كان رحيل الكاتب الكبير خيري شلبي يوم الجمعة الماضي، دون سابق إنذار، بمثابة الصاعقة التي نزلت على المبدعين والقراء العرب، ومن ضمنهم المغاربة، فالذين قرؤوا له «اسطاسية» و«وكالة عطية» و«موال البيات والنوم» و«صالح هيصة» وغيرها كثير يتذكرون أن الرجل كان قلما لا يجفّ، يحكي باستمرار عن نهر الحياة، الذي كان منغمرا فيه إلى درجة كبيرة، فهو يعرف عنه الصغيرة والكبيرة، فقد كان نموذج الكاتب الذي يعيش خارج برجه العاجي، مما جعله يستحق أن يكون صوت المهمَّشين والذين يعيشون في الظل، وهذا ما جعل أحد النقاد يقول إن حياة خيري شلبي كانت «رواية» مدهشة، ثرية بالخبرات والتجارب التي تضيق بها حياة فرد واحد، وهذا ما انعكس على غزارة أعماله وثراء عوالمها. كانت مسيرته حافلة بالإبداع في الرواية والقصة والدراسات الأدبية، وبقي وفيا للكتابة إلى آخر رمق من حياته، فقد فاجأه الموت وهو يستعد لكتابة إحدى مقالاته اليومية. وقد تكللت هذه المسيرة الإبداعية بعدة جوائز، حيث حصل على جوائز مختلفة. فخيري شلبي، المولود في 31 يناير 8391، هو أحد أبرز كُتّاب جيل ستينيات القرن الماضي وأغزرِهم إنتاجا، حيث يزيد عدد الكتب التي ألّفها خلال مسيرته الإبداعية على 07 كتابا اختلفت مناحيها ما بين تحقيق لنصوص كادت تتوارى مع الزمن، على أهميتها، ودراسات أدبية نقدية، دون أن ننسى القصة القصيرة والرواية، التي اشتهر بها أكثر من غيرها. ففي مجال البحث والتنقيب والتحقيق، أخرج خيري شلبي إلى النور نصوصا مسرحية فريدة، فقد اكتشف، ببحثه الدؤوب، أكثر من 002 مسرحية مطبوعة في القرن ال91 وأواسط القرن العشرين، ويُذكَر في هذا الباب أنه اكتشف ضمن مجموعة من النصوص نصا مسرحيا من تأليف الزعيم المصري مصطفى كامل بعنوان «فتح الأندلس». كما اكتشف أيضا مسرحية من تأليف العلاَمة الشيخ أمين الخولي بعنوان «الراهب»، كتبها أمين الخولى ل«جوقة عكاشة». وهو أيضا مكتشف قرار النيابة في كتاب «الشعر الجاهلي»، إذ عثر عليه في إحدى مكتبات «درب الجماميز»، المتخصصة في الكتب القديمة، وكان المعروف إعلاميا أن طه حسين قد اُستُتيب لتنتهي القضية. وبظهور هذا القرار النيابي، اتّضحت القضية واتضح أن النائب العام حفظ القضية لعدم كفاية الأدلة. وعموما، تتوجه قائمة كتابات الراحل صوب الشخصيات والأماكن المهمَّشة والمزدحمة بحراكها الإنساني، الصاخب، وهي تتصارع في سبيل الوصول إلى أهداف عصيّة عن التحقق نتيجة لِتَغوُّل الواقع وإفرازاته. ومن إبداعاته التي استندت إلى تجربته الشخصية في الحياة رواية «وكالة عطية»، التي نال عنها جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية في القاهرة عام 3002، والتي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني. وحين سئل في برنامج «كلام مسؤول» عن قبوله هذه الجائزة من الجامعة الأمريكية، ردّ بأنه قبلها لأنها تحمل اسم العملاق نجيب محفوظ، وليس لأنها من الجامعة الأمريكية... وقد كانت رحلة الراحل مع الإبداع طويلة، فقد انطلقت منذ العام 0891، حين نال جائزة الدولة التشجيعية في الآداب، ثم حصل على وسام العلوم والفنون العام 1891، مثلما ظفر بجائزة أفضل كاتب روائي عربي عن روايته «وكالة عطية» عام 3991، كما رُشح من قبل مؤسسة «السفراء»، الكندية، للحصول على جائزة نوبل للآداب... وقد علّق الناقد محمد عوض من مصر على عدم حصوله على هذه الجائزة بقوله «التفسير الوحيد لعدم حصول خيري شلبي على نوبل للآداب هي أنها أصبحت جائزة سياسية من الدرجة الأولى». ومن مجموعاته القصصية (صاحب السعادة اللص، المنحنى الخطر، وسارق الفرح)، ومن مسرحياته: «صياد اللولي»، و«المخربشين». ويجد قارئ شلبي أن الأخير كاتب يتمتع بصراحة متناهية غير متصنَّعة ويتكلم عن الفئة البسيطة من عامه الشعب، التي تصادفنا كل يوم تقريبا في طريقنا، من باعة متجولين أو نجارين أو صغار اللصوص أو متسولين... إلخ. فهو يجعل من هذه الفئة أبطالا لروايته. كما أنه كتب النقد والدراسات الأدبية، ومن كتبه في هذا الصدد «أبوحيان التوحيدي»، عن دار العروبة، و«مؤرخو مصر الإسلامية»، عن دار المستقبل. وقد تُرجمت معظم رواياته إلى الروسية والفرنسية والإنجليزية... وقد غدا، بإنتاجه الغزير هذا، موضوعا للبحث النقدي الأدبي، حيث قُدِّمت عنه عدة رسائل للماجستير والدكتوراه في جامعات القاهرة وطنطا والرياض وأكسفورد وإحدى الجامعات الألمانية. وقال إبراهيم أصلان، الكاتب المعروف وصديق عمر شلبي، في حوار أجري معه حول الراحل، إنه اتصل به وجرى بينهما كلام عن مصر وعن الواقع المصري، وزاد قائلا إن شلبي لم يكن ينام الليل، وكانت آخر مكالمة بينهما قبل رحيله بوقت قليل. وعن هذا يقول: «اتصل بي في الثانية فجراً وسألني عن اسم الجزء الثالث من «الكوميديا الإلهية» لدانتي، لأنه كان يكتب مقالاً لجريدة «الوفد» ومحتاجا إلى هذا العنوان».. وأضاف أن خيري كان يتمتع بذاكرة قوية جداً، كما أنه «صاحب أقسى وأغنى التجارب التي مر بها أبناء جيلنا، فضلا على أنه تربى على السِّيَّر الشعبية وعرَف الكثير عن الفلاحين وعن أبناء المدن، كما تنوعت أماكن إقامته -كان ذخيرة حية من العلاقات شبه السرية التي لا يعرف معظُمنا عنها شيئا»... وأضاف إبراهيم أصلان أنه «كانت عند عمر شلبي مخاوف بخصوص ما يدور في مصر.. كان شبه مرعوب من أن تتحول البلد إلى دولة دينية»... أما عن أقرب أعمال شلبي إلى إبراهيم أصلان فيقول الأخير: «أرى أن أكثر أعمال شلبي إحكاماً هي رواية «الوتد». هذه الرواية هي أول عمل مدهش بالنسبة إلي. وهناك أعمال أخرى أحببْتها، مثل «موال البيات والنوم» و«وكالة عطية».