الناظور تحتفي بالذكرى التاسعة عشرة لانطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية    إعلاميون مغاربة يعتصمون بملعب القاهرة بسبب "الاعتمادات"    الأمن الوطني يطلق منصة رقمية "إبلاغ" لمحاربة الجرائم الرقمية    وزارة الحج السعودية تنبه: تأشيرة العمرة لا تصلح لأداء الحج    سبتة تفتح مسبحها البلدي الكبير بأمل تحقيق انتعاش سياحي    الأمثال العامية بتطوان... (602)    كأس الكونفدرالية الإفريقية (إياب النهائي).. نهضة بركان على بعد خطوة واحدة من تتويج قاري جديد    فرنسا-المغرب.. توقيع اتفاق حول الإنتاج المشترك والتبادل السينمائيين    هلال يدين ضغوط السفير الجزائري على الوفود الداعمة لمغربية الصحراء بكاراكاس    جهة طنجة تتطلع الى استقطاب 700 الف سائح جديد في أفق 2026    أخنوش يقود الوفد المغربي بمنتدى الماء العالمي بإندونيسيا.. وجائزة الحسن الثاني تخطف الأنظار    الداخلية تكشف حصيلة 19 سنة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية    مطالب للحكومة بضمان تمدرس الأطفال المتشردين    حنون تدخل على خط الرئاسيات الجزائرية    بنسعيد يتفق مع نظيرته الفرنسية على محاربة السطو على التراث الثقافي.. ويوقعان اتفاقا في السينما    إحباط تهريب وترويج 62,550 قرص مخدر وضبط ثلاثة مشتبه بهم    نهائي الكاف.. الموعد والقنوات الناقلة لمباراة إياب نهضة بركان والزمالك    هكذا يهدد المغرب هيمنة إسبانيا في هذا المجال    زهير الركاني: آليات الوساطة والتحكيم ركائز أساسية في عملية التطوير والتنمية التجارية لتنمية جهتنا و مدينتا    خطاب جلالة الملك محمد السادس في القمة العربية : تصور إستراتيجي جديد للعمل العربي المشترك    الداخلية تمنع عقد مؤتمر ب "آسا" لقبائل "آيتوسى" كان سيٌعلن رفضها تفويت أراضيها الجماعية    أخنوش يترأس الوفد المغربي المشارك في المنتدى العالمي العاشر للماء بإندونيسيا    نائب رئيس الموساد سابقا: حرب غزة بلا هدف ونحن نخسرها بشكل لا لبس فيه واقتصادنا ينهار    فلاحون فرنسيون يهاجمون شاحنات طماطم قادمة من المغرب    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    مداهمة مستودع بداخله قنينات خمر ولفافات كوكايين بطنجة    وفاة دركي خلال حادثة سير بطنجة    التصدير يرفع أسعار الخضر بالمغرب ومهني يوضح    غامبيا تجدد تأكيد "دعمها الثابت" للوحدة الترابية للمملكة    غزة.. مقتل 35386 فلسطينيا جراء الغزو الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر    المعرض الدولي للكتاب يحتفي برائد السرديات العربية "العصامي" سعيد يقطين    "حفيدة آلان ديلون" تراهن على نتائج فحوصات إثبات النسب    أوكرانيا تنفذ عملية إجلاء من خاركيف    المغربي مهندس مطار غزة يبرز "لقاءات مع التاريخ" في دعم القضية الفلسطينية    البحث عن الهوية في رواية "قناع بلون السماء"    بيان صحفي: ندوة لتسليط الضوء على مختارات من الإنجازات البحثية ضمن برنامج الماجستير في إدارة حفظ التراث الثقافي    تصفيات كأس العالم.. المنتخب المغربي النسوي لأقل من 17 عاما يفوز برباعية نظيفة على الجزائر ويتأهل للدور الرابع    بسبب سلوكه.. يوفنتوس يقيل مدربه أليغري بعد يومين من تتويجه بكأس إيطاليا    مدرب مانشستر يونايتد: "سعيد بتألق سفيان أمرابط قبل نهاية الموسم"    الدورة الأكاديمية "الشعري والسردي" فاس، 23-24 ماي 2024    مشروع بأزيد من 24 مليون درهم .. هذه تفاصيل الربط السككي بين طنجة وتطوان    قرار جديد من الفيفا يهم كأس العالم 2030 بالمغرب    الصين: مصرع 3 أشخاص اثر انهيار مصنع للشاي جنوب غرب البلد    شفشاون.. الطبخ المغربي فسيفساء أطباق تعكس ثقافة غنية وهوية متعددة    وزير الخارجية الإسباني: رفضنا السماح لسفينة أسلحة متجهة لإسرائيل بالرسو بموانئنا    الساكنة تستنكر لامبالاة المسؤولين تجاه حادث انفجار أنبوب للماء الصالح للشرب وسط الناظور    فرق كبيرة تطارد نجم المنتخب المغربي    افتتاح الدورة الثانية عشرة لمهرجان ماطا الذي يحتفي بالفروسية الشعبية بإقليم العرائش    ملتقى الأعمال للهيئة المغربية للمقاولات يبرز فرص التنمية التي يتيحها تنظيم كأس العالم 2030    هدى صدقي تكشف عن جديد حالتها الصحية    المغرب يسجل 35 إصابة جديدة ب"كوفيد"    كيف يتم تحميص القهوة؟    دراسة: توقعات بزيادة متوسط الأعمار بنحو خمس سنوات بحلول 2050    رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً في إطار تحدٍّ مثير للجدل    الأمثال العامية بتطوان... (600)    السعودية تطلق هوية رقمية للقادمين بتأشيرة الحج    وزارة "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    العسري يدخل على خط حملة "تزوجني بدون صداق"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوراق من ذاكرة باهي 17
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 24 - 06 - 2016

أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك..
وبعد أخذ ورد تنازل الحاكم واستقبل المتظاهرين وقرأوا عليه نص عريضتهم بالعربية ثم تلوا ترجمتها بالإسبانية. وجاء الرد ينضح بالغطرسة والإستخفاف.»أنا هنا في الصحراء مثل فرانكو بالنسبة للإسبانيين، أي بصفتي قبطانا للسفينة وهدفي أن أوصلها إلى شاطئ الأمان». ألقى الحاكم خطبته القصيرة وأصدر الأوامر بتفريق المتظاهرين وأخذ معه العريضة التي قدمت إليه. وفي مساء ذلك اليوم عاد مندوب الحكومة ومعه دورية من الشرطة المحلية ولما رآه الناس تصوروا أنه يحمل إليهم ردا على العريضة فهرع اليه ثلاثة من الشبان لاستقباله وجرى اعتقالهم في الحين. وعلى الفور بدأت ثورة حجارة صغيرة في تلك الضاحية الشعبية لمدينة العيون. لقد رد المتظاهرون المتجمعون في حي الزملة بعد اعتقال الشبان الثلاثة بإلقاء كميات قليلة من الحجارة على أفراد القوة الرسمية. ويبدو أن حجرا شائطا أصاب المدعو مويرتا، ممثل الحاكم العام، فبادر بالعودة إلى مقر الإدارة المركزية بمدينة العيون ليندد بما وصفه «خرقا سافرا للقانون».
في تقرير لاحق كتبه ضابط في الشرطة المحلية وصف لما جرى..
«حوالي الساعة السابعة والنصف مساءا ظهرت سرية من الجيش يقودها القبطان أركوشة، وعندما سألته عن سبب وجوده أجابني، أنه تلقى تعليمات بتفريق المتظاهرين. وقد أصدر تعليمات إلى جنوده بالإنتشار وراء مواقع وخطوط دفاعنا... وظلت قواته تتقدم ببطء وعندما اقتربت بضعة أمتار من المتظاهرين أمطروها بوابل من الحجارة وأخذوا يرمونها بالحصى كما سبق لهم أن فعلوا مع الشرطة. وقد أطلق الجنود عيارات نارية في الهواء، سقط على إثرها عدد من الأهالي ودب الرعب في صفوف المتظاهرين الذين هربوا في كل الإتجاهات والجيش يلاحقهم»(المصدر السابق صفحة 197).
بعد ثورة الحجارة في «الزملة» اعترفت الحكومة الإسبانية بموت شخصين، بينما رفعت الحكومة المغربية شكوى إلى وزارة الخارجية الإسبانية أكدت فيها سقوط عشرة أشخاص ضحايا لعملية القمع المذكورة، أما وزير الإعلام الموريتاني، الذي استقى معلوماته من شهود عيان ومسافرين وصلوا إلى بئر أم كرين، فقد أصدر بيانا رسميا يعلن أن عدد قتلى مظاهرة الزملة يبلغ إثني عشر شهيدا، فيما قدر زعماء حركة التحرير الذين لجأوا إلى نواكشوط العدد نفسه بأحد عشر قتيلا. وبالطبع أقدمت السلطات على اعتقال مئات «المشبوهين» وأسفرت عمليات القمع عن تصفية حركة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب.
وفي الهزيع الأخير من تلك الليلة الدامية، اختطفت قوات الأمن ابراهيم محمد البصيري الذي وصفته التقارير السرية بأنه «مشاغب كلاسيكيي» وكان ذلك الإختطاف بداية لغياب أبدي وادَّعت السلطات الإسبانية لاحقا أن ابراهيم البصيري أُبعد إلى المغرب بعد بضعة أيام على اعتقاله، وهو أمر نفته الحكومة المغربية نفيا قاطعا. وقد اتصل وفد من أسرة ابراهيم محمد البصيري، المقيمة بمدينة الطنطان، ببعثة من الأمم المتحدة زارت تلك المدينة عام 1975، و أخبرها بأن أخباره انقطعت عن أهله مند 1970 والإعتقاد السائد لدى جميع أهل الصحراء هو أن البصيري تم اغتياله، من قبل خاطفيه الإسبانيين.
إراقة الدماء بتلك الطريقة الوحشية في ضاحية مدينة العيون أثناء صيف 1970، جاءت لتدق أجراس أوهام أؤلئك الذين كانوا يؤمنون بإحتمال التفاهم مع إسبانيا، وقد وقعت تلك الأحداث في فترة كانت فيها الحركة السياسية الوطنية تتعرض لسلسلة من المحن والمضايقات.
كان الحدث السياسي الأبرز في العام السابق، هو الإنتخابات القروية التي أجمعت كافة الأحزاب السياسية الحقيقية، أي المستقلة عن الإدارة على انتقاد ظروف إعدادها. لقد انتقد حزب الاستقلال مثلا الإهمال الملحوظ في إعداد اللوائح الإنتخابية وقارنت صحافته بين عدم الإكتراث بهذا الجانب وبين الدقة والسرية والجدية التي ترافق إعداد قوائم المرشحين المؤيدين للحكومة. وعبر هذا الحزب منذ ابتداء الحملة الإنتخابية عن رغبته في المشاركة لكنه اشترط إلتزام الحدود الدنيا من الديمقراطية، حرصا على إنجاح تجربة اللامركزية.
والعودة إلى أدبيات تلك المرحلة تترك لدى المراقب الإنطباع بأن حزب الإستقلال كان يطرح مساهمته في تلك الإستشارة الشعبية ضمن موقف أعم وأشمل يهدف إلى إخراج المغرب من حالة الإستثناء. لقد كانت كل المؤتمرات الإقليمية تطالب بإنهاء حالة الإستثناء هذه. أما الإتحاد الوطني للقوات الشعبية (الإتحاد الاشتراكي اليوم) فقد سلم مذكرة إلى رئاسة الحكومة (أبريل 1969) يعبر فيها عن استعداده لتحمل مسؤولياته، أي المشاركة في الإنتخابات بشرط أن تتوفر ضمانات أولية لحرية الترشيح وممارسة حرية التعبير والتجمع وحياد الادارة ورفع تدابير الحظر على صحافته. حزب التقدم والاشتراكية انتهج هو الآخر موقفا مماثلا. اتخذت هذه المواقف كلها في فصل الربيع من ذلك العام، وفي فصل الخريف تغير كل شيء: فقد عقدت اللجنة المركزية للإتحاد الوطني للقوات الشعبية اجتماعا سريعا (بداية 1969) أعلنت بعده مقاطعة الحزب للإنتخابات سواء على مستوى الترشيح أو على الدعاية. وقد لاحظ الإتحاد أن المذكرة التي سلمها إلى الحكومة في شهر أبريل لم تأخذ في الإعتبار، كما لاحظ أن هناك سلسلة من الوقائع والمؤشرات تؤكد أن وزارة الداخلية قامت بتعين المستشارين، حتى من قبل أن يحل موعد توجه الناخبين إلى صناديق الإقتراع، وخلص من ذلك كله إلى تسجيل السلوك اللاديمقراطي للجهاز الإداري وإلى رفض السلطة المركزية لأية رقابة شعبية وبالتالي لا جدوى للإنتخابات.
لكن الحدث الأهم من ذلك كله، في تلك الفترة السابقة للإنتخابات هو صدور بيان مشترك بين الإتحاد الوطني وحزب الإستقلال، إعتبرته الصحافة المغاربية (خاصة مجلة جون أفريك) والفرنسية (لوموند) مؤشرا إلى تقارب لن يأخذ مداه الكامل إلا بعد زلزال الصخيرات وظهور الكتلة الوطنية. وصدور البيان المشترك لم يلغ بجرة القلم، الخلافات الموجودة في الإتجاهات بين التنظيمين. لقد ظل الإتحاد متمسكا بموقف المقاطعة بينما حدد حزب الإستقلال خطا أكثر إلتباسا يمكن تحديده في تعبير «المشاركة من دون مشاركة» أي أن الحزب لم يلزم أعضاءه بالمقاطعة، ولم يلزمهم بالمشاركة، ولكن ترك لهم حرية التصرف كأفراد. أما حزب التقدم والإشتراكية فقد أصدر بيانا يعلن فيه مقاطعته لتلك التجربة، ويدعو إلى رفع حالة الإستثناء وإطلاق سراح قادته المعتقلين.
الإتحاد المغربي للشغل، وكان ما يزال، أكبر منظمة نقابية آنذاك، دعا من جهته العمال إلى التنديد بالتزوير ومواصلة النضال من أجل توفير الشروط الموضوعية لديمقراطية حقيقية تضمن لكل مواطن حقه في أن يشارك بصورة واعية، منظمة ومسؤولة، بإدارة الشؤون العامة (المصدر حولية شمال إفريقيا صفحة 333).
في هذا الجو المتأزم بين السلطة و القوى السياسية الوطنية عاش طالب صحراوي آخر من مواليد نفس المنطقة الجغرافية التي نشأ فيها محمد البصيري.
إنه الوالي مصطفى السيد مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (البوليساريو) الوريث المباشر لحركة التحرير التى كانت بدورها وريثا شرعيا لجيش التحرير المغربي.
لقد أدت سياسة القمع التي انتهجتها السلطات الاسبانية بالأعضاء الذين أفلتوا من الإعتقال، إلى اللجوء إما إلى المغرب، أو موريتانيا، أو الجزائر.
الوالي مصطفى السيد (أو لولي كما يسميه رفاقه وأصدقاؤه) ولد عام 1948 بمكان ما من مفازات الحمادة، أي هذه الفيافي الشاسعة الممتدة ما بين الطنطان وتندوف، وعاش طفولة بدوية، متنقلة قبل أن يستقر مع أسرته ببلدة الطنطان علم 1958 الذي شهد حل جيش التحرير المغربي. ومثل أغلب الصحراوين المغاربة، الذين كانوا يسكنون القصابي والمداشر والدواوير والواحات في الجنوب المغربي، بعد إخفاق انتفاضة سنوات 1956/1957/1958 في الصحراء المغربية وموريتانيا،كانت أسرة هذا الشاب تعيش في حدود الكفاف. لقد أسفرت هزيمة جيش التحرير المغربي نتيجة للتحالف الفرنسي الإسباني، عن تدفق آلاف المقاتلين مع عائلاتهم للإقامة حول المراكز الحضرية حيث عاشوا في ضنك وبؤس شديدين.
مصطفى السيد والد الوالي،كان شيخا مقعدا عاجزا عن العمل وأمه مباركة كانت تكسب بضعة دراهم كخياطة فيما كان شقيقه الأكبر، نبات، يتلقى راتبا متواضعا كحارس. كانت الحياة صعبة وقاسية إلى درجة أن أسرة مؤسس جبهة البوليساريو، لم تتمكن من الإستمرار في عداد الأحياء إلا بفضل كميات الدقيق والزيت والسكر، التى كانت توزعها الحكومة المغربية مجانا على الصحراويين في الأقاليم الجنوبية للمملكة. وعلى الرغم من هذه الصعوبات، فقد بدأ الوالي يتخلف في الحضور إلى المدرسة الإبتدائية في مدينة الطنطان (1961-1962)، ولكنه، أبعد منها عام 1963 لانقطاعه عن حضور الدروس الإلزامية.كان يكثر من التغيب بسبب اضطراره إلى الترحال مع قطيع أغنام يملكه والده الفقير. وسوف يتدخل بعض أقاربه لقبوله مجددا في المدرسة وسوف ينجح في الحصول على الشهادة الإبتدائية، كما أنه سيحصل على منحة من وزارة التربية الوطنية المغربية ليتابع دراساته الثانوية،كطالب داخلي، في معهد ابن يوسف بمدينة مراكش...
في معهد ابن يوسف، بدأ الوالي مصطفى السيد يلتهم كتب الشعراء والروائيين العرب، وظهر ميله المبكر إلى التمرد حين اصطدم بعميد هذه المؤسسة المدرسية العريقة اصطداما أدى إلى شطب اسمه منها وإقصائه بتهمة عدم الإنضباط (1965)، بعض الروايات تقول أن هذا الإبعاد ليس غريبا عن ردود الفعل التي أحدثتها في أوساط الطلاب المراكشيين، انتفاضة الدار البيضاء، وتذهب إلى حد القول بأن الوالي كان من الذين دعوا إلى التضامن مع تلامذة العاصمة الاقتصادية، وأن موقفه هذا هو الذي قاد مدير المؤسسة إلى طرده خوفا من تأثير شغبه على الآخرين. وسواء صح هذا التفسير، أو غيره، فالذي لا شك فيه هو أن الوالي مصطفى السيد اشتغل ليكسب قوته فترة من الوقت عاملا في بناء الطرقات، ثم انتقل من مراكش إلى مدينة تارودانت ودخل مدرسة ثانوية فيها المعهد الإسلامي، بعد أن حصل على منحة جديدة من الحكومة. وإذا صُدقت بعض الروايات المتواترة، فقد بدأ الوالي وهو في تارودانت، تلك المدينة السوسية العريقة الواقعة على مسافة 125 كيلو مترا إلى الشرق من أكادير. يهتم لأول مرة بالسياسة من خلال الإعتناء بنشاط جبهة تحرير الصحراء التي أنشأها عدد من الصحراويين المغاربة. ومن تارودانت، ودائما من أجل الاقتراب أكثر فأكثر من مراكز القرارات و الأحداث السياسية المتعلقة بالصحراء، انتقل الوالي إلى مدينة الرباط، العاصمة الإدارية للمملكة المغربية، وحصل للمرة الثالثة على منحة رسمية من الحكومة مكنته من استكمال دراساته الثانوية في مجموعة مدارس محمد الخامس، أي في قلب مؤسسة تعتبر منارة من منارات الحركة الوطنية المغربية، كل الذين عرفوه آنذاك يؤكدون أنه طالب لامع، وقد حصل على شهادة الباكالوريا بميزة عام 1970. وسوف يترك صاحبنا مقاعد الدراسة الثانوية ليدخل مؤسسة ثانوية جامعية أخرى تحمل نفس الاسم، ألا وهي جامعة محمد الخامس، دائما على نفقة الحكومة المغربية.
جامعة محمد الخامس، وقد دخل الوالي كلية الحقوق فيها، كانت تضم في بداية عقد السبعينات حوالي أربعين طالبا من أصول صحراوية مغربية، وكان جميع هؤلاء الطلاب منحدرون من نفس البيئة، أي أنهم عاشوا طفولتهم بدوا رحلا، ثم استقرت عائلاتهم في جنوب المغرب في ظروف قاسية جدا، بعد إخفاق الإنتفاضة المسلحة لأعوام 1956/1958، وسنوات الجفاف التي تلتها وأكملوا دراساتهم الثانوية، ثم انخرطوا في السلك الجامعي بفضل منح قدمتها لهم الحكومة المغربية باعتبارهم طلابا مغاربة ومن بين حوالي الألف شاب الصحراوي الذين نقلهم جيش التحرير من الجنوب نحو الشمال وألحقهم بالإبتدائيات ثم الثانويات في أكادير وتارودانت ومراكش والدار البيضاء والرباط، كان هؤلاء الجامعيون المسجلون في جامعة محمد الخامس يشكلون نخبة، تشير الإحصائيات إلى أن نصفهم حصلوا على شهادة الليسانس في منتصف عقد السبعينات، عدد من هؤلاء الطلاب سوف يلتفون حول الوالي في جامعة محمد الخامس، وسوف يلعبون دورا كبيرا في تشكيل جبهة البوليساريو. هكذا سنجد من بينهم محمد الأمين ولد أحمد، الذي ستسند إليه الوزارة الأولى فيما سمي ب»الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية»، ومحمد سالم ولد السالك، وزير الإعلام في نفس الوزارة والأمين العام حاليا للرئاسة الصحراوية، ومحمد سيداتي وزير الخارجية الحالي ومحمد علي ولد الوالي، وكلهم أعضاء في اللجنة التنفيذية لجبهة البوليساريو. أما بشير مصطفى السيد شقيق الوالي والذي يوصف اليوم بأنه الرجل رقم اثنين في الجبهة، فقد كان تلميذا في إحدى ثانويات مدينة أكادير وكان بشير مصطفى السيد على رأس الوفد الذي استقبل أخيرا في مراكش.
جميع هؤلاء الطلاب عاشوا ملحمة جيش التحرير المغربي مباشرة واستمعوا إلى وقائعها من آبائهم وتابعوا محاولات محمد إبراهيم البصيري وعرفوا ما حدث بضاحية العيون وانخرطوا مثل زملائهم الآخرين في معارك ومواجهات تلك المرحلة. وتأثروا جدا بأطروحات المقاومة الفلسطينية الصاعدة في المشرق. وقد شهدت الجامعات المغربية، ومن بينها جامعة محمد الخامس، في الفترة ما بين 1969 و1973 سلسلة من الإضطرابات والصدمات العنيفة مع قوات الأمن، وانزلق الإتحاد الوطني لطلبة المغرب، الذي كانو ينتمون إليه، باتجاه اليسار، حين استلمت قيادته عناصر عرفت وقتها باسم «الجبهويين»، وهم مجموعات من الشباب المتمرد، على قيادة الإتحاد الوطني للقوات الشعبية وقيادة حزب التقدم والإشتراكية، إضافة إلى بعض الوجوه التي «تغلغلت» أو غلغلت من الخارج بهدف تطبيق استراتيجية «زعزعة» تندرج في نطاق نسف تلك القلعة الحصينة من الداخل باعتبارها منظمة مغلقة لليسار (المؤتمر الثالث عشر...).
في جامعة محمد الخامس بالرباط أنشأ الوالي مصطفى السيد ورفاقه مجمع طلاب صحرويين، ببنية مرنة ورخوة للغاية.
ونستطيع أن نؤكد من خلال المتابعة الشخصية، ومن خلال المرويات والمسموعات والوثائق المنشورة في كتب مختلفة، أن فكرة الإستقلال أو إنشاء الدولة الصحراوية لم تكن تراود إطلاقا خواطر أفراد هذه النواة الأولى وسوف تقدم في مقالة لاحقة نصا للوالي مصطفى السيد، يعطي عنه صورة مختلفة تماما، عما هو شائع. أما في هذه المرحلة التي نعالجها الآن، (1972-1970) فنحن نلاحظ أن أولئك الذين سيؤسسون جبهة البوليساريو، حاولوا تحسيس الأحزاب السياسية الوطنية المغربية، المعارضة، المعروفة بدفاعها عن فكرة الوحدة الترابية، حاولوا أن «يحسسوها» بضرورة الإلتفات إلى القضية. وكان هذا التوجه أمرا طبيعيا لأن أحزاب الحركة الوطنية، بدءا من تصريحات الزعيم علال الفاسي الشهيرة في القاهرة (عام 1956) وحتى تلك الفترة التي نتكلم عنها، لم تكف عن المطالبة بإعادة الإقاليم المسلوبة، ولم يتوقف بعضها وخاصة اليسار عن التنديد بسياسة التواطؤ والتعاون التي انتهجتها الرباط مع مدريد في عهد الجنرال فرانكو.
وإذن فقد أجرى الوالي مصطفى السيد ورفاقه سلسلة اتصالات مع زعماء الأحزاب السياسية، وتحديدا مع علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد وعلي يعتة، كما قابلوا قيادة الإتحاد المغربي للشغل، وانخراط عدد منهم في هذه الأحزاب كمناضلين عاديين، والذين لم ينخرطوا كأعضاء عاملين، شاركوا في النشاط السياسي العام، فتظاهروا، وهتفوا، ووزعوا المنشورات ولطخوا الجدران بالملصقات والشعارات، في أكثر من مناسبة وطالتهم آلة القمع مثل ما طالت غيرهم من العاملين بالحقل السياسي، في تلك الفترة.
ولا تتوفر لدينا روايات مكتوبة كثيرة، يمكن المقارنة بين نصوصها المختلفة وتدقيق وتمحيص بعضها ببعض، حول تلك اللقاءات التي جرت بين زعماء المعارضة المغربية وجماعة الشبان الصحراويين التي أسست جبهة البوليساريو : هناك رواية مكتوبة من جانب واحد، هي تلك التي أوردها السيد أحمد بابا مسكة ممثل موريتانيا الدائم سابقا في الأمم المتحدة والناطق الرسمي سابقا باسم جبهة البوليساريو في كتابه «جبهة البوليساريو، روح شعب»«front polisario, l'ame d'un peuple» الصادر في بداية عام 1978 عن إحدى دور النشر الباريسية.
في هذا الكتاب الذي استمد المؤلف معلوماته حول الجانب المغربي الخالص للقضية من الوالي مصطفى السيد نفسه، شرح مفصل لنشأة البوليساريو، أو بالأحرى ميلاد النواة المؤسسة لها في الرباط، يقول فيه أحمد بابا مسكة :
«لقد تكونت جماعة صغيرة شديدة الحركية برزت من بين صفوفها بسرعة شخصية الوالي ولد السيد الإستثنائية، وقد حاول الوالي أن يحصل على تأييد واسع قدر الإمكان للتنديد بالإستعمار الاسباني والدفاع عن قضية تحرير الصحراء وإرغام إسبانيا على تطبيق مقررات الأمم المتحدة والإعتراف بحق تقرير المصير للشعب الصحراوي، حاول ذلك وحصل على التأييد الفاعل لليسار الطالبي الذي يشكل في تلك المرحلة تزكية لابأس بها. من ناحية السلطة جرت محاولة للإسترجاع حصل بعدها نوع من التسامح الإعتيادي. أما من جهة الأحزاب، فقد كان الوضع أكثر إلتباسا. رسميا، كان الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، يؤيد هؤلاء الطلاب الصحراويين. ولأسباب تكتيكية وانتخابية في نظر البعض لم يعبر الإتحاديون عن رأيهم بوضوح كامل، لكنهم عارضوا دائما المطالب التوسعية نحو الجيران لدوافع مبدئية وأيضا كرد فعل تجاه مواقف علال الفاسي الذي كانت شخصيته الطاغية واتجاهاته «الهيمنية» واختلاط الأمور لديه، تثير عندهم حساسية حقيقية. ولم يخف الإتحاديون ارتياحهم وموافقتهم حين رأوا الحسن الثاني، يبادر قبل ذلك بفترة قصيرة إلى الإعتراف بموريتانيا ولذلك فإن القادة الأكثر تقدمية في الحزب طالبوا بتأييد فعلي لنضال الشعب الصحراوي الذي اعتبر متضامنا مع النضال المناهض للإمبريالية في المغرب وشكل في نفس الوقت «رصيدا» لوحدة آتية أما المعتدلون فقد أظهروا تحفظا واضحا. وهكذا كان تأييد عمل الشبان الصحراويين محتكرا من قبل المتطرفين ومن ضمنهم اليسار المنشق عن الإتحاد الوطني للقوات الشعبية ذلك هو ما حصل، خصوصا وأن شيوخ الحزب تخلوا عن أي عمل مغامر وفضلوا المراهنة على قيم تعتبر مضمونة : التحالف مع حزب الإستقلال المحترم... حوار طويل النفس مع الملك ... ومن يكون المهدي بن بركة؟ فلماذا التخلي، ضمن هذا المنطق عن العادات السياسية للمزايدة الوطنية؟ من المحتمل أن تكون تلك المرحلة بداية لذلك الإنعطاف الذي جعل السيد عبد الرحيم داعية للمغرب «الصغير الكبير» سارقا بذلك أضواء النجومية من قادة حزب الإستقلال. وسوف نعرف في السنوات اللاحقة أن الإتحاد الإشتراكي، عبر سلفه الإتحاد الوطني، كان دائما في طليعة هذه الوطنية التوسعية».
«أما حزب الإستقلال فإنه لم يتخذ موقفا مناهضا. أو لا يجب عليه أن يساند جهود هؤلاء المواطنين الفتيان الشجعان، وهم العينات الوحيدة، المتوفرة، العاملة والمالكة لقدر من المصداقية في تلك الأقاليم الأسطورية المفصولة؟ لقد كان الحزب يحس بنوع من الحرج وهو يرى بروز عمل حقيقي خارج عن سيطرته، يقوم به صحراويون. ولكن هؤلاء الشبان المتنطعين كانوا يملكون درجة من الجرأة تجعلهم لا يلجأون إلى أبيهم الطبيعي ويرفضون أن يجري إرشادهم أو حمايتهم أو إظهارهم بل كانوا يرتكبون تلك الغلطة التي لا تقبل والتي تجعل مساندتهم الحماسية تصبح حكرا على هؤلاء «المجانين اليسراويين». وهناك خروج آخر عن الآداب العامة، فحين أتيحت لهؤلاء الصحراويين فرصة مقابلة الزعيم الكبير لم يظهروا له أي إفراط في التبجيل أو الإكرام. لقد قرروا القيام بطواف منهجي حول الأحزاب والشخصيات لطلب العون. لقد تكون وفد منهم برئاسة الوالي للإجراء لقاء مع قائد حزب الإستقلال. وكان الإتصال فاشلا منذ البداية. فلم يتحرك الزعيم لاستقبال زواره الذين وصفوا له بأنهم شبان مشاغبون. وبدون أن ينقطع عن قراءة وثيقة أمامه أو حتى ينظر إليهم، أشار إليهم بحركة من يسراه، لأن يجلسوا. أم تراه بسط لهم تلك اليد ليقبِّلوها؟ لم يتمكن الزوار أبدا من معرفة معنى تلك الإشارة. ولأنهم لم يتعودوا على تقبيل أيدي الرجال ولا على الإنحناء، وهما من العادات التقليدية في المغرب، فقد حرد أبناء بدو الساقية وتيرس الغيورون، حردوا وأحسوا بالإهانة. وكان النقاش المتوتر ضربا من حوار الطرشان : إنه التعارض بطبيعة الحال، وعدم التفاهم والصدام بين ثقافتين وعقليتين وشخصيتين. وانتهى اللقاء بتبادل انسجالي يجسد ببلاغة متناهية وجود تعارض قوي يصعب تجاوزه».
«شرح الوالي إرادة الصحراويين في القتال لتحرير البلاد من المستعمرين الاسبانيين وضرورة توفير دعم فعال لهذا النضال، ورد علال الفاسي بما مؤداه أن الوضعية في المغرب لا تسمح ببذل جهد من هذا النوع وفي هذا الإتجاه : وما على الصحراويين إلا أن يبدأوا النضال ويوم يضطر الإسبانيون لأخذهم في الاعتبار، سوف نتولى الأمور بأنفسنا لنقود المفاوضات بشكل جيد».
ثم نهض الوالي مصطفى وقال لمحدثه الكبير : «يمكنكم أن تبدأوا بإعداد ملفاتكم، أما نحن فإننا سنشرع في القتال...» (المصدر السابق صفحات 138/139/140).
ويتسائل أحمد بابا مسكة :
«ترى! هل أدرك الزعيم الكبير، يرحمه الله، ما يشتمل عليه هذا الرد الصاعق من سخرية؟ ليس ذلك أمرا مؤكدا : فقد كان يحلق عاليا جدا ولم يكن مخاطبه الجريء يهتم بأن «يفهم عليه». لقد تحرر من كل ضغط وإكراه أمام هذا القدر الهائل من الغرور وعدم الفهم وشرع يتحدث بلهجته الحسانية الأصلية».
أوردت هذه الفقرات الطويلة من كاتب الأستاذ أحمد بابا مسكة لأنها تروي، من وجهة نظر البوليساريو، لحظة من لحظات تلك العلاقة المتوترة، بين عدد من الشبان الصحراويين وبين القيادات السياسية المغربية المعارضة. ولعلي في غير حاجة للتأشير بخط أحمر، تحت الكلمات التي أنقلها فقط كشهادة لطرف شارك في هذه المعمعة المستمرة التي ما تزال غيومها تلبد سماء السياسة الداخلية المغربية وتعكر مسيرة العلاقات «الأخوية» بين المغرب والجزائر. وهذا التوتر، بين بعض الصحراويين وزعماء الأحزاب، يجب أن يطرح هو الآخر في سياق التوتر العميق الشامل الذي حكم تلك اللحظة الزمنية الحرجة من تعامل الدولة مع مختلف مكونات وتعبيرات المجتمع السياسي المغربي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.