الذين قرؤوا روايات العزيز الراحل خيري شلبي دون أن يتعرفوا عليه، ويُجالسوه، لن يُدركوا سرّ ذلك الوهج الذي يسري بين الأسطر، وينبثق من معجم الكلمات التي لا تضع حدودا بين لغة مكتوبة وأخرى مُقتنصة من حوْمة الكلام وارتجال التعبير . هو في وجوده، كُلّي الحضور،يجسد الحس الشعبي ورهافة المثقف، الأنيس المؤانس،والقارئ النّهِم الباحث عن أسرار تتأبّى على الظهور . وذاكرتُه القوية حاضرة باستمرار، تختزن أجود الأشعار وتنضح بالقصص والسيَر،وتفيض بالنكت والطرائف الطاردة للهموم ...وكان يخيل إليّ ، كلما التقينا ، أن الأسبقية لديْه هي ل « اللحظات المتميزة « التي تجعلنا نُقبل على الونس والسمَر والشُّرب ، مُرجئين الجِدّ و» المعقول « إلى ما بعد، لأن ساعة المرح والأنس والحلم بصوت مرتفع، لا تقبل التأجيل . أليست مثل تلك الساعات هي ما يمُدّنا بعزيمة الاستمرار في الوجود، ومتابعة الإبداع على رغم قحولة الطريق وهجير الرّمضاء . هذا التمازج بين المعيش والمُبتدع فنيا هو ما يفسر ، ربما، سمة َ « التدفق « في روايات ونصوص خيري ، لأنه في غير حاجة إلى الانتقاء بين الموضوعات ما دامت جميعها جزءا من الذاكرة والتجربة، وما دام هو قد احتضنها من خلال طاقة التخييل التي استولتْ عليه في باكر طفولته،وزرعت لديه موهبة تحويل الأحداث عبر الخيال والشطح الفانتازي ...بل هو ليس في حاجة إلى التفكير في الشكل الملائم ، أو إلى شحن ِ الرواية بأبعاد دلالية تُخصّص رؤيتها . ذلك أن الرواية عنده ، مثل الحياة ،نهر صاخب ، متدفق،يجب الإمساك بكل منابعه وتجلياته وعناصر طمْيِه المُخصبَة، وتقديمها إلى القارئ بما هي عليه من زخم وفوضى، ليغطس في خضمّها ويغوص في مجرى نهر الحياة، مُنقّبا،متأملا،ساعيا ً إلى إيجاد موقع له وسط عالم الرواية المتشابك . وأول ما يسترعي الاهتمام في روايات وقصص خيري شلبي، هو الحضور القوي للأجواء الشعبية بمعناها المادي والروحي، لا بمعناها الفولكلوري ، وهو عنصر يستمدّه من نشأته ومنْبته وارتباطه العضوي بهذه البيئة التي تُشكّل التربة اللاحمة بين الواقع وتحولات الوعي بالتاريخ ...فإذا كانت نصوصه تستوحي ، أساسا ،قاعَ المدينة والشخصيات اللابِدة في الدهاليز والحواري ، فإن ذلك يستجيب لمخزون ذاكرته ومشاعره ، أي لتلك المُكوّنات الكيانية التي تجعل منه خيري شلبي الحامل لصوت فئات واسعة لم تسمح لها الظروف بأن تعبر عن نفسها . من ثم ذلك الانطباع الذي يتولد لدينا ، عند التقاء خيري أو قراءته، بأن ذاكرته تمتزج بذاكرة شعبية بلا ضِفاف ،وأن قدرته على التخييل والإضافة واستحضار التفاصيل،إنما هي عملية يتقصّد من ورائها تخليد هذه الذاكرة المشتركة التي فُتِنَ بها ويخشى عليها من التلف والضياع . وأكثر ما يتجلى ذلك في نصه المتفرد « بطن البقرة «(2006)، الذي أسماه « جغرواية « ، حيث يتجلى هوسه بالأمكنة الحاوية للذاكرة الفردية والجماعية المتعددة ، وحيث أراد أن يؤرخ لثلاثة أحياء في مدينة القاهرة (حيّ قايتبايْ +حي الباطلية + الأزبكية )، تأريخا يجمع بين الرواية والجغرافيا والتاريخ والشعر والغناء،ومشتملا على المسالك التي قادتْه إلى ابتداع شخصياته ومحكياته السردية ... وتأتي جمالية هذا النص من كونه استطاع أن يميز قاهرة خيري عن قاهرات الروائيين الآخرين،وأن يرسم ملامحها من خلال المنظور الشعبي الذي يمزج الأسطورة بالتاريخ قائلا : « في مصر، يصعب عليك التفرقة بين التاريخ والأساطير، إذ تبدو حقائق التاريخ- من فرط ما فيها من خرق ، كأنها خيال العامّة، كما أن خيال العامّة كثيرا ما يختلط بالحقائق التاريخية . وقد اعتادت العقلية المصرية الشعبية أن تتعامل مع الأساطير باعتبارها حقائق، ومع الحقائق باعتبارها أساطير...» (ص.152 ). لكن سمات تشخيص « الواقع « عبر التفاصيل الوصفية والسردية ، ولحظات التخاييل الفانتازية،إنما تبلغ قمتها في رواية « وكالة عطية « التي جعلت من مدينة طنطا شخصية رئيسية من خلال الشوارع والأزقة والأسواق وفندق عطية الحاضن لعينات من الرجال والنساء لا يطمسها النسيان . في « وكالة عطية « ، نجح شلبي في أن يجعل حيوات الناس وصراعاتهم هي الواجهة الأولى لمجرى التاريخ في تجلياته اليومية، التلقائية، ولم يترك الوقائع تطغى لتسحق دفْقَ الحياة ولغتها .وَ فوق كل ذلك ، استثمر خيري ببراعة لغة الكلام وأدمجها في النسيج الروائي، وحيّدَ تلك المسكوكات البلاغية الجاهزة التي تعوق اللغة الواحدة المتعددة ، عن استعادة نبضها وتواصلها مع القارئ . من هذه الزاوية، تستحق روايات خيري تحليلا ضافيا وعميقا للوقوف على منجزاته في مجال تعبيرية اللغة العربية الجامعة بين الفصحى والدارجة من منظور القرابة والتفاعل . وأنا أكتب هذه الكلمات تحية لروح خيري شلبي، أستحضر آخر لقاء جمعنا منذ ثلاث سنوات في دمشق،دعانا إليه الصديق خليل صويلح وشارك فيه مجموعة من الروائيين والنقاد . وكانت أجمل جلسة في ذلك اللقاء أمسية تحدث فيها خيري عن حياته وتجربته الأدبية ...كان حوارا لا ينسى، لا لأنه قال أشياء جديدة وإنما نتيجة ل « حضوره « الإنساني وصدقه في الحكي والبوْح والمكاشفة . كنا نتمنى ألا يتوقف عن الكلام لأن بساطته وخفة دمه جعلتانا نحب انتماءنا إلى الأدب والإبداع، في فترة كانت تبدو فيها جميع بوّابات الأمل مغلقة . وكانت لحظة التتويج في ذلك المساء الدمشقي ، بأحد المطاعم الجميلة العتيقة، عندما وقفت الكاتبة المشاكسة منى برنس لترقص، متحدية الكهول منّا، فأنقذت ميرال الطحاوي الموقف وهبّت إلى حومة الرقص في فستانها الجميل ودعت خيري إلى مرافقتها فاستجاب والابتسامة تعلو شفتيه، وتحلقنا حولهم ضابطين الإيقاع ومنغمرين في الفرحة التي أشعلها رقص خيري وميرال ومنى وبعض الشباب... لذلك سيظل خيري ماثلا في ذاكرتي من خلال تلك الابتسامة الفرحانة وهو يحرك جسمه برشاقة ليتناغم مع مُراقصته ؛ ولا أظن أن الموت يستطيع أن يمحو من ذاكرتي تلك البسمة المضيئة . في كتابه الأخير « أنسُ الحبايب « يحكي خيري عن محيطه الفقير وعن صعوبات العيش التي كان من الممكن أن تجعله مجرد رقم مجهول وسط الملايين « المتروكين على الحساب « ،الذين يعبرون الدنيا دون أن يتركوا بصمات ... لكنه منذ اكتشف متعة التخييل والسرد استطاع أن يتغلب على خطر الهشاشة الاجتماعية، إذ بدأ « يُخرّف « وعمره أربع سنوات، مُراهنا على العوالم اللامرئية التي تزيد من فسحة الحياة، وتفتح أبواب الأمل .وأظن أن تلك البذور الطفولية « التخريفية « هي التي أتاحت لخيري شلبي أن يُبحر في يمِّ الكتابة بشراهةٍ وغزارة، تملؤه فرحة ُ الإبداع والاستكشاف وتحويل الذاكرة إلى كلمات مضيئة ، وهو ما جعل شهوة الحياة لديه حاضرة باستمرار .