سكوري : المغرب استطاع بناء نموذج للحوار الاجتماعي حظي بإشادة دولية    ميارة يجري مباحثات مع رئيس الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا    وزارة الفلاحة: عدد رؤوس المواشي المعدة للذبح خلال عيد الأضحى المقبل يبلغ 3 ملايين رأس    مطار الصويرة موكادور: ارتفاع بنسبة 38 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    الجيش الملكي يرد على شكاية الرجاء: محاولة للتشويش وإخفاء إخفاقاته التسييرية    إسبانيا تُطارد مغربيا متهما في جريمة قتل ضابطين بالحرس المدني    مشروبات تساعد في تقليل آلام المفاصل والعضلات    خمري ل"الأيام24″: الإستقلال مطالب بإيجاد صيغة جديدة للتنافس الديمقراطي بين تياراته    احتفاء بموظفي مؤسسة السجن في أزيلال    الزمالك المصري يتلقى ضربة قوية قبل مواجهة نهضة بركان    تحديات تواجه نستله.. لهذا تقرر سحب مياه "البيرييه" من الاسواق    بلينكن: التطبيع الإسرائيلي السعودي قرب يكتمل والرياض ربطاتو بوضع مسار واضح لإقامة دولة فلسطينية    أمن فاس يلقي القبض على قاتل تلميذة    المحكمة تدين صاحب أغنية "شر كبي أتاي" بالسجن لهذه المدة    مجلس النواب يطلق الدورة الرابعة لجائزة الصحافة البرلمانية    برواية "قناع بلون السماء".. أسير فلسطيني يظفر بجائزة البوكر العربية 2024    عملية جراحية لبرقوق بعد تعرضه لاعتداء خطير قد ينهي مستقبله الكروي    رسميا.. عادل رمزي مدربا جديدا للمنتخب الهولندي لأقل من 18 سنة    المديرية العامة للأمن الوطني تنظم ندوة حول "مكافحة الجرائم الماسة بالمجال الغابوي"    الإيسيسكو تحتضن ندوة ثقافية حول مكانة المرأة في الحضارة اليمنية    "التنسيق الميداني للتعليم" يؤجل احتجاجاته    هذا هو موعد مباراة المنتخب المغربي ونظيره الجزائري    الشرطة الفرنسية تفض اعتصاما طلابيا مناصرا لفلسطين بجامعة "السوربون"    غامبيا جددات دعمها الكامل للوحدة الترابية للمغرب وأكدات أهمية المبادرة الملكية الأطلسية    الملك يهنئ بركة على "ثقة الاستقلاليين"    تحرير ما معدله 12 ألف محضر بشأن الجرائم الغابوية سنويا    الرئاسيات الأمريكية.. ترامب يواصل تصدر استطلاعات الرأي في مواجهة بايدن    يوسف يتنحى من رئاسة حكومة اسكتلندا    الدورة السادسة من "ربيعيات أصيلة".. مشغل فني بديع لصقل المواهب والاحتكاك بألمع رواد الريشة الثقافة والإعلام    اتفاق بين الحكومة والنقابات.. زيادة في الأجور وتخفيض الضريبة على الدخل والرفع من الحد الأدنى للأجور        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    الفنان الجزائري عبد القادر السيكتور.. لهذا نحن "خاوة" والناظور تغير بشكل جذري    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    المكتب الوطني للسياحة يضع كرة القدم في قلب إستراتيجيته الترويجية لوجهة المغرب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    وزارة الفلاحة…الدورة ال 16 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب تكللت بنجاح كبير    إدارة السجن المحلي بوجدة تنفي ما نقل عن والدة سجين بخصوص وجود آثار ضرب وجرح على وجهه    فيلم أنوال…عمل سينمائي كبير نحو مصير مجهول !    المغرب التطواني يتعادل مع ضيفه يوسفية برشيد    رسمياً.. رئيس الحكومة الإسبانية يعلن عن قراره بعد توجيه اتهامات بالفساد لزوجته    غزة تسجل سقوط 34 قتيلا في يوم واحد    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولات الإثنين بأداء إيجابي    أسعار الذهب تتراجع اليوم الإثنين    إليسا متهمة ب"الافتراء والكذب"    رئيس ريال مدريد يهاتف مبابي عقب التتويج بالدوري الفرنسي        المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    المنتخب المغربي يتأهل إلى نهائي البطولة العربية على حساب تونس    حكواتيون من جامع الفنا يروون التاريخ المشترك بين المغرب وبريطانيا    "عشر دقائق فقط، لو تأخرت لما تمكنت من إخباركم قصتي اليوم" مراسل بي بي سي في غزة    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    الأمثال العامية بتطوان... (583)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد العمري ل»الاتحاد الثقافي»: الثورة الحديثة استحقاق تاريخي

الثورة العربية الجديدة تطرح أسئلة عديدة، قد يتطلب منا كمثقفين أن ننتظر زمنا طويلا لاستيعابها وإدراكها، لكن أهم ما في سلسلة الحوارات مع المثقفين المغاربة، التي شرع «الاتحاد الثقافي» في نشرها منذ الأسبوع الماضي، هو أن نقترب قدر الإمكان من جذوتها وسخونتها، في محاولة لفهم ما جرى ويجري حاليا.
يتعدد حاليا توصيف هذا الحراك الجماهيري، هل يتعلق الأمر بحركة إصلاحية أم بثورة شعبية أم أنها مجرد ثورة عابرة؟
ما يجري في العالم العربي استحقاق تاريخي، دين متأخر امتنعت الأنظمة عن أدائه عقودا، ولم يبق أمامها غير الأداء، أو الحجز والإكراه البدني، طال زمن الصراع أم قصر، ومن أطال زمن الصراع سيؤدي أصل الدين والفوائد القانونية، كما يقع لمبارك اليوم وللقذافي غدا. سبق لي أن عالجت هذا السؤال في مقال خاص بعنوان: المغرب أمام لحظة تاريخية، نشر بجريدة الحياة الجديدة، وهو موجود على موقعي على الأنتيرنيت. ذكرت فيه أننا بصدد ثالث لحظة تاريخية حاسمة في تاريخ العرب منذ أربعة عشر قرنا: كانت اللحظة الأولى مع الدعوة الإسلامية، واللحظة الثانية مع الثورة ضد الاستعمار بمحتوى قومي واشتراكي، واللحظة الثالثة هي هذه، لحظة حقوق الإنسان والكرامة، لحظة الديموقراطية. من أبرز علامات اللحظة التاريخية توالي الموجات وامتدادها الواسع، ومن علاماتها أيضا الاستعداد للتضحية، مقايضة الوجود بالقضية: الكرامة أو الموت. هناك أخطار تتهدد الحركة في المغرب خاصة: مصدرها الأول الأحزاب المدجنة التي قد تقنع بالقليل، والأحزاب المصنوعة التي ترفض أي تغيير حقيقي، ومصدرها الثاني الأصولية التي لا تؤمن بالديموقراطية وتتحين الفرصة للانقضاض متسترة داخل الجموع، وكلما تعنَّت المخزن وحاول المراوغة كلما أتاح لها الفرصة.
بدأت ثورة تونس بقصيدة (إرادة الحياة) لأبي القاسم الشابي، إلى أي مدى يمكن القول إن الشعر مازال يمثل ديوان العرب ؟
الشعر وقود الثورات، هذه هي الخلاصة التي خرجتُ بها وأنا استمع إلى الشعارات المرفوعة في الوقفات الاحتجاجية، الأهازيج المترددة في ميادين التحرير من القاهرة إلى صنعاء...الخ. من بيتي الشابي إلى أغنية أم كلثوم التي كانت تصدح في ميدان التحرير...الخ
الشعر هو الوحيد الذي يمكن أن يترك الآلاف من الجماهير متراصة وسائرة على مستوى واحد من الحماس. لقد أظهرت الثورة الحديثة لأي شيء يصلح الشعر، وما هو الشعر الذي ينفع الناس. في أقسى لحظات العنف صنع المصريون نكتا جميلة مرحة ومؤثرة. لا يمكن في هذه اللحظات الجماهيرية الحاشدة أن تقرأ رواية أو تشاهد فلما، ولكنك يمكن أن تردد بيتا أو عدة أبيات، أو تغني أنشودة، أو تبتدع شعارا أو نكتة..الخ أمام الطلبة الباحثين متن شعري مهم للتقصي والتحليل واستخلاص العبر..
الشعر خرج أيضا في صور دالة كاريكاتيرية وغير كاريكاتيرية.. الشعر ديوان الثورة ووقودها، هذا هو الصحيح..
قبل ثورة الياسمين في تونس، كان يتم الحديث عن قمة عربية للثقافة، كيف تنظر إلى مستقبل الثقافة العربية بعد هذا الحراك الديمقراطي، الذي يعم جميع الأقطار العربية؟
يظهر لي أن الثقافة هي المجال الذي أتمنى أن تبتعد الأنظمة العربية عن تنسيقه، أو التنسيق فيه، قبل الثورة وبعدها.....الثقافة نتاج الحرية، والأنظمة مقيدة في جميع الأحوال بقيود. الأنظمة العربية ستعود لا محالة للتنسيق في مجال الأمن: إما من أجل أمنها أو من أجل أمن الشعوب حسب ما سيؤول إليه أمر هذه الثورة. الثقافة تحتاج إلى دعم الإنتاج الجيد فرديا كان أم جماعيا. ومن شأن دعم الإنتاج المَحكَّم بنزاهة إبعادُ الطفيليات التي تعكر المجال الثقافي، وتتصارع على الفتات.
حدثت هذه الثورات في زمن تقلص فيه المد الثوري بمرجعياته الكبرى المؤطرة له كيف تقرأون هذه المفارقة ؟
ترتبط هذه الثورة بنهاية الصراع بين المعسكرين الاشتراكي الشيوعي والرأسمالي الأمبريالي، كما ترتبط بفشل محاولات الأصوليين الإسلاميين للحلول محل الحركة القومية الاشتراكية. فهذه «الدعوات» (القديمة) كانت تتكابح، ويقمع بعضها بعضا لصالح أنظمة طاغية (أو طاغوتية) لا تؤمن لا بالاشتركية ولا بالليبرالية ولا بالإسلام، ثم اكتشف الفرقاء، بعد عناء، أنهم كانوا يلعبون خارج الملعب، الملعب تحتله الأنظمة الفاسدة، وتلعب فيه حسب قواعدها الخاصة، ولذلك قررت هذه الأطراف نسيان خصوصياتها مؤقتا والتعاون على طرد الفاسدين وحماتهم من الملعب أولا. ومن الأكيد أن الصراع سيندلع، بعد ذلك، على من سيحتل أرضية الملعب ويفرض طريقته في اللعب.
أيديولوجية الثورة الحديثة هي حقوق الإنسان، ولكنها لا تملك حصانة تمنع تسرب أعداء هذه الحقوق إلى صفوفها. هناك دائما قراصنة يركبون سفينة أي ثورة، ينتظرون بصبر، وفي هدوء، الوصولَ إلى البر، لحاجتهم إلى خبرة البحارة وجهدهم، وبمجرد ما تلوح لهم اليابسة يحاولون اغتيال البحارة والاستيلاء على السفينة. هناك اتفاق على ما لا نريده، وهو الفساد الناتج عن الاستبداد وتغييب الشعوب، ولكن الحل سيبقى مرهونا بالكثير من العوامل، بموازن القوى المحلية والدولية. الغرب يمدد الآن في عمر الثورتين الليبية واليمنية لأن المآل غير واضح بأية نسبة.
تتسم هذه الثورات بالتلقائية «والعفوية» وهذا يؤكد غياب المثقفين. كيف تفسر هذا الغياب في التأطير وتشكيل الوعي في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المجتمعات العربية ؟
يمكن الحديث عن التلقائية والعفوية في حالة عدم إحلال المواقع الافتراضية التي يتم فيها اللقاء (فيسبوك مثلا) محلَّ مقرات الأحزاب والجمعيات والمساجد...الخ. فالنقاش الذي يجري في هذه المواقع الافتراضية وفي الجرائد الألكترونية يتيح الفرز بين التوجهات والمواقف، وتكوين المجموعات المتعاونة والمتعارضة: 20 فبراير، و9مارس من هذا النتاج. فهؤلاء الشباب الذين يتناقشون من جميع أنحاء العالم يحددون من موقعهم الافتراضي موعدا فوق اليابسة في يوم معين فيتحولون من كائنات افتراضية إلى ذوات حية من لحم ودم. وعلى هذه اليابسة يصطدمون بكائنات ملموسة اصطلح على تسميتها بلطجية، وهم بالاصطلاح المغربي قطاع الطرق. فالعفوية ظاهرية فقط، ويقوي الشعور بها غياب الزعيم والحواريين أو المريدين. هذه حركات فعالة لأنها ليست هرمية تطبعها الزبونية والسعي لتسجيل الحضور من أجل مكاسب مادية معينة. والذين يدْعون هؤلاء الشباب إلى الانضمام إلى الأحزاب، أو تكوين أحزاب خاصة، لم يفهموا طبيعة اللحظة أو أنهم مغرضون، والافتراض الثاني راجح. الأمل هو أن تستمر هذه الحركة كحركة أفقية تخترق جميع الأحزاب والجمعيات، وتستقطب كل ذوي الضمائر الحية ممن لا ينتمون إلى أي تنظيم، تستمر في المطالبة ثم تتحول إلى المراقبة والمحاسبة على طول.
أما القول بغياب المثقفين فيقتضي توضيح أمرين: أولهما معنى المثقف: فإذا كنا نقصد بالمثقفين مجموع الأسماء المدرجة في اتحادات الأدباء والكتاب العرب فالأمر صحيح، فأكثر هؤلاء بعيد عن العالم الافتراضي يعيش في أبراجه العاجية، شعرهم ليس شعر الثورة، وهمومهم ليست همومها، أما إذا قصدنا بالمثقفين الأشخاص الذين حصلوا قدرا من المعرفة الحقوقية والسياسية يؤهلهم لاكتشاف حالة الاستلاب التي تعيش فيها الشعوب العربية والتحرك للاحتجاج والرفض والاستعداد للتضحية فهذه العينة موجودة، وهي وقود هذه الحركة. وهناك عينة أخرى من المثقفين المعروفين لعبت (وما زالت تلعب، بأسمائها وبأسماء مستعارة) أدوارا مهمة قبل قيام الحركة من خلال نقد الواقع، ثم هي تسايرها بالتوجيه والدعم. وقع ذلك في تونس، ومصر بشكل ملحوظ، ويقع اليوم في المغرب من خلال الكتابات ومن خلال لجن الدعم. أنا أعتقد أن هذه الحركة حركة ثقافية، حركة كرامة لا حركة عَلَفٍ كما قال أحد التونسيين، الكرامة مطلب ثقافي.
دأبت الكثير من الأطروحات النيوكولونيالية على ترويج الفكرة القائلة بأن الشعوب العربية لها القابلية للاستبداد والعبودية، كيف تنظر إلى مثل هذه المواقف ذات الحمولة الاستشراقية ؟
البشرية متواصلة عبر التاريخ، تتبادل أدوار التوهج ولحظات الانطفاء والخمول، حين يتعب شعب يأخذ المشعلَ شعبٌ آخرُ ويتقدم، التاريخ لا يتوقف عن التطور، أما الشعوب ففي مد وجزر. أما الأطروحات التي أشرتم إليها فقد لقيت التفنيد من داخل المنظومة التي صدرت منها. والعروبة لا تتعلق بجنس، بل بثقافة أمم عديدة استوعبتها الثقافة الإسلامية (عرب وأمازيغ وأكراد وزنوج...الخ). المسألة ليست مسألة جنس بشري، بل هي مسألة ثقافة في لحظة تاريخية وواقع جغرافي. حين تتعب الشعوب التي تحمل تراثا ثقافيا وعقائديا ضخما تصبح أبطأ وأثقل حركةً من الشعوب التي لا تحمل كل ذلك العبء. الموضوع في غاية الحساسية: التقدم حصيلة الاجتهاد في فهم الطبيعة، وهو اجتهاد عقلي، والعقل لا يعمل إلا في جو الحرية بدون انتقاء: لا يمكن أن نكون عقليين فيما يهم أبداننا وخرافيين فيما سوى ذلك، لأنه لا يمكن تحقيق تقدم في مجال مع الغباء في مجال آخر، الغباء ينتقل بالعدوى. فهل نحن نستغل كل طاقاتنا بشكل حر؟
بعد ثورة الكرامة سيحتاج العرب إلى ثورة ثقافية تنويرية تُرفع فيها الأميات، ويُقطع فيها مع تصنيم الدين وتحويله إلى مظاهر وطقوس وعادات متوارثة بدون روح، يجب الخروج من التصور التصنيمي للدين الذي يعادي العقل والمواطنة. يمكن أن نتفاءل بوجود أصواتٍ تفتح الحوار في هذا الأفق حسب ما سمعت أخيرا من تصريح لرئيس حزب البديل الحضاري حيث ذهب مباشر إلى المقصد الأعلى للدين، وهو العدل، رافضا فكرة الدولة الدينية والحزب الديني. أن تأتي الدعوة إلى تحرير الدين من يد الجهال والأميين والفاشلين من داخل الدار هذه علامة نضج مبشرة من شأنها أن تحدث شيئا من التوازن مع نعيق الغربان التي تملأُ الفضاء هذه الأيام بخطاب تأثيمي (بل تكفيري) شبيه بالخطاب الذي أدى إلى اغتيال عمر بن جلون منذ عقود. (أمثلة: المحتجون على توقيف الخطيب نهاري لتجاوزاته التحريضية كفروا الوزيرة نزهة الصقلي على الفضاء، وهددوا الدولة بالويل والتبور، والفزازي دعا إلى تطهير حركة 20 فبراير من آكلي رمضان والمثليين.. والمغراوي نعت الداعين إلى المذهب المالكي بأبشع النعوت في خطاب جماهيري، ومنها أنهم «مرتزقة»...الخ).
في انتظار أن تنضج الملامح الموضوعية لهذا الحراك العربي، يجد الملاحظ نفسه بين رؤيتين متناقضتين حيث تتحمس الأولى لما يحدث الآن، معتبرة إياه بارقة أمل حقيقي للقطع التام مع زمن القهر والخوف والإهانة الممنهجة التي طالما عانت منها الشعوب العربية، نجد بالمقابل أصحاب الرؤية الثانية انطلاقا من تبنيهم لنظرية المؤامرة، يختزلون الأمر في مقولة دسائس الغرب ومقالبه الموجهة ضد أمن واستقرار الغرب والمسلمين قاطبة، كيف تنظر من جهتك إلى الرؤيتين؟
التعارض في تقويم ما يجري الآن أمر طبيعي، كل ينظر من موقعه: الثائرون، والمضطهدون عامة، يرون في الحركة فرصة لزحزحة القيود، يحاولون التخلص منها، في حين يرى المستفيدون من الوضع الخائفون على امتيازاتهم أن الأمر يتعلق بمؤامرة خارجية ينفذها عملاء للصهيونية وأمريكا أو الحركات الإسلامية المتطرفة.
من المؤسف أن الأنظمة العربية المستبدة، الخارجة عن التاريخ، ترفض أن ترى وجهها في مرآة نظيفة، ترفض النظر في الاستحقاقات التي تطوقها، وبدل ذلك تخفي وجهها البشع بالحديث عن المؤامرة. ليتها تؤدي ما في ذمتها أولا ثم ننظر، بعد ذلك، هل هناك مؤامرة أم لا. أكبر مؤامرة تعرض لها الوطن العربي هي سرقة استقلاله من طرف هؤلاء المعمرين الجدد، هي احتلال عصابات مجرمة كما تكشف في تونس ومصر لمؤسسات الدولة، وممارستها لجرائمها باسم الشرعية الدستورية، وعندنا من هذا ما عندنا.
عند الحديث عن العدوى الديمقراطية التي تجتاح العالم العربي، يتم الحديث عن (الاستثناء المغربي) ما هي معالم هذا الاستثناء إن وجدت ؟
يأسف الكثير من المعلقين على تأخر الحِراك (على وزن صِراع) الذي يعرفه العالم العربي اليوم عدةَ عُقود قياسا إلى ما عرفته أوروبا الشرقية وجهات أخرى من العالم، أما أنا فأقول: الحمد لله على هذا التأخير! فلو انطلق هذا الحراك عقدين من الزمن قبل الآن لكان حالنا أسوأ من حال ليبيا الآن، لأكل بعضنا بعضا، والحال أن وضع المغرب لا يحتمل أي زعزعة لتماسكه الداخلي. نحن نعيش في محيط فريد، لا مثيل له في العالم: محاصرون عدوانيا ومهددون في وحدتنا الترابية من طرف من نسميهم «أشقاء» و«أصدقاء» أولئك الذين لم يكفهم ما اقتطعوه من المغرب.
خصوصية المغرب موجودة في أنه نفَّس الاحتقان من خلال إقحام المعارضة التاريخية القوية في ممارسة الشأن السياسي ولو بتعاقد غير واضح، ووضع الكثير من رموز الحركة الحقوقية واليسار عامة في الواجهة (من المرحوم بنزكري إلى الأستاذ محمد الصبار). لقد أدت هذه العملية إلى تشتيت المسؤولية عن الوضع المتردي، وقد كانت فيما قبل توضع على رأس النظام، على الحسن الثاني مباشرة. حتى الأحقاد الشخصية التي كانت توجه إلى رأس الدولة لم تعد تجد موضوعا تتعلق به، فالكل مجمع على أن الملك الجديد غير معني بملف سنوات الرصاص. فالمتظاهرون في العواصم العربية يطالبون برحيل الرؤساء أما في المغرب فالمتظاهرون يطالبون برحيل الفساد الذي وزعت مسؤوليته بين المحيط الملكي والحكومة والبرلمان.
وتتمثل الخصوصية الثانية في الاستجابة الاستثنائية التي بادر بها الملك في خطابه 9مارس. لقد رمى بالكرة في ملعب الفاعلين السياسيين والنقابيين والجمعويين وكل من له قضية. وبالمقارنة مع ما وقع في مصر وسوريا وغيرهما من البلاد العربية تلاحظ أن الأمور أخذت مسارا مأساويا بعد خطاب مخيب للآمال. ونحن نتمنى أن تسير الأمور إلى نهايتها في هذا المسار الحواري التصالحي دون مفاجآت. إن أية محاولة للاتفاف على مطالب الديموقراطيين الذين يمدون يدهم من أجل مصلحة الوطن ستؤدي إلى خلط الأوراق في الشارع وسترتفع شعارات القراصنة. لا خيار غير الخيار الديموقراطي.
هل تعتقد أن الإصلاحات الدستورية التي تنهجها بلادنا ستؤهل المغرب، إلى الانتقال إلى الديمقراطية التي طال أمدها ؟
يجب ألاَّ نسقطَ في المنطق المغرض الذي كانت الأحزاب المستفيدة من الوضع تختبئ وراءه قائلة بأن المشكل ليس في نص الدستور، وأننا لم نستنفد كل طاقات الدستور القائم لكي نطالب بالتغيير. هذا المنطق يشبه أن يكون حقا يراد به باطل، بل هو باطل صراح. صحيح أن الدستور مجرد إطار وأداة تحتاج إلى من يشغلها، والجيل الحالي المتحكم في شؤون السياسة والإدارة (في الأحزاب والدولة) مقيد بقيود مادية وسيكولوجية تمنعه من تفعيل أي دستور مهما كان متقدما. لغتنا كلها نفاق وتملق وكذب. الجميع يسعى إلى أن يتمتع باستثناء وتدخُّل من جهة نافذة، أكثرنا نزاهة يريد تطبيق القانون على الغير. ومع ذلك كله، فإن تغييرا جوهريا يرفع اللبس عن طريق فصل صريح بين السلط سيحدث رجة نفسية سيكولوجية لدى الطرفين، وسيسمح بممارسة لغة أقرب إلى السياسة منها إلى لغة الولاء، وسيفتح للمعارضة بابا واسعا للمطالبة. هناك معركتان: معركة وضع دستور واضح صريح يسد باب التأويل، لأن التأويل يشتغل في يد الممسك بزمام السلطة والمال، ومعركة متابعة تطبيقه وحمايته.
هناك، في المغرب، عطبٌ بنيوي يحتاج إلى ثورة لتجاوزه، لا أدري هل من بيده الأمر مستعد للقيام بها. المشكل كله في إخضاع السلطة والمنافع المادية للقانون. حين يعلم الجميع أن لا أحد يمكن أن يعطي أحدا ما لا يستحقه أو يمنع عنه ما يستحقه، وحين يعلم الجميع أن لا أحد يمكن أن يؤذي أحدا أو يرفع عنه أذى إلا بالقانون سيشتغل الدستور وسيصلح أمر المغرب. ومعنى هذا الكلام: هل سيساعد الدستور في تفكيك المخزن؟ الجواب متروك لصمود الشباب في متابعة هذا الملف.
من مضمرات الفكر السياسي النظر إلى الحركة الإصلاحية باعتبارها نتاجا لتحول في سيرورة الوعي المعرفي، بينما نجد أن النخب المغربية تحاول الالتحاق بهذه التحولات، هل تعتبر ذلك نتيجة لوجود أزمة تستدعي ضرورة التسريع بثورة ثقافية ؟
مبدئيا، للوعي المحرك للإصلاحات رافدان: كوني ومحلي، وقد صار الرافد الكوني أكثر فاعلية مع تقدم وسائل الاتصال...
أما القول بتخلف النخب المغربية عن الحدث فيقتضي تدقيقا، هنا حَبٌّ وتبن: هناك من يئس واستسلم، وهناك مجموعة قوية صامدة مقتنعة، منذ عقود بأن النظام المخزني نظام استعبادي خارج التاريخ، ويجب تفكيكه. وهنا لا بد من التنويه بمجموعة من المفكرين والمناضلين الحقوقيين الذين تحدوا كل أساليب الإغراء والترهيب.ابدأْ من المرحوم محمد عابد الجابري والأستاذ عبد الرحيم برادة ومن سار على دربهما وستجد أن اللائحة غير فارغة كما يتبادر إلى الذهن. أنا أفتخر بانتمائي إلى هذه الطائفة التي ترى أن النظام المخزني نظام استعبادي وقد ظللت أنقر هذه الخشبة منذ ثلاثة عقود، وآخر ما كتبته في الموضوع هو كتاب صدر السنة الماضية، أي قبل هذه الثورة بقليل بعنوان: منطق رجال المخزن وأوهام الأصوليين، عوائق الحداثة المغرب. (وهو موضوع على موقعي على الأننترنيت) ماذا يطلب الشباب اليوم؟ يطلب ذهاب رموز المخزن الجديد، هذا ما طالبتُ به ضمنيا حين رَدَدت تبريرات عبد الهادي بوطالب وحذرت من مشروع الهمة في هذا الكتاب. يجب الانتباه إلى أن «نقار الخشب»، ذلك العصفور النحيف، مثل المثقف، لا يقوم بعمل عبثي ولا بعمل انقلابي، ولكنه يصل في نهاية المطاف بمنقاره الضعيف إلى ثقب جذع الشجرة الشديد الصلابة، المهم عدم اليأس، هناك تراكم يختفي عن أبصارنا يوم «القيامة»، وقد قامت قيامة الأنظمة الاستبدادية، ويجب الاستمرار في التشهير بها وكشف عورتها، أنا لا أجد فرقا بين ما كتبته قبل الثورة وما أكتبه في سياقها الآن.
يقول بعض الباحثين، إن ظهور الإسلام السياسي في العالم العربي هو نتاج للجمود السياسي، وأن هذه الثورة الديمقراطية هي بمثابة صمام أمان ضد الإسلام الراديكالي ؟
يقال عادة بأن الأصولية جاءت نتيجة فشل الدعوى القومية الاشتراكية في مواجهة الصهيونية، ثم وجدت الأرض الخصبة في ظل الأنظمة الاستبدادية، متحالفة معها حينا ومنقلبة عليها حينا آخر...الخ
أما القول بأن الثورة الحالية صمام أمان ضد الأصولية فهذا يرتبط بتصريف ما بعد حسم «المعركة» مع الأنظمة، حالةً بحالةً. فيما يخص المغرب: الإسلاميون مندمجون ظاهريا في الحركة، وقد تخلوا عن تاكتيكهم القديم الذي لخصته سابقا في: التأثيم والعزلة، تأثيم من لا ينتمي إليهم واعتزاله حتى في المظاهرات. فإذا استجاب النظام للمطلب الديموقراطي سيدخل المغاربة مرة أخرى فيما دخلوا فيه مع محمد الخامس: ثورة الملك والشعب، ولن تبقى حجة للصيد في الماء العكر، أما إذا تغلبت مرة أخرى لا قدر الله جيوب معاداة الإصلاح، وتعثرت المسيرة، فسيجد الأصوليون الفرصة لخلط الحابل بالنابل والكشف عن أجندتهم الحقيقية، وهي في أحسن الأحوال أجندة الإخوان المسلمين الذين يهددون الديموقراطية في مصر.. الثورة صمام أمان إذا حققت الديموقراطية: دولة الحق والقانون.
إن القاسم المشترك بين الثورات العربية يتمثل في مبادرة الشباب إلى إشعالها، هل ترى أن المحللين السياسيين والمثقفين عموما قد استهانوا بدور الشباب الذين ألصقت بهم نعوت العزوف السياسي والابتعاد عن الشأن العام؟
اكتفي في هذه النقطة الأخيرة بمجرد انطباع.
من المسلم به أن المرء يصاب بالدهشة حين يجد نفسه أمام شابات أنيقات في ريعان الشباب تقدن المظاهرات وتطلقن الشعارات يرددها وراءهن آلاف المتظاهرين، شابات تنشرن فيديوهات على الشبكة تناقشن فيها الوضع المغربي، هذا شيء خارق للعادة. انتهى العصر الذي تحتاج فيه المناضلة إلى التضحية بحياتها الخاصة لكي تحقق نصف حضور سياسي. حين تتغير الأداة تتغير العقلية نفسها: من المسلم به لدى الباحثين أن الكتابة لم تكن مجرد أداة تقنية لتثبيت المعلومات، بل كانت ثورة نقلت الإنسان من عقلية المرقِّع إلى عقلية المهندس، وهاهي ثورة المعلوميات تحول الشباب من متفرجين إلى فاعلين سياسيين. هذه أمور موضوعية علمية يمكن تفسيرها، ولكن يصعب التنبؤ بها قبل وقوعها.
أما الذين استهانوا حقا بالشباب وأدوا إلى عزوفهم، فهم القادة السياسيون الذين ميعوا اللعبة وحولوها إلى مجال للمناورة من أجل مصالح شخصية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.