قرنان مرا منذ قاما أسلافنا باتخاذ قرار حاسم من أجل وضع حد للعبودية، التي لا تزال متفشية إلى يومنا هذا، غير أن النسخة الجديدة لهذا النظام تتخذ أشكالا أخرى، إذ يتم الاحتيال على العديد من الأشخاص من أجل القدوم إلى بريطانيا ومن ثم استغلالهم في تجارة الجنس، أو في الأعمال الشاقة، أو الممنوعة. وفي كل حالة يظل الدافع وراء ذلك هو الرغبة في مراكمة الثروات بدون أي شعور بالذنب في حق المجتمع وفي حق البشرية ككل. وتشير الإحصائيات، على الصعيد العالمي، إلى أنه تتم المتاجرة في حوالي 800 ألف شخص، رجالا كانوا أم نساء أم أطفالا، كل عام، وهو ما يدل على أن تجارة البشر هي أكثر الجرائم تطورا وازدهارا، والأرقام تشير إلى أن هذه التجارة تخلف سبعة ملايير جنيه استرليني من الأرباح سنويا على المشتغلين فيها. كما أن بعض التقارير توضح أن مجموعة من التنظيمات غيرت من طبيعة نشاطاتها، واستعاضت عن تجارة المخدرات بتجارة البشر بالنظر إلى الأرباح الكبيرة التي تخلفها ولتقلص درجة المخاطرة فيها. وينتمي أغلب الضحايا إلى مختلف مناطق العالم حيث يسود الحرمان، والإحباط، والحلم بحياة أفضل، وفي المملكة المتحدة، يسقط هؤلاء الضحايا في شباك المحتالين الذين يغرونهم بمغادرة بلدانهم مقابل وعود بتمكينهم من مستقبل أفضل في العالم الغربي الغني. لكن ما إن يصل أولئك المغرر بهم إلى بريطانيا حتى تتبخر تلك الوعود، جارفة معها أحلام الحالمين الذين يجدون أنفسهم وسط كابوس حقيقي، قد لا يستيقظون منه أبدا. فيكتوريا ، التي لم تتجاوز بعد ربيعها الخامس عشر، تعرف الكثير عن هذا الأمر. في البداية وافق أبواها على أن تغادر موطنهم في ليتوانيا وتتوجه إلى لندن من أجل العمل كبائعة للمثلجات، هذا ما أخبرهما به شخصان قدما من بريطانيا وأقنعاهما بأن ذلك العمل سيوفر لها مدخولا إضافيا يساعدها في تغطية تكاليف دراستها ، لكن ما إن وطأت قدما الطفلة فيكتوريا أرضية مطار عاصمة الضباب حتى وجدت نفسها جارية في سوق النخاسة، إذ باعها ذاك الشخصان في أحد مقاهي المطار لشخص آخر مقابل ثلاثة آلاف جنيه إسترليني، وفي تلك الليلة ستتكسر أحلام فيكتوريا، وستلقى شتى أنواع التعذيب والتنكيل من طرف الشخص الذي اشتراها قبل أن يقوم باغتصابها! تمر الأيام وتجد فيكتوريا نفسها وقد أضحت سلعة يتاجر فيها ذلك الشخص، وستكرر حصص الضرب والاغتصاب، ثم البيع، وبين الصفقة والأخرى يتراجع ثمنها، باعتبارها بضاعة مستعملة! غير أنها تمكنت من الفرار واللجوء إلى مدينة شيفيلد، ليتم بعد ذلك إلقاء القبض على كل الأشخاص المتورطين في الاعتداء عليها. خلال فترة احتجازها، لم تكن فيكتوريا في إحدى دور الدعارة، أو في أحد المواخير، بل كانت وسطنا دون أن يحس أحد بوجودها من عدمه! ماي ، ضحية أخرى من ضحايا العبودية، مثلها مثل فيكتوريا، غير أن مصيرها كان مختلفا، فبعد أن اشتراها شخص من أحد تجار البشر مقابل عشرة آلاف جنيه إسترليني، تزوجها وأخذها معه إلى روذرهام حيث كان يملك مطعما رفقة إحدى خليلاته. لم تكن ماي لتحظى بمكانة أفضل من خادمة في ذلك المطعم، كما أنها لم تُحرم من حصص الضرب والتعنيف المتكرر، وكانت تضطر في كثير من الأحيان إلى المبيت خارج المنزل، حتى في أشد أيام فصل الشتاء برودة، مما أثر على صحتها، وعجل برحيلها. صحيح أن الشرطة اعتقلت زوجها وخليلته، لكن ألم يكن على أي من زوار المطعم أن ينتبه إلى الظروف التي كانت تشتغل فيها ماي؟ إن للمتاجرة في البشر أثرا سلبيا على مجتمعنا، سواء في المدن أم في القرى، كما أن العديد من مصانعنا هي التي تشجع هذه التجارة على النمو والازدهار، لأن أربابها يريدون يدا عاملة رخيصة، متناسين أن ما يقومون به هو متاجرة بالمأساة الإنسانية. إن اشتغالنا جنبا إلى جنب هو السبيل الوحيد الكفيل بالتصدي للجريمة بكافة أنواعها، بما في ذلك إنقاذ وتحرير ضحايا تجارة البشر، والضرب على أيدي كل من تسول له نفسه جني الأموال على حساب حرية الإنسان.