أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. «الواجب الأول وأبسط واجب على رئيس دولة هو أن يقوم بتحييد أكبر عدد ممكن من خصوم بلاده وأن يكسب لها أوسع عدد من الأصدقاء. وفي تلك المرحلة التي نتحدث عنها في سنة 1984 كنت أواجه مدفعين، مدفع طويل المرمى يتم تلقيمه إلى حد ما بشكل جيد، ومدفع متوسط المرمى، وكان يتحتم علي أن أقوم بتحييد أحد المدفعين. وقد أتيحت لي فرصة تحقيق هذا الغرض في الوقت الذي كنت أنتظر فيه بفارغ الصبر، رد الجزائريين على مشروع إتحاد فيدرالي أو كونفديرالي كانوا هم أنفسهم اتخذوا مبادرة جيدة في موضوعه. وبينما كنت في هذه الحالة تلقيت تلك الرسالة التي أصبحت تقليدا متبعا منذ بضع سنوات والتي يدعونا فيها معمر القذافي إلى التفكير وخاصة أداء واجباتنا تجاه الفلسطينيين، ولما كنت رئيسا لقمة فاس ورئيسا للجنة القدس فقد شعرت بأنني أملك سلطة تتيح لي أن أرد عليه، وقد قرر هو بدوره أن يجيء فورا. وسوف أكشف لكم محتوى الحوار الأول الذي جرى بيننا. لقد قلت له : «ليس لديك حظ لأن كل الذين يأتون لرؤيتك كرئيس دولة إنما يلتقون بك خوفا من مؤامراتك أو طمعا في دولاراتك». وقد ضحك الرجل لهذا الكلام، وأضفت أنا قائلا : «بالطبع أنت لم تدخر أي جهد للإطاحة بي». وقد وافق على هذه الملاحظة ورد بقوله : «بالطبع أنت أيضا فعلت الشيء نفسه ضدي». ولم أنكر ذلك واستطردت مضيفا : «إن هناك مسافة ثلاثة آلاف كيلومتر تفصل بلدينا، وأننا مهما فعلنا فينبغي علينا أن نتكيف مع هذا الوضع». وقد وافق على كلامي وأصبح في استطاعتنا بعد ذلك أن نناقش بكل حرية». (من حديث الملك الحسن الثاني إلى الصحفي الفرنسي جان دانيال رئيس تحرير مجلة النوفيل أوبسرفاتور الأسبوعية المنشور في العدد الصادر بتاريخ 4 أبريل 1986). في ذلك القسم من الحديث الذي وضع له جان دانيال عنوان : «لماذا أنا متحالف مع القذافي؟» يشرح العاهل المغربي الظروف التي تم فيها الإعداد لاتفاقية وجدة حول الاتحاد العربي الافريقي وكيف أنه عندما قرأ رسالة العقيد معمر القذافي لاحظ أنه لا يوجد أي سبب يحول دون قيام وحدة بين المغرب وليبيا رغم كونه لم يفكر فيها أبدا قبل تلك اللحظة. «في كل الأحوال ينبغي أن يقدم هذا المشروع ليحظى بموافقة حكومتي البلدين وبرلمانيهما، على أنني لم أقم إلا فيما بعد بتعليل الدوافع اللاشعورية لهذا الإلهام المفاجئ. فمن ناحية لم يكن في استطاعتي أن أترك بلادي في حالة مهينة من الانتظار لما يقرره الجزائريون، ومن ناحية أخرى كانت تلك الفترة تتميز بتكاثر الاشتباكات في الصحراء. وأخيرا فقد كان يبدو لي أنه من المفيد أن أقيم مع رجل مهذب وذكي مثل العقيد معمر القذافي، علاقات في إطار هذه الثقة الداخلية العربية التي هو مشغوف بها، وإذا قطعنا معا شوطا من الطريق نحو الوحدة، فباستطاعتنا أن نتوقع من الطرف الآخر التقرب نحونا، ولقد كان القذافي منضبطا بالفعل منذ قيام الوحدة، إذ قطع علاقاته مع البوليساريو». ما حدث حقا معروف وما تزال تفاصيله حية وحاضرة في الذاكرة : لقد صدر البيان المغربي الليبي يوم 13 غشت 1984 بمدينة وجدة على مسافة ثمانية عشر كيلومترا من الحدود الجزائرية المغربية، يعلن للعالم أجمع، ميلاد الاتحاد العربي الإفريقي الذي عرض فيما بعد على استفتاء نال بموجبه أغلبية واسعة من قبل الشعبين في أعقاب حملة شرح وتوضيح وإقناع شاركت فيها داخل المغرب بالخصوص كافة التيارات السياسية سواء منها المساهمة في الحكومة أو المنتمية إلى المعارضة. بديهي أن قيام الاتحاد العربي الإفريقي، عرض التحالفات الإقليمية والعربية والإفريقية والدولية للبلدين إلى امتحان جدي ووضع مصداقيتهما على المحك، لكنه جاء في ذات الوقت، ليؤكد أولوية المصالح الواقعية على المبادئ المجردة، إقليميا أي على مستوى المغرب العربي، شكلت اتفاقية وجدة ردا على معاهدة الأخوة والتعاون الموقعة بين كل من الجزائر وتونس وموريتانيا بل نظرت إليها الجزائر عل أنها محاولة مكشوفة لوضعها بين فكي الكماشة المغربية الليبية. وسواء جاءت التطورات اللاحقة لتثبت صحة هذه الفرضية أو تفندها فإن المهم في الحساب الأخير هو وجود مثل هذا التصور لدى الأشقاء الجزائريين لعملية التقارب المغربي الليبي. نعم، المهم في السياسة هو ما تعتقده الأطراف المختلفة المنخرطة في المًعْتَرَكَات الإستراتيجية الإقليمية. الاعتقاد في حد ذاته مهم بصرف النظر عن صحته أو خطئه، لأنه يملي على أصحابه اتخاذ مواقف معينة. واتفاقية وجدة أعادت ترتيب أوراق المعترك الإستراتيجي الإقليمي فوق مسرح الساحة المغاربية كلها، من نواكشوط حتى طرابلس، ولعلنا نكتشف في مرحلة تالية أنها كانت وراء ظاهرة انتقال بؤرة التوتر من الأقسام الجنوبية الغربية إلى الأقسام الشمالية الشرقية من المغرب العربي. والغريب في الأمر، الغريب الذي يؤكد أهمية الاعتقاد في حد ذاته سواء كان صائبا أو واهيا، هو أن هذا التحول حصل من دون أن ترافقه أية ترتيبات فعلية جديدة للطاقات الليبية المغربية. ومثلا فإن اللجان والهيئات المنبثقة عن الإتحاد العربي الإفريقي مارست نشاطها الإعتيادي خلال الفترة الماضية وعقدت الاجتماعات المقرر لها أن تعقدها في إطار الدستور الاتحادي باستثناء لجنة الدفاع. ومع ذلك فلربما أمكننا القول رغم ما في مثل هذا الحكم من مفارقة ظاهرة، بأن النتيجة الأولى لاتفاقية وجدة كانت عسكرية أكثر منها اقتصادية أو سياسية. وفي تعبير آخر فإن القراءة الجزائرية للتحالف المغربي الليبي دفعت الرئيس الشاذلي بن جديد وقيادة جبهة التحرير الوطني إلى اتخاذ قرارات بإعادة انتشار وتوزيع القوة العسكرية الجزائرية نحو مناطق الحدود مع ليبيا وتونس. المعروف في المبادئ الأولية للتكوين العسكري المعاصر، أن كل الجيوش تملك عقيدة قتالية تشكل هوية العدو وموقعه ركنين أساسيين من أركانها. وليس سرا أن الجيش الوطني الجزائري يتدرب منذ السنوات الأولى للاستقلال وتحديدا منذ وقوع ما سمي بحرب الرمال الأولى في صيف 1963 على حقول رماية وأهداف خُلَّبية تفترض دائما أن يأتي العدو من جهة الغرب والجنوب. وليس سرًّا كذلك أن القوات الملكية المسلحة تمارس تكوينها على افتراض أن العدو الذي تواجهه سوف يأتي من الشرق ومن الجنوب الشرقي ومن الشمال الشرقي. والغرض من التذكير بهذه الحقائق الفاقعة هو وضع العواقب العسكرية لاتفاقية وجدة في نطاقها الإقليمي. وبعبارة أخرى فإن هذه الإتفاقية لم تَفْرِضْ فقط على المسؤولين في المغرب العربي الأوسط إعادة نشر القوات العسكرية بما يعنيه ذلك من تخفيف لكثافة الحشود في القطاعات الجنوبية الغربية من الحدود، وإنما أدخلت أو أضافت بُعدا جديدا للعقيدة القتالية يتمثل في إغناء وتوسيع حقول الرماية النظرية باتجاه الشرق والشمال. أي أن تلك اللحظة الإستراتيجية المتصلة في بواعثها وأسبابها ومسبباتها «اللاشعورية» بمسار النزاع المغربي الجزائري حول الصحراء المغربية الغربية، ولَّدت مركز استقطاب جديد يضع للعقيدة القتالية عند الجيش الجزائري هدفا آخر باتجاه الصحراء الشرقية. ونحن نسجل هذه الملاحظة من دون أي فرح أو تشِّف أو أية نية في التشبيح أو التضخيم. وهي في نظرنا من أهم عواقب الاتحاد العربي الإفريقي في المدى المتوسط وحتى في المدى البعيد. مثل الأشياء المهمة والحاسمة، حدث ذلك التحول في صمت، ولا يمكن أن نقدره حق قدره، إلا إذا تذكرنا أن طبيعة المناطق الحدودية الجزائرية الليبية، حيث تتركز ثروات النفط والغاز واحتمالات اكتشاف اليورانيوم، تجعل منها معتركا استراتيجيا سوف يَحتفظ لفترة زمنية من الصعب حسابها بخصوصيته، كنقطة تثبيت واستقطاب لهواجس الأمن الجزائري. وليس أَدَلَّ على ذلك أكثر من أن الحدود الرسمية بين الدولتين لم «تُضبط بعد» لأن العقيد معمر القذافي يرفض على ما يبدو الخوض في هذه المسألة ويرى أن «ضم» تلك الأقسام من الصحراء الشرقية الوسطى إلى الجزائر في عهد الاستعمارين الإيطالي والفرنسي للبلدين، حرم ليبيا من أن تصبح عربية سعودية إفريقية في مجال النفط، بما يوفره مثل ذلك الوضع من عوامل القوة والنفوذ. وفي الخلاصة فإن أعمق أثر للاتحاد العربي الإفريقي برز (ويا للمفارقة)، في الحقل العسكري، أي في المجال الذي لم يمارس فيه هذا الاتحاد المسؤوليات المنصوص عليها في المعاهدة. أما على الصعيد العربي فإن الاتحاد العربي الإفريقي كان بمثابة «ضربة برد coup de froid» حسب التعبير الفرنسي في العلاقات والتحالفات العربية للبلدين. وربما تجلى الفتور الذي أدخلته تلك المفاجأة الصيفية على الساحة العربية في «تبريد» الخطوط المتعددة القائمة بين القاهرة والرباط من جهة وبين طرابلس ودمشق وطهران من جهة أخرى. ورغم أننا لا نعرف حتى الآن الشيء الكثير عن ردود الفعل المصرية، تجاه الحدث فإن هناك أكثر من مؤشر، يمكننا من القول بأن الرئيس حسني مبارك ومستشاريه المؤثرين نظروا بامتعاض كبير إلى المبادرة المغربية الليبية. وقد سربت الأوساط السياسية والإعلامية المصرية، أكثر من معلومة وخبرية عن احتمال وقوع تبدل في الموقف المصري داخل منظمة الوحدة الإفريقية من النزاع المغربي الجزائري حول الصحراء. وإجمالا كانت نتيجة التحالف الليبي المغربي هي انفراط عقد التحالف المصري المغربي واستنكاف القاهرة عن القيام بالدور النشيط والفعال الذي كانت تؤديه في المحافل الإفريقية وفي أوساط الدول غير المنحازة لفائدة المغرب. وبالمقابل سرى التيار مجددا بين القاهرةوالجزائر وتبودلت الزيارات الرسمية وشبه الرسمية سرا وعلنا بين المسؤولين في البلدين فقام السيد محمد شريف مساعدية الأمين الدائم للجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، بزيارة إلى القاهرة وأجرى السيد أسامة الباز مستشار الرئيس حسني مبارك والسيد عبد القادر بن قاسي مستشار الرئيس الشاذلي بن جديد، عدة اتصالات في القاهرةوالجزائروالولاياتالمتحدةوفرنسا تمهيدا لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وبدأت الجزائر وهي من مؤسسي جبهة الصمود والتصدي الطيبة الذكر، تدافع عن فكرة إعادة مصر إلى الصف الرسمي العربي وهو موقف كان المغرب قد تميز به من دون الآخرين. مرة أخرى وبالقدر الذي أتى فيه الاتحاد العربي الإفريقي تأكيدا لأولوية المصلحة الوطنية للدول على عقيدتها النظرية المعلنة، جاء رد الفعل المصري والجزائري عليه تجسيدا لنفس الواقع. أي أن المصالح والأحلاف الذرائعية (أو البراغماتية) هي التي تحرك الدول وتتحكم في رسم سياستها العملية. أما إذا تجاوزنا إفريقيا العربية نحو آسيا العربية الإسلامية، فإننا نجد أن الاتحاد العربي الإفريقي رغم أنه قام بين دولتين ترتبط إحداهما بالعقيدة وبالممارسة وبالتوجهات العامة (ليبيا) مع دمشق وطهران، وترتبط الثانية بحكم نظامها الاقتصادي الليبرالي وتعدديتها السياسية واختياراتها الإستراتيجية (المغرب) مع الولاياتالمتحدة والدول الغربية، فإنه لم يكن له نفس الأثر في علاقات طرابلس الغرب مع حلفائها السوريين والإيرانيين. لعله أحدث بعض الفتور الضعيف في حرارة العلاقات لكنه لم يؤثر فيها تأثيرا قويا بحكم طبيعته الإقليمية. لقد انحصرت عواقب التحالف المغربي الليبي عمليا في الشطر الإفريقي من القارة العربية ولكنها انتشرت أو ارتدت موجتها بعد أن ماتت في وادي النيل نحو الأقسام الوسطى والغربية من القارة الإفريقية. وكان ذلك أمرا طبيعيا تماما إذا تذكرنا أن معاهدة وجدة جاءت ثمرة لصفقة ضمنية تخلى بموجبها المغرب عن مشروع تدخل عسكري، كان سوف يقوم به في تشاد لصالح نظام حسين هبري وتوقفت بفعلها ليبيا عن الاستمرار في تحمل أعباء تمويل وتسليح المشروع الانفصالي في صحراء المغرب. وكان من المثير للانتباه أن المغرب جهز وحدات عسكرية «مجوقلة» (منقولة جوا) للذهاب إلى تشاد وأنه أحاط تلك العملية بجو إعلاني وإعلامي اعتيادي حين سمح بتسريب أخبارها إلى الخارج، بل وأجرى لها ما يشبه الاستعراض العلني في مطارات قريبة من أماكن يتردد عليها الصحفيون والمراسلون الأجانب، ثم تخلى فجأة عن الموضوع. ويبدو الآن للمراقب الذي يحاول أن يفك رموز الأحداث أن الغرض من إضفاء ذلك الطابع المسرحي المثير على عملية، يفترض بل تفرض طبيعتها أن تُجرى في منتهى السرية وبعيدا عن الأضواء هو توجيه رسالة عاجلة إلى العقيد معمر القذافي الذي كانت قواته تخوض آنذاك معارك إسناد جوية وبرية واسعة النطاق لمساعدة حكومة الاتحاد الوطني التي يتزعمها غوكوني وداي في شمال تشاد، ضد قوات حسين هبري المدعومة من طرف باريس. ويبدو أيضا أن قائد ثورة الفاتح من سبتمبر قد أدرك مضمون الرسالة ولم يخطئ في فهم الغرض الذي كانت تتوخاه من ورائها الجهة التي أرسلتها. وذلك مثال ناطق وبليغ يُضاف إلى الأمثلة الأخرى ليثبت بالدليل القاطع والملموس أن حساب المصلحة الوطنية في منطق الدول قديمها وحديثها، محافظها وثوريها، يعلو ولا يُعلى عليه. وقد كان من مصلحة معمر القذافي أن لا يتدخل المغرب ضده في صحراء تشاد، وكان من مصلحة المغرب أن يقايض أو يبادل عدم تدخل بعدم تدخل. ولعل شيئا من هذا القبيل قد حصل بالفعل، والثابت أن المغرب اكتفى باستعراض عضلاته العسكرية، ليعطي قدرا كافيا من المصداقية لدوره الإفريقي والإقليمي في المعترك الإستراتيجي وأنه بعد ذلك لم يعد طرفا في النزاع القائم بين ليبيا وفرنسا في الساحة التشادية. والثابت كذلك أن هذا التلويح بتوسيع دائرة النزاع حول الصحراء المغربية شرقا أدى في جملة ما أدى إليه إلى إغلاق حنفية الدولارات ومخازن الأسلحة التي كان دعاة الانفصال يغرفون منها قبل ذلك بلا حساب. والثابت أخيرا أن هذا الانسحاب المغربي من مسرح العمليات في تشاد أربك الحسابات لدى الفرنسيين والأمريكيين الذين يفضلون خوض حروبهم الخارجية بالوساطة. ولعل ذلك كان واحدا من أسباب الرحلة الصيفية التي قام بها الرئيس فرانسوا متران آنذاك إلى المغرب وتزامنت مع الإستفتاء على مشروع الوحدة. وتلك حالة أخرى من حالات لا تُعد ولا تُحصى، تَصُب في نفس السياق، أي تؤكد. أن اعتبارات المصلحة الوطنية المحضة، كثيرا ما تُملي على الدول سياسات يحار المثاليون في فهمها. لقد اختار المغرب إعلان تحالفه مع معمر القذافي في لحظة كان هذا الأخير يخوض فيها حربا مفتوحة مع فرنسا إحدى الدول الغربية المتحالفة مع المغرب. أما إذا تركنا الساحات المغاربية والعربية والإفريقية، ووسَّعنا رؤيتنا نحو الفضاء الدولي، فسوف نجد أن الاتحاد العربي الإفريقي خَلق ما يمكن أن نسميه أزمة ثقة عميقة بين الولاياتالمتحدةالامريكية والمغرب، وأن واشنطن عبرت في منتهى الصراحة عن استيائها من العملية لأنها تمت في وقت وضع فيه الرئيس الأمريكي رونالد ريغان نُصْبَ عينيه في إطار ما يسمى بمحاربة الإرهاب الدولي إسقاط نظام القذافي كهدف استراتيجي له، يسعى لتعبئة كافة الدول الغربية حوله. وتلك أيضا واحدة من المفارقات الكبيرة والمحيرة في عالم السياسة العملية، لكنها تؤشر إلى قوة وعمق العقلانية الميكيافيلية في أعمال الدول. لقد اختار المغرب أن يرتبط بالاتحاد العربي الإفريقي مع دولة (ليبيا) تناصبها حليفته الأولى (أمريكا) العداء جهرا وتعمل على تقويض نظامها، علنا بالعنف وبالحرب وبالتآمر وبالعدوان المكشوف. والغريب بعد التفكير في هذه النتائج الملموسة كلِّها، أن الاتحاد العربي الإفريقي لم يقم قبل ذلك التاريخ بفترة طويلة لكن الغرابة تزول بسرعة، إذا ما انتبهنا إلى حادثة أخرى وقعت في غشت 1979 وكان لها كما سوف تبين التطورات اللاحقة أثرها العميق في تغيير مجرى الصراع وميزان القوى العسكري في الصحراء المغربية. مسرح الحادثة نقطة ضائعة تدعى بئر أنزران وهو مكان خلاء في هذه القفار الصلعاء الممتدة بين مدينتي العيونوالداخلة. لقد جرت هناك معركة كبرى دامت بضعة أيام بمختلف صنوف الأسلحة بين الجيش المغربي ووحدات نخبة جبهة البوليساريو التي كانت تتحرك نحو مدينة الداخلة للاستقرار فيها وتحويلها إلى قاعدة ثابتة على ضفاف المحيط الأطلسي لما يسمى بالجمهورية الصحراوية في أعقاب الاتفاق الرسمي الذي وقع بمدينة الجزائر يوم 5 غشت 1979 مع موريتانيا واعترفت بموجبه هذه الأخيرة بالكيان الصحراوي وقررت الانسحاب الفوري من إقليم وادي الذهب الذي كانت تسميه تيرس الغربية. وكان الصحراويون قد أعدوا بواسطة الدعم العسكري والمالي الليبي والجزائري وحدات عسكرية مجهزة بأكثر الأعتدة الحربية تطورا من أجل احتلال مدينة الداخلة وأرخبيلها بل كانت هناك بوارج حربية ترابط في عرض المحيط الأطلسي لإمدادهم بترسانة هائلة من القذائف والصواريخ والمقاوِمَات الأرضية والدبابات الخفيفة والمدفعية والطوافات الخاصة بحراسة الشواطئ ووسائل النقل والمحروقات التي كانت سوف تحول الداخلة بحكم موقعها الجغرافي القصي المعزول وسط بحر الرمال وبحر المياه وحتى ميناء الكويرة ومدينة نواذيبو الموريتانية الشاطئية إلى عقدة في شبكة حرم استراتيجي من الصعب الإقتراب منها برا أو بحرا أو جوا فبالأحرى التفكير في استئصالها. أغلب الظن أن كسب المغرب لتلك المعركة العسكرية شكل نقطة تحول فاصلة في مدار الحرب الدائرة منذ عشر سنوات، نقطة مفتوحة على العالم يمكن الوصول إليها بحرا أو برا أو جوا دون المرور بأراضي «الآخرين»، شكل رغم المحاولات المستميتة التالية ضربة قاتلة للمشروع الانفصالي وأقنع الحلفاء والأصدقاء بمن فيهم الليبيون في البدء بالتفكير جديا في إعادة النظر بتوجهاتهم وقادهم بعد ست سنوات إلى مدينة وجدة لتوقيع معاهدة الاتحاد العربي الإفريقي بتلك السرعة المدهشة.