الأميرة للا أسماء تدشن مركزا جديدا للأطفال الصم وضعاف السمع بمكناس    لقجع: 12.6 مليون مغربي استفادوا من الدعم المباشر بفضل منظومة تنقيط تعتمد الدقة والتحيين المستمر للمعطيات    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    زلزال قوي يضرب اليابان وتحذير من تسونامي    مهرجان الفدان للمسرح يسدل بتطوان ستار الدورة ال 12 على إيقاع الاحتفاء والفرجة    بنعلي: قطاع المعادن بالمغرب يوفر أكثر من 40 ألف فرصة شغل مباشرة    أخنوش في حوار مع "لاراثون": المغرب اعتمد موقفا حازما وعادلا بشأن قضية الصحراء    "الكاف" ولجنة التنظيم المحلية يكشفان عن "أسد" التميمة الرسمية لكأس أمم إفريقيا (المغرب 2025)    لقجع يختار وهبي مدربا للأولمبي    التجربة المغربية في كرة القدم نموذج يكرس الدور الاستراتيجي للمنظومة الرياضية في التنمية السوسيو-اقتصادية (لقجع)    مسن يُنهي حياة شقيقه بسبب قطعة أرض بضواحي تطوان    ناصر الزفزافي يعلن دخوله في إضراب عن الطعام داخل سجن طنجة    زعفران تالوين .. الذهب الأحمر ذو المنافع المتعددة        مجلس المنافسة يداهم مقرات خمس شركات للأعلاف والمرصد المغربي لحماية المستهلك يثمّن الخطوة    بإذن من أمير المؤمنين.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته الخريفية العادية    مطالب بالتحقيق العاجل حول أجهزة "FreeStyle Libre 3" بعد تقارير دولية عن عيوب مصنعية    مندوبية التخطيط : ارتفاع ملحوظ للناتج الداخلي الإجمالي وتوزيع الدخل في المملكة    سليلة تارجيست سهام حبان تنال الدكتوراه في القانون بميزة "مشرف جدا" مع توصية بالنشر    الاتحاد الأوروبي يصادق على إجراءات تهدف إلى تشديد سياسة الهجرة    كان 2025 .. الموزمبيق تكشف عن قائمة لاعبيها ال 25    الدار البيضاء… افتتاح معرض الفنون التشكيلية ضمن فعاليات مهرجان العالم العربي للفيلم التربوي القصير    رسميًا.. الشروع في اعتماد البطاقة الوطنية لتبليغ المتقاضين بالإجراءات القضائية    المنتخب الوطني الرديف على المحك أمام السعودية في الجولة الأخيرة لكأس العرب    أسطول جديد لكسر حصار غزة يبدأ الإبحار في أبريل 2026    الفائض التجاري للصين تجاوز تريليون دولار في العام 2025    مخالفة "أغنية فيروز" بتازة تشعل الجدل... مرصد المستهلك يندد والمكتب المغربي لحقوق المؤلف يوضح    منظمة التعاون الإسلامي تراهن على "الوعي الثقافي" لتحقيق التنمية البشرية        المغرب لن يكون كما نحب    مولودية وجدة يحسم الديربي لصالحه ويعزز موقعه في الصدارة    مغربيان ضمن المتوجين في النسخة العاشرة من مسابقة (أقرأ)    غضب وانقسام داخل ريال مدريد بعد الهزيمة... وتصريح يكشف تفاصيل صادمة من غرفة الملابس    ضمنها المغرب.. تقرير يكشف تعرض شمال إفريقيا لاحترار غير مسبوق    عزوف الشباب عن العمل يدفع لندن لإلغاء إعانات البطالة    توقعات أحوال الطقس لليوم الاثنين    علاج تجريبي يزفّ بشرى لمرضى سرطان الدم        النفط يصل إلى أعلى مستوى في أسبوعين مدعوما بتوقعات خفض الفائدة الأمريكية    الاتحاد المغربي للشغل يخلّد الذكرى ال73 لانتفاضة 8 دجنبر 1952    ساركوزي يكشف: الملك محمد السادس أول من اتصل بي بعد الحكم علي بالسجن.. كان متأثّراً وصوته يرتجف من الصدمة    اغتيال "شاهد" بجنوب إفريقيا يحيي السجال حول مسألة حماية المبلغين    كاتبة إيطالية تعرّض لحادثٍ مروّع أثناء زيارتها إلى مراكش تنشر شهادتها عن تجربة إنسانية غير متوقعة    كيوسك الاثنين | الاجتماع المغربي – الإسباني يؤكد انتعاشا اقتصاديا    "إيكواس" تشر قوات احتياطية في بنين    لفتيت يستبق انتخابات 2026 بحركة تنقيلات واسعة لضبط الإدارة الترابية            اجتماع ثلاثي بين الولايات المتحدة وإسرائيل وقطر في نيويورك    المغرب ضد السعودية.. نهائي قبل الأوان في سباق الصدارة    ثورة في عالم الطب .. علاج جديد يقضي على سرطان الدم تمامًا    التكنولوجيا وتحولات الفعل السياسي في المغرب: نحو إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع    إعلان الحرب ضد التفاهة لتصحيح صورتنا الاجتماعية    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    الأوقاف تكشف عن آجال التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    موسم حج 1448ه... تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب لطيفة بنجلون عن والدها عبد القادرة بنجلون: تُخبئ الشوق في كلماتها
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 18 - 09 - 2019

تقول لطيفة بنجلون – العروي في كتابها عن «حياة عبد القادر بنجلون» والدها، وهي تدنو من نهاية الكتاب ومن نهاية مسيرة رجل وجد مكانه في قمة مرحلة صعبة ومعقدة:
«كان والدي، بالتأكيد، رجلا وسيما بجسده النحيف، وقامته المعتدلة، وسحنته المشرقة جدا، وعينيه الزرقاوين. وكان يخفي الصلع الذي لحقه مبكرا، الوراثيَّ بدون شك، بارتدائه، حسب المكان والظروف، طربوشا أو قبعة بغطاء أمامي أو قبعة دائرية، غطاءً كان يحميه أيضا من لفحات البرد[…].
كان والدي ودودا، حنونا، مبتسما، وطيب المعاشرة، إذ كان يخاطب دائما الجميع بكلمة طيبة، كما كان على استعداد لمد يد المساعدة للمحتاجين إليها، وغالبا ما كان الناس يطلبون عونه، وخاصة المعوزون من أقاربه. لقد ساعد طوال حياته أطفاله، أحفاده، إخوانه الأشقاء وغير الأشقاء، أخواته الشقيقات وغير الشقيقات، الأعمام والأخوال وأبناؤهم، أصدقاء الطفولة المعسرون والمساعدون وخدم المنازل وغيرهم.
لم يكن بخيلا في الثناء على الناس ومجاملتهم. لقد نصحنا، نحن أطفاله، «ألا ننتقص أبدا من شأن الناس»، «ألا ننتقدهم أبدا» و»بأن نكون إيجابيين دائما».
كان كريما قولا وفعلا. ليس هناك ما يجعله أكثر سعادة من تقديم الهدايا لكل فرد من أفراد أسرته – كانت القائمة طويلة لأنه لا يجب نسيان أي واحد.
كان، بأناقته الطبيعية وذوقه الرفيع، مهتما جدا، منذ شبابه، بشخصه؛ حيث كان يتبع نظاما غذائيا صارما، كما كان يتردد على المنتجعات الصحية.
يرتدي دائما ملابس مُسواة من قبل صناع مهرة في الدار البيضاء أو باريس، كما كان ينتعل أحذية من عمل صناع أحذية ذائعي الصيت. ولم يكن في يوم من الأيام مسرفا. لقد ظل، في الواقع، وفيا لروح الأناقة التي كانت تسم باريس أثناء سنوات دراسته تلك».(الصفحة 139 و140 من الفصل الثالث الثالث عشر).
ولعل هذا الوصف هو الأطول الذي منحت الكاتبة فيه لنفسها فرصة التحرر من التاريخ والثقافة حول شخصية مغربية، فتبوح بما اختزنته مشاعرها التي ما زالت ساخنة وحية تجاه أب لا يمكن للزمن أن يغطي ملامحه أو آثاره.
كتبت لطيفة بنجلون، سيرة الأب ضمن سيرة مجتمع متحول بشخصياته وأحداثه، وجعلته جزءا من عالم تشكلت ملامحه منذ القرن التاسع عشر ارتباطا بفاس أساسا ثم أمكنة أخرى رئيسة، فرنسا والدار البيضاء.
في خمسة عشر فصلا،وملحق من ست عشرة وثيقة، وتسعين صورة تخللت الكتاب، وتسعة وأربعين مرجعا يحيل على كتب ووثائق غميسة، بالإضافة إلى إشارات دقيقة في الهوامش للإضاءة والتوضيح والتفسير.. وعشرات الشخصيات الفاعلة في تاريخ المغرب، كل ذلك ضمه كتابabdelkader benjelloun: une vie (الصادر بالدار البيضاء 2019) والذي جاء في 205 صفحة بلغة فرنسية عالية تروم العمق والوضوح والإشارة لكتابة نص يبدو في ظاهره سيرة، ولكنه يختار أن يكون نصا ثقافيا لتاريخ مرحلة من الزمن المغربي.
ولعل أهمية هذا الكتاب، تكمن في ثلاث ميزات، على الأقل، تميزه وتجعله جديرا بالانتباه بالإضافة إلى صفاء لغته والحنكة في السرد وتناوب الأحداث.
الميزة الأولى أنه الأول من نوعه الذي تكتبه سيدة مثقفة، عن مرحلة من تاريخ المغرب استأثر بها الذكور طويلا.
أما الثانية، فإن الكِتاب، رغم كونه سيرة أب خلال ثمانية عقود من القرن العشرين، فهو يكتب من وجهة نظر الكاتبة تاريخ الكثير من الأحداث التي كانت حاسمة في تاريخ المجتمع المغربي، والتي تمنح المؤرخ والمهتم بالتاريخ الاجتماعي والثقافي والإعلامي مادة للبحث واستكمال عناصر صورة المغرب غير المكتملة. من هذه القضايا التي يستحضرها الكتاب: النضال ضد الاستعمار الفرنسي، المفاوضات من أجل الاستقلال، مهنة المحاماة بالمغرب، الحركات السياسية بالمغرب، حزب الشورى والاستقلال، الصحافة المغربية أو تلك التي كانت تتعاطف مع القضية المغربية، التعليم والثقافة والمسرح، كرة القدم المغربية، تاريخ الدار البيضاء،التجارة والحياة الاجتماعية، الصداقة والعلاقة العائلية.
الميزة الثالثة، رغم أنه كتاب سيرة، فإن الكاتبة لطيفة بنجلون نحت في تدوينه منهجية صارمة، فلم تكن تكتب حدثا، شخصيا أو عاما، إلا وتسنده بتوثيق حاسم: مرجع مشهود له أو شهادة شفوية أو وثيقة أو صورة.
أما عن فصول الكتاب، فقد مهدت لطيفة بنجلون بفصلين، الأول والثاني، عن مدينة فاس بوصفها فضاء للتلاقح الثقافي والحضاري خلال قرون، مع الشرق والغرب والأندلس؛ ثم البحث عن سلالة بنجلون ، في أصولها ودلالة الاسم الذي تحمله وتفرعاته، ثم شهرتهم في التجارة داخل المغرب وإفريقيا وأوربا والبلاد العربية، قبل أن تلتقط مسار السيرة من الجد محمد لامين بن المفضل ابن الحاج محمد المفضل التاجر الشهير في القرن التاسع عشر (ت 1905)، شخصية قادها القدر ان تكون ملامحها مستدعاة في رواية الأخوة طارو.
صورة الجد، التاجر وصاحب الأراضي، الذي يمثل صورة الفاسي المستمتع بالحياة، قبل أن يكتوي بأزمة 1929 الاقتصادية.
ابتداء من الفصل الثالث، تروي الابنة سيرة الأب المزداد في أبريل 1908، وعبوره من المسيد إلى كوليج مولاي إدريس ببرنامجه الدراسي وأساتذته وعالم الأصدقاء وتشكل روح المغامرة في عالم يتداخل فيه التقليدي بالحداثي، قبل العبور إلى الدراسة في باريس، للعلوم السياسية والقانونية (1928) والتقائه بلينا فلوش التي سترافقه، زوجة ما بقي من حياته. تزوجا وخلفا لطيفة أولا ثم جميل وأمينة.
وستخصص لطيفة بنجلون مقاطع طويلة ومتفرقة عن والدتها لينا وهي مثقفة وكاتبة صحفية وابنة صحفي ألماني وأم نمساوية، كانت خير معين لزوجها وعاشت إلى جانبه، مسلمة ومغربية آمنت بالمغرب المتحرر والمتقدم.
في الفصول المتبقية، تلتقي حياة عبد القادر بنجلون بحيوات الآخرين من أصدقائه الذين أصبحوا زعماء ومثقفين، دون أن تحاول التضخيم من صورته، فقد رسمته كما كان منذ تأسيسهم بباريس لجمعية الطلبة المغاربة والتي أصبحت فرعا من جمعية الطلبة المسلمين بشمال افريقيا، والتي لم يكن الشاب عبد القادر منخرطا فيها ولكنه اختار أن يكون هو ولينا في مجلة المغرب التي كانت تدافع عن حقوق الأمة المغربية.
عاد مستقرا بالمغرب في سنة 1934، وتمرن خلال ثلاث سنوات في عدد من مكاتب المحاماة الكبرى ليكون ثاني محامي مغربي بعد الأستاذ أحمد زروق، ومن خلال مهنته أصبح على اتصال بجميع أفراد الطبقات الاجتماعية المغربية، كما كان من المؤسسين لنادي الوداد البيضاوي وأحد رؤسائه البارزين. مثلما انخرط في حزب الشورى والاستقلال، الحداثي، قبل أن ينسحب، بعد الاستقلال، لما انسحب وتخلى عنه عدد من أعضائه وبعد عدد من الضربات؛ ودفاعه عن رجالات المقاومة، ومن أبرزهم محمد الحنصالي ومحمد سميحة والنقابيين.
هاجر في 1954 إلى فرنسا ثم لوزان بعد انفجار أمام بيته، فيما بقيت لطيفة تتابع تعليمها بالرباط قبل أن تنتقل إلى فرنسا لمواصلة دراساتها العليا. ولعل تواجده بفرنسا وموقعه في الشورى والاستقلال وعلاقاته الطيبة وسمعته، جعلته واحدا من المفاوضين على استقلال المغرب.
سيصبح وزيرا في ثلاث محطات، مع الحكومة المغربية الأولى بعد الاستقلال حكومة البكاي، بحقيبة وزير المالية. ثم بعد خمس سنوات وفي عهد الحسن الثاني، سنة 1962، وزيرا منتدبا مكلفا بالشغل، واهتم كثيرا منذ تلك الفترة المبكرة بالتكوين المهني بمساعدة زوجته لينا؛ ثم عاد وزيرا للعدل سنة 1963 حيث كان له دور بارز في إصلاح العدالة وتطهيرها وتوحيد قوانينها ومغربتها، كما كان ضد الشطط الذي تمارسه أجهزة الأمن آنذاك.
وكانت مهنة المحاماة هي جنته الأولى التي يعود إليه بالدار البيضاء في كل مرة، حيث شغل منصب نقيب بالدار البيضاء مرتين ( 1959- 1961)، وترك بصمته في هذا المجال بمكتبه بزنقة الطاهر السبتي، ولم يغادره إلا حينما خانه صوته وصحته التي اعتلت، فترك مكانه لمحام آخر من أصدقائه، الطيب البواب الذي كان بدوره واحدا من رجالات هذا الميدان.
في سنة 1992، تنتهي حياة رجل من رجالات المغرب، بعدما أفلته الموت مرات كثيرة، في فترة الاستعمار ومن حادثة سير بالسيارة، ومن أحداث انقلاب الصخيرات.
ترك لينا وحيدة مع ذكريات مثل شوق لا يعرف نهايته، عزاؤها في أبنائهما الثلاثة. وبعد عشر سنوات ستلحق به بعد حياة تستحق أن تُكتب بماء الذهب على صفحة سماء صافية.
بعد قراءة الكتاب، تشعر بيد ناعمة تمر على جبينك تترك طمأنينة في النفس، وتدرك أن هذا الأب الذي أعطى الكثير للمجتمع، يستحق هذه الابنة التي كان لها أب كبير، وهي الآن زوجة رجل كبير، ليتها تكتب سيرته التي ستكون بلا شك نصا ثقافيا، آخر، خالدا.
تقول لطيفة بنجلون – العروي في كتابها عن «حياة عبد القادر بنجلون» والدها، وهي تدنو من نهاية الكتاب ومن نهاية مسيرة رجل وجد مكانه في قمة مرحلة صعبة ومعقدة:
«كان والدي، بالتأكيد، رجلا وسيما بجسده النحيف، وقامته المعتدلة، وسحنته المشرقة جدا، وعينيه الزرقاوين. وكان يخفي الصلع الذي لحقه مبكرا، الوراثيَّ بدون شك، بارتدائه، حسب المكان والظروف، طربوشا أو قبعة بغطاء أمامي أو قبعة دائرية، غطاءً كان يحميه أيضا من لفحات البرد[…].
كان والدي ودودا، حنونا، مبتسما، وطيب المعاشرة، إذ كان يخاطب دائما الجميع بكلمة طيبة، كما كان على استعداد لمد يد المساعدة للمحتاجين إليها، وغالبا ما كان الناس يطلبون عونه، وخاصة المعوزون من أقاربه. لقد ساعد طوال حياته أطفاله، أحفاده، إخوانه الأشقاء وغير الأشقاء، أخواته الشقيقات وغير الشقيقات، الأعمام والأخوال وأبناؤهم، أصدقاء الطفولة المعسرون والمساعدون وخدم المنازل وغيرهم.
لم يكن بخيلا في الثناء على الناس ومجاملتهم. لقد نصحنا، نحن أطفاله، «ألا ننتقص أبدا من شأن الناس»، «ألا ننتقدهم أبدا» و»بأن نكون إيجابيين دائما».
كان كريما قولا وفعلا. ليس هناك ما يجعله أكثر سعادة من تقديم الهدايا لكل فرد من أفراد أسرته – كانت القائمة طويلة لأنه لا يجب نسيان أي واحد.
كان، بأناقته الطبيعية وذوقه الرفيع، مهتما جدا، منذ شبابه، بشخصه؛ حيث كان يتبع نظاما غذائيا صارما، كما كان يتردد على المنتجعات الصحية.
يرتدي دائما ملابس مُسواة من قبل صناع مهرة في الدار البيضاء أو باريس، كما كان ينتعل أحذية من عمل صناع أحذية ذائعي الصيت. ولم يكن في يوم من الأيام مسرفا. لقد ظل، في الواقع، وفيا لروح الأناقة التي كانت تسم باريس أثناء سنوات دراسته تلك».(الصفحة 139 و140 من الفصل الثالث الثالث عشر).
ولعل هذا الوصف هو الأطول الذي منحت الكاتبة فيه لنفسها فرصة التحرر من التاريخ والثقافة حول شخصية مغربية، فتبوح بما اختزنته مشاعرها التي ما زالت ساخنة وحية تجاه أب لا يمكن للزمن أن يغطي ملامحه أو آثاره.
كتبت لطيفة بنجلون، سيرة الأب ضمن سيرة مجتمع متحول بشخصياته وأحداثه، وجعلته جزءا من عالم تشكلت ملامحه منذ القرن التاسع عشر ارتباطا بفاس أساسا ثم أمكنة أخرى رئيسة، فرنسا والدار البيضاء.
في خمسة عشر فصلا،وملحق من ست عشرة وثيقة، وتسعين صورة تخللت الكتاب، وتسعة وأربعين مرجعا يحيل على كتب ووثائق غميسة، بالإضافة إلى إشارات دقيقة في الهوامش للإضاءة والتوضيح والتفسير.. وعشرات الشخصيات الفاعلة في تاريخ المغرب، كل ذلك ضمه كتابabdelkader benjelloun: une vie (الصادر بالدار البيضاء 2019) والذي جاء في 205 صفحة بلغة فرنسية عالية تروم العمق والوضوح والإشارة لكتابة نص يبدو في ظاهره سيرة، ولكنه يختار أن يكون نصا ثقافيا لتاريخ مرحلة من الزمن المغربي.
ولعل أهمية هذا الكتاب، تكمن في ثلاث ميزات، على الأقل، تميزه وتجعله جديرا بالانتباه بالإضافة إلى صفاء لغته والحنكة في السرد وتناوب الأحداث.
الميزة الأولى أنه الأول من نوعه الذي تكتبه سيدة مثقفة، عن مرحلة من تاريخ المغرب استأثر بها الذكور طويلا.
أما الثانية، فإن الكِتاب، رغم كونه سيرة أب خلال ثمانية عقود من القرن العشرين، فهو يكتب من وجهة نظر الكاتبة تاريخ الكثير من الأحداث التي كانت حاسمة في تاريخ المجتمع المغربي، والتي تمنح المؤرخ والمهتم بالتاريخ الاجتماعي والثقافي والإعلامي مادة للبحث واستكمال عناصر صورة المغرب غير المكتملة. من هذه القضايا التي يستحضرها الكتاب: النضال ضد الاستعمار الفرنسي، المفاوضات من أجل الاستقلال، مهنة المحاماة بالمغرب، الحركات السياسية بالمغرب، حزب الشورى والاستقلال، الصحافة المغربية أو تلك التي كانت تتعاطف مع القضية المغربية، التعليم والثقافة والمسرح، كرة القدم المغربية، تاريخ الدار البيضاء،التجارة والحياة الاجتماعية، الصداقة والعلاقة العائلية.
الميزة الثالثة، رغم أنه كتاب سيرة، فإن الكاتبة لطيفة بنجلون نحت في تدوينه منهجية صارمة، فلم تكن تكتب حدثا، شخصيا أو عاما، إلا وتسنده بتوثيق حاسم: مرجع مشهود له أو شهادة شفوية أو وثيقة أو صورة.
أما عن فصول الكتاب، فقد مهدت لطيفة بنجلون بفصلين، الأول والثاني، عن مدينة فاس بوصفها فضاء للتلاقح الثقافي والحضاري خلال قرون، مع الشرق والغرب والأندلس؛ ثم البحث عن سلالة بنجلون ، في أصولها ودلالة الاسم الذي تحمله وتفرعاته، ثم شهرتهم في التجارة داخل المغرب وإفريقيا وأوربا والبلاد العربية، قبل أن تلتقط مسار السيرة من الجد محمد لامين بن المفضل ابن الحاج محمد المفضل التاجر الشهير في القرن التاسع عشر (ت 1905)، شخصية قادها القدر ان تكون ملامحها مستدعاة في رواية الأخوة طارو.
صورة الجد، التاجر وصاحب الأراضي، الذي يمثل صورة الفاسي المستمتع بالحياة، قبل أن يكتوي بأزمة 1929 الاقتصادية.
ابتداء من الفصل الثالث، تروي الابنة سيرة الأب المزداد في أبريل 1908، وعبوره من المسيد إلى كوليج مولاي إدريس ببرنامجه الدراسي وأساتذته وعالم الأصدقاء وتشكل روح المغامرة في عالم يتداخل فيه التقليدي بالحداثي، قبل العبور إلى الدراسة في باريس، للعلوم السياسية والقانونية (1928) والتقائه بلينا فلوش التي سترافقه، زوجة ما بقي من حياته. تزوجا وخلفا لطيفة أولا ثم جميل وأمينة.
وستخصص لطيفة بنجلون مقاطع طويلة ومتفرقة عن والدتها لينا وهي مثقفة وكاتبة صحفية وابنة صحفي ألماني وأم نمساوية، كانت خير معين لزوجها وعاشت إلى جانبه، مسلمة ومغربية آمنت بالمغرب المتحرر والمتقدم.
في الفصول المتبقية، تلتقي حياة عبد القادر بنجلون بحيوات الآخرين من أصدقائه الذين أصبحوا زعماء ومثقفين، دون أن تحاول التضخيم من صورته، فقد رسمته كما كان منذ تأسيسهم بباريس لجمعية الطلبة المغاربة والتي أصبحت فرعا من جمعية الطلبة المسلمين بشمال افريقيا، والتي لم يكن الشاب عبد القادر منخرطا فيها ولكنه اختار أن يكون هو ولينا في مجلة المغرب التي كانت تدافع عن حقوق الأمة المغربية.
عاد مستقرا بالمغرب في سنة 1934، وتمرن خلال ثلاث سنوات في عدد من مكاتب المحاماة الكبرى ليكون ثاني محامي مغربي بعد الأستاذ أحمد زروق، ومن خلال مهنته أصبح على اتصال بجميع أفراد الطبقات الاجتماعية المغربية، كما كان من المؤسسين لنادي الوداد البيضاوي وأحد رؤسائه البارزين. مثلما انخرط في حزب الشورى والاستقلال، الحداثي، قبل أن ينسحب، بعد الاستقلال، لما انسحب وتخلى عنه عدد من أعضائه وبعد عدد من الضربات؛ ودفاعه عن رجالات المقاومة، ومن أبرزهم محمد الحنصالي ومحمد سميحة والنقابيين.
هاجر في 1954 إلى فرنسا ثم لوزان بعد انفجار أمام بيته، فيما بقيت لطيفة تتابع تعليمها بالرباط قبل أن تنتقل إلى فرنسا لمواصلة دراساتها العليا. ولعل تواجده بفرنسا وموقعه في الشورى والاستقلال وعلاقاته الطيبة وسمعته، جعلته واحدا من المفاوضين على استقلال المغرب.
سيصبح وزيرا في ثلاث محطات، مع الحكومة المغربية الأولى بعد الاستقلال حكومة البكاي، بحقيبة وزير المالية. ثم بعد خمس سنوات وفي عهد الحسن الثاني، سنة 1962، وزيرا منتدبا مكلفا بالشغل، واهتم كثيرا منذ تلك الفترة المبكرة بالتكوين المهني بمساعدة زوجته لينا؛ ثم عاد وزيرا للعدل سنة 1963 حيث كان له دور بارز في إصلاح العدالة وتطهيرها وتوحيد قوانينها ومغربتها، كما كان ضد الشطط الذي تمارسه أجهزة الأمن آنذاك.
وكانت مهنة المحاماة هي جنته الأولى التي يعود إليه بالدار البيضاء في كل مرة، حيث شغل منصب نقيب بالدار البيضاء مرتين ( 1959- 1961)، وترك بصمته في هذا المجال بمكتبه بزنقة الطاهر السبتي، ولم يغادره إلا حينما خانه صوته وصحته التي اعتلت، فترك مكانه لمحام آخر من أصدقائه، الطيب البواب الذي كان بدوره واحدا من رجالات هذا الميدان.
في سنة 1992، تنتهي حياة رجل من رجالات المغرب، بعدما أفلته الموت مرات كثيرة، في فترة الاستعمار ومن حادثة سير بالسيارة، ومن أحداث انقلاب الصخيرات.
ترك لينا وحيدة مع ذكريات مثل شوق لا يعرف نهايته، عزاؤها في أبنائهما الثلاثة. وبعد عشر سنوات ستلحق به بعد حياة تستحق أن تُكتب بماء الذهب على صفحة سماء صافية.
بعد قراءة الكتاب، تشعر بيد ناعمة تمر على جبينك تترك طمأنينة في النفس، وتدرك أن هذا الأب الذي أعطى الكثير للمجتمع، يستحق هذه الابنة التي كان لها أب كبير، وهي الآن زوجة رجل كبير، ليتها تكتب سيرته التي ستكون بلا شك نصا ثقافيا، آخر، خالدا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.