعتقاد القاتل أنه الضابط نفسه، وحين ذهبت تبحث عن العشيق في أحد أحياء العاصمة صادفت مظاهرات صاخبة نظمها الإسلاميون...
فلابد أن يكون هذا الحب ومتعته ولذاته مهربا وهو ما يؤكده عشيقها الوهمي قائلا: «في زمن النهايات المباغتة، والموت الاستعجاليّ والحروب البشعة الصغيرة التي لا اسم لها، والتي قد تموت فيها دون أن تكون معنيا بمعاركها، الجنس هو كل ما نملك لننسى أنفسنا»14. الجنس، أو الحب الذي تكرره الساردة في النص، من أجل نسيان ما يقع، نسيان الرعب والقتل اليومي في وطن الفواجع.
3 وطن الفواجع:
لم تعد الجزائر حلما مفتوحا على مستقبل زاهر كما كان ينتظره ثواره، الذين استشهدوا في سبيله أو الذين اعتقلوا من أجله خلال أيام الاستعمار وأيضا خلال أيام الاستقلال. بل أنتج استقلالُه نخبة من الحكام العسكريين ومواليهم استفادوا أثناء الثورة ونهبوا الوطن بعد الاستقلال، «... نجحوا في اختصار مشقة الحياة، ناهبين البلاد حيث وجدوا، مشهرين غنائمهم دون خجل، رافعين في بضع سنوات فيلِّيات شاهقة، تقع عند بابها سيارات فاخرة. وتسكنها امرأة تسافر إلى أوربا في كل المناسبات لتجدد خزانتها»15. أفقروا الوطن رغم البترودولار وأفقدوا الشعب الأمن الشخصي والجماعي وحرموه من وطنه في واقع مرعب. واقع حول هذا الوطن إلى مجرم مفجع، «الوطن؟ كيف أسميناه وطنا.. هذا الذي في كل قبر له جريمة.. وفي كل خبر لنا فيه فجيعة»16. وطن قاتل لأبنائه «.. أي وطن هذا الذي كنا نحلم أن نموت من أجله.. وإذ بنا نموت على يده... أوطن هو؟! .. هذا الذي كلما انحنينا لنبوس ترابه، باغتنا بسكين، وذبحنا كالنعاج بين أقدامه؟! وها نحن جثة بعد أخرى نفرش أرضه بسجاد من رجال، كانت لهم قامة احلامنا.. وعنفوان غرورنا»17، كما فعل بالرجل الطيب النزيه الأمين، محمد بوضياف. أي وطن هذا الذي يهدر فيه الشباب الوقت في قاعة السينما، وفي الشارع وهم متكئون على جدار18؟! لغياب فرص العمل. أي وطن هذا الذي تصبح وتمسي فيه على فواجع، وتتحول فيه الأعياد مآتم؟! ف»قبل أن تفتح الجريدة، يهجم عليك الوطن بعناوينه الكبرى، «السلطات العسكرية تعلق حظر التجول إلى ما بعد عيد الأضحى»، «اعتقال 469 شخصا خلال الأيام الثلاثة الماضية»، «جبهة الإنقاذ تعلن العصيان المدنيّ، وبدء الإضراب والاعتصام المفتوح»، «حضور عسكري مكثف حول المباني الرسمية والمساجد...»19. أي وطن هذا الذي لم يستثن حتى المقابر من القتل فيتفاجأ «أولئك »الأذكياء» الذين جاؤوا لزيارة موتاهم بعد يومين أو أكثر. فقد فوجئوا بمن ينتظرهم ليلا ونهارا خلف القبور، وذهبت بهم المفاجأة في مقبرة. »20... هذا هو الوطن الذي أعاد صياغته الحكام العسكريون في الجزائر خلال وقبل وبعد التسعينيات من القرن الماضي، وأشبعوا واقعه قتلا ودمارا مطلقين.
أصبح أبناء الشعب، على رأسهم النخبة المثقفة، يتوجسون بالقتل في أية لحظة والقتلة كثر يمكن أن ينبثقوا من زحمة الشارع أو ينتظرونك في زاوية أو يلتقون بك وجها لوجه في الشارع أو يجلسون بجانبك في المقهى يخفون وجوههم في جرائد، أو يفاجئك رصاص شرطي أو جندي وهما يتوقعان أن تقتلهم في أية لحظة أيضا... يقول ناصر، أخ حياة/الساردة: «الموت أقرب إلينا مما تتوقعين. أتريدين أن أدلك على قبر لصديق، قتل منذ أيام دون مبرر، سوى لأنهم اشتبهوا في أمره، وهو يضع يده في جيبه ويوشك أن يخرج منها شيئا، على مقربة من شرطي. عندما قتلوه، اكتشفوا أنه لم يكن يحمل في جيبه شيئا»21. بل إن «الرجال يعيشون في هذا البلد عدوى انتشرت بينهم.. جعلتهم جميعهم يتكلمون الكلام نفسه، ولا يحلمون سوى بالرحيل؟»22، ومن يتوهم أكثر يحلم بأن يهجر البلاد خوفا من الموت المفاجئ أو السجن المجاني، كما فعل ناصر23... الوطن الذي يستورد الأكباش ويصدر البشر، وتتحول فيه الأعياد الدينية المقدسة إلى مآتم «هذا العام أتوقع أن تكون الحاجة إلى الصدقات قد زادت، بعدما تجاوزت أسعار الخروف، العشرة آلاف دينار جزائري. وهو ما جعل أضحية العيد تفوق ثمن الإنسان نفسه، الذي لا يكلف هذه الأيام أكثر من رصاصة..»24. وطن أفقروا فيه الأمة واغتالوا في أبنائه الفرحة وأنتجوا له الإرهاب المركب يزرع الموت والرعب في كل ربوعه...
بعد أن قدم الشادلي بن جديد استقالته من الرئاسة، ثم أتوا لهذه الرئاسة برجل كان منفيا في المغرب يعيش هادئا يجتر أحلام الثورة التي كان من قادتها وترعبه كوابيس وطنه الراهنة. مناضل كان قد اعتقله رفيقه في المقاومة، الرئيس الأول للجزائر، أحمد بن بلة سنة 1963. وسوف يعتقل بومدين بن بلة نفسه ويرمي به في السجن سنة 1965 بعد أن أزاحه من السلطة «ليخرج منه بعد خمسة عشر عاما عجوزا»25. من السجن انتقل محمد بوضياف إلى المنفى في المغرب، «كان يسكن في مدينة صغيرة، بالمغرب (القنيطرة) ناسيا العمل السياسي26. »تذكروه، هكذا فجأة، بعد ثلاثين عاما، وقد شبعوا وانتفخوا، وملأوا جيوبهم وأفرغوا جيوب الجزائر. وانسحبوا تاركين لنا وطنا مرهونا لدى البنك الدولي»27، بل أوهموا بترك الوطن... أتوا به ليبعثوا الأمل في الشعب، اعتبره البسطاء المنقذ والحلم المنتظرين. تقول الساردة: «نحن نبحث عن رجل في بساطة أهلنا، يمرر يده على رأسنا... يعدنا بأحلام بسيطة ندري أنه سيحققها... ... رجل منذ نزوله من الطائرة يعلن الحرب على من سطوا على مستقبلنا، وبنوا وجهاتهم.. بإذلال وطن»28.
مثلت عودته مركز حب البسطاء وبؤرة أحلامهم. كان الناس يريدون وضع الحد للمفسدين ناهبي خيرات البلاد، وتوافق ذلك مع مشروع بوضياف، فقد قال في خطاب له بثه التلفيزيون: «إن في هذا البلد مافيا ومسؤولين استحوذوا على أموال ليست لهم. أعدكم بإعلان حرب حقيقية على هؤلاء...»29. ولم يمهلوه في الرئاسة أن يتمم فيها نصف عام، حتى اختطفوا من فمه الكلمة والحياة، «وقبل أن ينهي جملته، كان أحدهم، من المسؤولين عن أمنه، يخرج إلى المنصة من وراء الستار الموجود على بعد خطوة من ظهره، ويلقي قنبلة تمويهية.. جعل دويها الحضور ينبطحون جميعهم أرضا. ثم راح يفرغ سلاحه في جسد بوضياف، هكذا مباشرة أمام أعين المشاهدين، ويغادر المنصة من الستار نفسه»، فاغتالوا أحلام الجزائر30. ليستمر رجال الجيش وكل من ينصبونه معهم من المدنين، ينهبون ويقتلون ويعمقوا جر البلاد نحو الوراء...
هذا ما تقوله رواية «فوضى الحواس» عن فضائها خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، فماذا يمكن أن يقوله الأدب عن الفواجع المركبة التي أنتجت بعد هذا العقد، ربما سيبقى الأدب عاجزا على تصوير الفظاعة التي أضحت تفيض في الواقع وعلى الواقع.
لا يمكن أن نجد كاتبا أو كاتبة في دقة أحلام مستغانمي في استبطان فوضى الحواس وشدة توتراتها، وفي عمق معرفتها الثقافية ومعرفة وطنها ماضيه وحاضره وتوقع مستقبله، ومعرفتها بمحيطه الجهوي والعالمي، وفي شاعريتها المتدفقة، وفي قوة وصفها للألم والشعور بالغربة والعزلة، وفي طاقتها التخيلية المركبة التي تجمع بين التذكر والاسترجاع والاستباق، بين الكوابيس والأحلام وبين الحزن المرعب والفرحة المدفونة في أعماق النفس، وفي عمق شفافية جملها القصيرة التي تشبه الأنين حينا والصرخة حينا آخر، ولا في قدرتها التي تجمع بين عدة مجالات الإبداع والكتابة: من قصيدة ورسالة ومقالة صحفية ومن حوارات مشهدية. كان من الممكن لهذه الروائية الفذة أن تكون أفضل مؤرخ لواقع وطنها الراهن لو استمرت في تتبع ومتابعة ذلك الواقع؛ غير أن الكاتبة يبدو أنها فضلت اللجوء الأدبي، عوض السياسي، إلى موضوع الحب، موضوع أرحب وأوسع من الوطن الخاص نفسه، موضوع لوطن أعم هو الكون...
هوامش
1 طبعة دار الآداب بيروت، الطبعة السابعة عشرة، 2008.
2 ص. 359.
3 ص. 371372.
4 ص. 152.
5 ص. 152.
6 ص. 194.
7 ص. 340.
8 ص. 141.
9 ص. 311.
10 ص. 231.
11 ص. 191.
12 ص. 205.
13 ص. 236.
14 ص. 355.
15 ص. 216.
16 ص.368.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.