دموع الأم ووفاء الوطن.. لحظات استثنائية في حفل كزينة بالرباط    توقيف سيارة رباعية الدفع محملة بكمية كبيرة من المعسل المهرب ضواحي طنجة    وثيقة l من حصار بيروت 1982 إلى إبادة غزة 2025: رسالة السرفاتي وأسيدون إلى ياسر عرفات تتحدى الزمن وتفضح جٌبن النٌخب    تيزنيت: محاولة فاشلة لعصابة تسرق أسلاك الكهرباء و أنابيب السباكة النحاسية من منازل في طور البناء ( صور )    البقالي يكتفي بالمرتبة 12 في سباق 1500 متر    المنتخب المغربي للمحليين يلعب آخر أوراقه أمام "فهود الكونغو" في "الشان"    بطولة كأس أمم إفريقيا للمحليين (الجولة5/المجموعة2) .. مدغشقر تتأهل لربع النهائي بفوزها على بوركينا فاسو (2-1)    شكوك تحوم حول مستقبل نايف أكرد مع ويستهام    الطالبي يتألق في أول ظهور بالبريميرليغ ويقود سندرلاند لانتصار هام على وست هام    وقفات ومسيرات تضامنية مع غزة بعدد من المدن المغربية    رحلات طيران أرخص: جوجل تطلق أداة ذكاء اصطناعي للعثور على أفضل العروض    اكتشاف جيولوجي مذهل.. المغرب يكشف عن أقدم ديناصور من فصيلة "التورياسورات" بإفريقيا    لقاء بين ترامب وزيلينسكي الاثنين المقبل بالبيت الأبيض    السباح المغربي حسن بركة يحقق إنجاز السباحة حول محيط جزيرة مانهاتن في نيويورك    الجزائر تعلن سحب الحافلات القديمة    بركة .. أول مغربي يسبح حول مانهاتن    "حق تقرير المصير" في السويداء .. شعار يُغري إسرائيل ويمزق سوريا    أطباء القطاع الحر يطالبون الصيادلة بإثبات مزاعم التواطؤ مع شركات الأدوية    استقرار أسعار المحروقات في المغرب    هل يقود لفتيت حكومة 2026؟‬    وكالة الغابات تصدر خرائط للمناطق الحساسة المعرضة لخطر اندلاع الحرائق    معركة غزة تدخل مرحلة جديدة .. "القسّام" تواجه أشرس هجوم إسرائيلي    أغلب الأمريكيين يعتبرون الكحول مضرا بالصحة    دراسة: عشاق القهوة في مزاج أفضل بعد الفنجان الأول بالصباح    فتح الله ولعلو: المغرب والصين تقاسما شرف المساهمة في انتصار الحلفاء        بورصة البيضاء .. أقوى ارتفاعات وانخفاضات الأسبوع        مريدو "البودشيشية" يؤكدون استمرار منير القادري على رأس الزاوية    اتلاف كمية من الفطائر (السفنج) الموجة للبيع في الشواطئ لغياب معايير الصحة    الحرارة المفرطة تفاقم أزمة المياه بالمغرب.. حوض ملوية في وضع حرج    صفقتان لتأهيل مطاري تطوان والحسيمة استعدادًا لكأس العالم 2030    تغيرات متوقعة في طقس السبت بعدد من مناطق المملكة    بوليف: التحويلات المالية لمغاربة العالم ينبغي ترشيد استثمارها ويجب إشراك الجالية في الانتخابات التشريعية    حموني: سنة 2026 ستكون "بيضاء" على مستوى إصلاح أنظمة التقاعد والمقاصة    برنامج "نخرجو ليها ديريكت" يناقش تحديات الدخول السياسي والاجتماعي المقبل    طنجة تتصدر الوجهات السياحية المغربية بارتفاع 24% في ليالي المبيت    منظمة الصحة العالمية تحذر من استمرار تدهور الوضع العالمي للكوليرا    ابتكار أول لسان اصطناعي قادر على استشعار وتمييز النكهات في البيئات السائلة    ملتقى الثقافة والفنون والرياضة يكرم أبناء الجالية المغربية بمسرح محمد الخامس بالرباط    في بلاغة الغياب وحضور التزييف: تأملات في بيان حزب الأصالة والمعاصرة بالعرائش !    كيف أنسى ذلك اليوم وأنا السبعيني الذي عايش ثلاثة ملوك    غاب عن جل الأحزاب    عادل شهير يوقع أحدث أعماله بتوقيع فني مغربي خالص    أوجار: مأساة "ليشبون مارو" رسالة إنسانية والمغرب والصين شريكان من أجل السلام العالمي    تطوان تحتضن انطلاقة الدورة الثالثة عشرة من مهرجان أصوات نسائية    سفارة الصين بالرباط تحتفي بالذكرى الثمانين لانتصار الحلفاء بعرض وثائقي صيني    صحيفة أرجنتينية تسلط الضوء على عراقة فن التبوريدة في المغرب    مشروع قانون يثير الجدل بالمغرب بسبب تجريم إطعام الحيوانات الضالة    النقابات تستعد لجولة حاسمة من المفاوضات حول إصلاح نظام التقاعد    راب ستورمي وحاري في "رابأفريكا"    دورة سينسيناتي لكرة المضرب: الكازاخستانية ريباكينا تتأهل لنصف النهاية على حساب بسابالينكا    القصر الكبير: التنسيقية الجمعوية المحلية تدق ناقوس الخطر حول الوضع البيئي المقلق بالمدينة    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حقوق الإنسان .. الفجوات بين النصوص والواقع
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 31 - 10 - 2011

تشكل الحرب إطارا آخر للسلوكات التي تخترق حقوق الإنسان، وهذا رغم أن الناس قد يعتقدون كل من جهته من بين الأطراف المتصارعة، بأنهم يحاربون من أجل الدفاع عن حق يطلبونه، أو من أجل ظلم أو حيف يريدون رفعه عن الناس أفرادا وشعوبا. ففي أشكال العنف الذي تتضمنه الحروب بطبيعتها كشكل من الصراع، أنواع من الاختراق المستمر لحقوق الإنسان. لم تتوقف الإنسانية، مع ذلك، عن الحروب المدمرة لحياة ملايين الناس. وأكثر من ذلك، فإن كثيرا ممن ذهبت حياتهم سدى في هذه الحروب لم يكن لهم مشاركة فيها ولا كان لهم دور في التخطيط لها. ونزيد على هذا ملاحظتنا أن الحروب المدمرة، التي دارت في القرن العشرين وفي بداية القرن الواحد والعشرين، لم تقم من أجل استرداد حق ضائع، بل من أجل مصالح تخص بعض البلدان التي حاربت من أجل مصالحها على بعد آلاف الكيلومترات من ترابها الوطني.
- 1 -
انطلقنا في كل مرة تناولنا فيها موضوع حقوق الإنسان من تقدير خاص لصدور ميثاق حول تلك الحقوق، باعتباره لحظة لها قيمة كيفية في تاريخ الإنسانية على هذا الصعيد. لكن هذا التقدير لن يمنعنا من أن نلاحظ أن حقوق الإنسان منطبقة على الواقع الفردي والمجتمعي، ثم في العلاقات بين الدول تركت المجال لكثير من الثغرات التي لا غنى عن التفكير فيها وأخذها بعين الاعتبار. ففي التطبيق الذي يمس الحياة العملية للإنسان تنسل بكيفية لاشعورية، وفي صورة إرث من العصور السالفة لم تنجح الإنسانية في التخلص منه، تصرفات فردية وجماعية ودولية مناهضة للعمل بحقوق الإنسان، فتسمح بابتعاد النصوص عن الواقع الذي وجدت لتشرع له. تعاني الإنسانية اليوم من الحرج التالي: هناك نصوص تشرع لحقوق الإنسان الأساسية التي يكون المساس بها اختراقا لإنسانيته، ولكن الواقع الذي عرفه العالم منذ ذلك يشهد عدة خروقات لها على مستوى الأوطان المختلفة من حيث تقدمها، وكذلك على المستوى الدولي.
- 2 -
لنبدأ بأول الحقوق التي أقرها الإعلان العالمي عنها، وهو الحق في الحياة وواجب الحفاظ عليها من طرف الغير. وهو الحق الأساسي الذي تنبثق عنه حقوق أخرى. فالحياة هي الشرط الذي لا غنى عنه لوجود الكائن بوصفه فردا من نوع، وشخصا له مكونات نفسية ومجتمعية وله مكانة ودور في الحياة المجتمعية التي يشترك فيها مع غيره، ثم مواطنا يكون المطلوب منه المشاركة في الحياة السياسية.
ما نلاحظه في الواقع لا يتطابق تمام المطابقة مع القيمة التي تجعل الحفاظ على حياة الإنسان غاية قصوى لكل سلوك فردي أو جماعي. فحياة الغير لا تكون محترمة كحق أساسي، بل إن الاستهتار بها هو المظهر البارز في كثير من السلوكات التي نصادفها يوميا، وفي كثير من السياسات التي تبني عليها كثير من المجتمعات والثقافات علاقتها بالغير.
نلاحظ عدم احترام حق الغير في الحياة من خلال ارتفاع نسبة الجريمة في المجتمعات المختلفة، علما بأن هذا الارتفاع اصبح ملاحظا بصفة أقوى في المجتمعات الأكثر تقدما. ونرى أن هناك أسبابا تدفع الإنسان إلى القضاء على حياة الآخر منها ما هو نفسي وما هو مجتمعي.
تشكل الحرب إطارا آخر للسلوكات التي تخترق حقوق الإنسان، وهذا رغم أن الناس قد يعتقدون كل من جهته من بين الأطراف المتصارعة، بأنهم يحاربون من أجل الدفاع عن حق يطلبونه، أو من أجل ظلم أو حيف يريدون رفعه عن الناس أفرادا وشعوبا. ففي أشكال العنف الذي تتضمنه الحروب بطبيعتها كشكل من الصراع، أنواع من الاختراق المستمر لحقوق الإنسان. لم تتوقف الإنسانية، مع ذلك، عن الحروب المدمرة لحياة ملايين الناس. وأكثر من ذلك، فإن كثيرا ممن ذهبت حياتهم سدى في هذه الحروب لم يكن لهم مشاركة فيها ولا كان لهم دور في التخطيط لها. ونزيد على هذا ملاحظتنا أن الحروب المدمرة، التي دارت في القرن العشرين وفي بداية القرن الواحد والعشرين، لم تقم من أجل استرداد حق ضائع، بل من أجل مصالح تخص بعض البلدان التي حاربت من أجل مصالحها على بعد آلاف الكيلومترات من ترابها الوطني.
تشمل ملاحظتنا لاختراق مواثيق حقوق الإنسان خلال الحروب، تلك الحروب التي تدور داخل نفس البلاد بين أطراف متنازعة فيها، والتي لا يكون فيها احترام لحق الإنسان في الحياة. فقد ظهر القتل في مثل هذه الحروب بأشكال فظيعة نسي الملاحظ في أنها جرت في زمن توافقت فيه الإنسانية على جملة من المواثيق التي تحفظ حقوق الإنسان.
نذكر أيضا الظاهرة الإرهابية التي مست عواقبها العالم بأكمله. فلا اعتراف في الإرهاب بحق الإنسان في الحياة، وخاصة في الحالاتالتي لا تتوجه فيها الأفعال إلى عدو واضح، بل إلى القضاء على حياة أناس لا علاقة لهم بالصراعات المفترضة فيها ولا بشروط قيامها.
نخلص من كل ما قلناه إلى القول إن النصوص التي يتضمنها الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان لم تنه بشكل حاسم الموضوع الذي تتعلق به. فمنذ تلك النصوص إلى الآن صدر عن الإنسانية ما يدل من جهة على الرغبة العميقة في الحفاظ على حقوق الإنسان، وأهمها حقه في الحياة ليستجيب ذلك للرغبة العميقة في البقاء، ولكن صدرت عن الإنسانية أيضا أفعال مناهضة لحقوق الإنسان تدل على نوع من التدمير الذاتي وهدم أسس الحياة الإنسانية استمرارها. ولا مخرج من ذلك إلا باتباع سياسات تصون حق الإنسان في الحياة داخل المجتمع الواحد أو في العلاقات بين المجتمعات.
- لا غنى داخل كل مجتمع عن دراسة شروط انتشار الجريمة للتمكن من توفير حماية المجتمع منها، لما فيها من خطر على حق الإنسان في العيش في أمان.
- لابد أيضا من العمل على تطوير سياسة السلام في العلاقات الدولية، لما في ذلك من حماية للإنسانية من خطر الحروب التي تقضي على حياة الملايين من الناس.
ليس ضمان حق الإنسان في الحياة هو المطلب الوحيد الذي تظهر فيه الفجوة بين النصوص والواقع في تطبيق المبادئ الداعية إلى الحفاظ على حقوق الإنسان. فهناك حقوق أخرى أساسية نلاحظ بصددها نفس الفجوة، ويستحق بعضها أن نوليه اهتمامنا لمعرفة الوضع الراهن لحقوق الإنسان في العالم.
- 3 -
قلنا في السابق إن حق الإنسان في الحياة هو الذي تتمحور حوله الحقوق الأخرى، لأن انعدامه يجعل تلك الحقوق الأخرى لاغية، حيث لا وجود للذات التي ستحملها. ولذلك، فإننا تتمة لحديثنا عن حق الإنسان في الحياة سنبدأ من الآن حديثنا عن الحقوق الإنسانية الأساسية الأخرى.
أول حق بعد ضمان الحياة هو حق التغذية المتمثل في ضرورة الحصول على القدر الكافي( الحد الأدنى أو ما يفوقه) من الغذاء الضامن لاستمرار حياة الفرد ولحمايته من المجاعة والأمراض التي يمكن أن تنجم عن ذلك. وهذا الحق هو الذي يكون على جميع الحكومات أن توفره لمواطنيها، وبه نقيس مدى التزامها بالعمل بمقتضى حقوق الإنسان.
نعتبر الحق في القدر الكافي للغذاء من الحقوق الأساسية للإنسان. فقد نطلب للإنسان حريات متعددة تتعلق بشخصيته القانونية والمجتمعية والسياسية، ولكن الإنسان الذي لا نوفر له الحد الأدنى من التغذية لن يعيش إلا حريات وهمية توجد في النصوص دون أن يكون بإمكانه الوصول إلى درجة التمتع بها. فما المعنى الذي ندعو به الإنسان في مجتمع ما لممارسة حقه في الانتخاب من أجل اختيار حكامه أو ممثليه في المجالس النيابية والاستشارية إذا كنا لا نخطط من أجله لسياسة توفر له شرط الاستمرار في الوجود دون التعرض لأخطار جسمية ونفسية وعقلية يسببها النقص في التغذية؟
قبل أن يكون الحق في التغذية حقا مجتمعيا، فإنه يكون قبل ذلك حفاظا على الإنسان في مستوى أول هو وجوده البيولوجي ككائن حي. فالإنسان، قبل أية خاصية أخرى، جسم حي من خصائصه التغذية والنمو، ومن حقه من حيث هو كذلك أن يكون من بين أولويات وجوده أن يهيئ له المجتمع الشروط الدنيا للعيش الملائم، وهو ما تلعب فيه التغذية الكافية دورا هاما يضمن به الإنسان استمرار حياته.
الحق في التغذية الملائمة شامل للنوع الإنساني ينبغي أن يتمتع به كل فرد منه دون تمييز في ذلك بين الناس، كما هو الشأن في ذلك بالنسبة لحقوق الإنسان بصفة عامة. وهو شامل أيضا على مستوى التضامن المطلوب من الإنسانية لكي يكون ذلك الحق متوفرا لجميع الناس بدون استثناء. فكما أنه يكون على الحكومات في كل بلد أن تضع من السياسات الزراعية والصناعية ما يؤدي إلى توفير التغذية لمواطنيها، فإن على المنظمات الدولية المهتمة بهذا الأمر، ومنها أساسا منظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة، أن تخطط لسياسة تنسيقية بين أعضائها من أجل توفير الغذاء في الجهات المختلفة من العالم، وذلك نتيجة للضرر الذي قد يلحق جزءا من الإنسانية لأسباب طبيعية أو مجتمعية مختلفة. فإن حضور ذلك العمل المشترك هو ما يعطي معنى إيجابيا للمواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان.
الحق في توفير التغذية شامل يتعلق بالإنسان في كل أوضاعه: فهو حق للطفل سليما وعليلا، وللأطفال الفاقدين لأسرهم لسبب من الأسباب، وللأطفال المتخلى عنهم أو من هم في حالات قريبة من هذه الحالة، والتغذية كذلك حق بالنسبة للإنسان الراشد غير القادر على توفير ذلك بنفسه لظرف من الظروف المانعة، وحق للمريض سواء كان مرضه عضويا أو نفسيا أو عقليا، وحق للسجين مهما كانت بواعث اعتقاله وسجنه، ومهما كانت الأحكام الصادرة في حقه. التغذية بتعبير آخر حق للإنسان في جميع أوضاعه الحياتية، ومادام على قيد الحياة. ولا يحق تبعا لذلك تعريض الإنسان للجوع، أو وضعه في إطار نقص في الغذاء إلى الحد المضر بجسمه وتعريضه للأمراض والوفاة.
نلاحظ في عالم اليوم، رغم وجود المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وضمنها بنود تتعلق بالحق في التغذية، هو الانتشار المتزايد للمجاعة في جهات من العالم، وخاصة في إفريقيا وآسيا وبعض بلدان أمريكا الجنوبية. ويعود سبب المجاعات المنتشرة إلى أسباب متعددة منها الطبيعة التي تتمثل في شروط الجفاف وقلة الموارد الغذائية، ومنها السياسات الدولية المتبعة في مجال التغذية، لكن منها أيضا قيام حروب دولية أو أهلية. وحالة بلد مثل النيجر أو الصومال دالة على ذلك، علما بأن المجاعة منتشرة في جهات أخرى من العالم.
المجاعة خطر يهدد الإنسانية من عدة وجوه. فهي ضرر تنجم عنه أمراض يستعصي علاجها من أقساها الشلل الدائم وبعض الأمراض النفسية، والضعف العام الذي يسمح لعدد من العاهات بالتطور في الجسم الذي يتعرض للمجاعة. ومن مفارقات العالم المعاصر أن توجد به مجاعة يذهب ضحيتها ملايين الأطفال والراشدين في نفس الوقت الذي تظهر فيه بصورة طبيعية، وبفضل التقدم العلمي المنطبق في مجال الزراعة إمكانية توفير التغذية الكافية للجميع. هذه مفارقة ينبغي رفعها عن العالم المعاصر لكي نقول حقا إن الإنسانية تعيش فيه تاريخا جديدا تكون فيه الكرامة الإنسانية مصانة، ويكون فيه الإنسان حقا هو القيمة السامية دون تمييز أفراد النوع الإنساني بأي شكل من الأشكال.
- 4 -
ننعت الحقوق التي تحدثنا عنها بالحيوية، نظرا لكونها تتعلق بحياة الإنسان وما يرتبط بالحفاظ على وجده من حيث هو جسم حي، ولكن أيضا من حيث هو كائن له مكونات نفسية ومجتمعية. ونواصل كلامنا عن هذه الحقوق بحق الإنسان في الصحة وتوفير شروط الحفاظ عليها وصيانتها.
لابد في الحديث عن الحق في الصحة والعلاج من البداية بما هو طبيعي من حيث إن حياة الإنسان تتقاسمها السلامة والاختلال، أي الصحة حين تؤدي كل أعضاء جسمه الحي وظائفها وفق الشروط الخاصة بها، ثم الاختلال في حالة اضطراب تلك الوظائف. فليس معنى تمتع الإنسان بالسواء في حد ذاته حقا، إذ هو معطى طبيعي. وليس اختلال حلة السواء لذات الإنسان ضياعا لحق، إذ ذلك بدوره معطى طبيعي. فما هو حق للإنسان على مجتمعه هو الحفاظ على سلامة البدن والحياة النفسية والعقلية، وهو كذلك توفير الشروط والوسائل والكفاءات البشرية الكفيلة بممارسة الفحص والمتابعة والمراقبة أثناء المرض. هذا هو الحق الذي ورد في المواثيق الدولية المتعلقة بالموضوع، وهو واجب في حق كل عضو في المجتمع، وواجب للسلطة المكلفة بتدبير شؤونه.
نلاحظ في مجتمعات مختلفة وعلى الصعيد الدولي ضعفا مختلفا في قدره للقيام بالوظائف التي تقتضيها صحة الإنسان. يظهر ذلك في المجتمعات المتخلفة من حيث بنياتها، حيث تضعف الإمكانيات المادية ويضعف معها وجود الكفاءات البشرية اللازمة، كما تضعف الوسائل التي تسمع بمتابعة دقيقة وناجعة للمرضى من أجل علاجهم وإعادة وظائفهم الحيوية إلى حالة التوازن والسواء. ومن الواضح أن هذه الحالة تؤدي إلى استفحال الأمراض وانتشارها، وخاصة إذا تعلق الأمر بأمراض معدية سريعة الانتقال أو تعلق بأوبئة تقضي في زمن قصير على حياة الآلاف من الناس. وقد ظهرت أمراض كثيرة في حاجة إلى مواجهتها بسياسة في مجال الصحة، يتحمل وزرها المجتمع، وبداخله السلطة التي تدبر شؤونه. لكن البلدان المتخلفة، التي تضعف فيها الإمكانيات المادية والتقنية والكفاءات البشرية، تبدو غير مؤهلة السياسة الملائمة لمواجهة الوضع الصحي لمواطنيها، فيضيع بذلك حق الإنسان في العلاج إذا أصاب جسمه خلل في وظائف أعضائه الحيوية.
للوضعية الصحية للإنسان أهمية خاصة داخل كل مجتمع بالنسبة لمواطنيه، ولكن عالم اليوم المتواصل أكثر من أي وقت مضى يهتم بالوضع الصحي العالمي الذي تأسست من أجله منظمة عالمية لمتابعة الوضع الصحي بصورة شاملة في كل البلدان. وتأسيس هذه المنظمة أمر إيجابي بالنظر إلى الإمكانيات الواسعة للحركة والتواصل بين الناس في عالمنا المعاصر، تفتح الباب أمام انتقال الأمراض المعدية والأوبئة من بلد إلى آخر، ومن قارة إلى أخرى، فزادت خطورة تلك الأمراض على الإنسان في كل مكان من العالم، وصار من المطلوب العمل وفق سياسة تنسقها المنظمة العالمية للصحة. وفوق هذا، فإن روح المواثيق الدولية لحقوق الإنسان أنها تعني الإنسانية كافة دون تمييز بين الانتماء إلى أوطان مختلفة أو إلى جهات مختلفة من العالم. الإنسان من حيث قيمته في الكون واحد بالنسبة لتك القوانين، والإنسانية التي تعمل بمقتضاها متضامنة مبدئيا، ومن المطلوب أن تكون كذلك واقعيا.
لا يمكن التنكر لما تقوم به المنظمة العالمية للصحة في رصد الوضع الصحي في العالم، وفي البحث عن الوسائل المادية والتقنية والبشرية لمواجهة الحالات العسيرة التي تعرفها بغض البلدان، خاصة وأن هناك عوامل تجتمع لتزيد من فداحة الوضع الصحي في بعض البلدان. فالكوارث الطبيعية قد تكون إطارا يساعد بعض الأمراض والأوبئة على الانتشار، ثم الحروب الأهلية، التي تؤدي إلى وضع صحي غير مقبول، كما أن هناك نقصا في الوعي بطرق انتشار بعض الأمراض بين السكان، ونضيف إلى ذلك أن قلة الإمكانيات المادية والبشرية في الدول الضعيفة تجعلها غير قادرة على مواجهة الوضع بإمكانياتها الذاتية.
رغم المجهود الذي تبذله المنظمة العالمية للصحة، فإن الحالة الصحية في العالم في حاجة، مع ذلك، إلى مزيد من التنسيق من أجل تجاوز حالات حرجة توجد في القارتين الإفريقية والآسيوية. تقتضي كونية حقوق الإنسان،وتلك هي الدلالة الحقيقية لمواثيقها في هذا الموضوع، نوعا من التعاون الدولي يكون فيه على الدول المتقدمة والغنية، مساعدة الدول الفقرة والضعيفة في مواجهة الحالة الحرجة للوضع الصحي بها. نعتبر كل نقص في هذا المجال نقصا في الوقت ذاته في العمل من أجل ترسيخ حقوق الإنسان على الصعيد العالمي يجعل الطريق طويلا دائما أمام تحقيق المطلوب في النصوص. فالنصوص الموجودة لحقوق الإنسان لاتصف حالة قائمة ومكتملة، بل تشير إلى الطريق الذي ينبغي اتباعه للوصول إلى ذلك المثال.
- 5 -
عندما عزمنا على التفكير في الفجوات التي تفصل في ميدان حقوق الإنسان بين النصوص والوقائع، قررنا في نفس الوقت أن نخص بالدراسة تلك الحقوق التي وصفناها بالحيوية لأنها الحقوق الأساسية التي بدونها لا تكون الحقوق الأخرى ممكنة، ولأن الفجوات تظهر فيها بصورة أوضح وأقوى. لكن هذا لا يعني أن الواقع بصدد الحقوق الأخرىالتي نصفها بالمجتمعية والاقتصادية والسياسية يكون مطابقا تمام المطابقة للنصوص المتعلقة به. ونتناول هذه الحقوق في دراسات أخرى متعلقة بمجال حقوق الإنسان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.