قرب لوحة ماو.. بمتحف الفن المعاصر بمعرض شنغهاي من الصعب أن تعود من الصين كما ذهبت إليها، ومن الصعب أن يقتصر الذهاب إليها، على حالة فرح مصاحبة لسفر كالأسفار الأخرى. الصين بقعة من العالم القادم، ولغة سميكة، قادمة من التاريخ أيضا. بلاد تستمر من التاريخ العريق إلى الغد المذهل. في تلك الأمسية، من يوم الثلاثاء 3 دجنبر، أي ثاني يوم لوصولنا، كناغادرنا مغارة علي بابا، وعلقنا في المستقبل. لقد رأينا شيئا عجبا، رأينا بلدا يقيم، منذ الآن، في المستقبل .. رأينا الفرق بينه وبين العالم المتقدم، ولم نجرؤ كثيرا علي المقارنة، فنحن تنازلنا طواعية عم فيها من ….شاعرية! كان علينا أن نرى الصين اليوم، وموقعنا في أجندتها السياسية..وقد كان مقررا لذلك لقاء مع السيد جيانغ فينغjiang feng ، وهو المدير المساعد لشؤون آسيا الغربية والشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الخارجية الصينية. وهو واحد من أصل سبعة وعشرين قسما في الوزارة، التي تعمل تحت المسؤولية المباشرة لمجلس الدولة في الجمهورية، لهذا فوزير الخارجية هو أولا، مستشار الدولة، ووزير الخارجية، حسب التسمية الرسمية له.. والقسم المتعلق بالمديرية التي كنا بصدد لقائها هي الرابعة من حيث ترتيبها في الأهمية، بعد المديرية العامة، ومكتب الدراسات السياسية وقسم شؤون آسيا… دخلنا مقر اللقاء، وجدنا أمامنا ساحة فسيحة، بجدارية ناصعة، تتوسطها رسوم وكتابات بالجبص الأبيض.. أمامنا سجاد أحمر، في نهايته مجسم خشبي، لا شك أنه لأخذ الصور.. في المكتب الذي استقبلنا فيه السيد جيانغ فينغ، كان طاقمه قليل العدد، بعض ممن كانوا معنا في الرفقة من الصينييين جلسوا خلفه، في حين اقتعد هو كرسيا مع المترجم إلى العربية، قال المسؤول إن برودة الجو لن تؤثر في حرارة اللقاء، في استباق يجعل اللغة الديبلوماسية لا تتجاهل اللغة الطبيعية وأحيانا العاطفية، تحدث عن وظيفته في الهرمية الخارجية، ليحددها لنا المفوض بالشرق وغرب آسيا، ونفهم أنه مسؤول عن العلاقات مع شمال إفريقيا والشرق والخليج بما فيه إيران وتركيا وإسرائيل.. تحدث مخاطبنا عن المفاوضات بين المغرب والصين حول المدينة التكنولوجية “طنجة تيك” وعن وجود 200 ألف سائح صيني لهذه السنة، وكرر مرارا شكره للقيادة الحكيمة لجلالة الملك ورد على حديث:”اطلبوا العلم ولو في الصين”، أن الصينيين يقولون :”اطلبوا السياحة ولو في المغرب”. قال أيضا إنه زار المغرب أزيد من عشر مرات، وشكر المغرب على دعم مواقف بلاده في مواضيع تايوان وحقوق الإنسان، وقال جيانغ أيضا إن لبلاده وللمغرب مهمة شاقة في الإصلاح والتنمية. وأبلغنا اهتمام الصين بالموقع الاستراتيجي للمغرب وتعدده السياسي والثقافي واستقراره، وفي هذا قال إن “بلادكم جزيرة استقرار في محيط متقلب”. سألت السيد جيانغ: في المحيط المتقلب للمنطقة، بوجود حرب أهلية في ليبيا وجمود ينذر بالخطر في الجزائر وصعوبة دول الجوار ولا سيما الساحل وجنوب الصحراء، كيف ترون العمل المشترك بين بلدينا؟ قال لي الرجل، والمترجم ينقل بسلاسة لغوية للعربية يحسده عليها الكثير من الصحافيين والمسؤولين المغاربة :هذا سؤال يصعب علي جوابه، غير أن الوضع يتسم بتغيير في السلط، كما هو حال الجزائر والمحيط متقلب أيضا في السودان ولبنان والعراق. وعوامل عدم الاستقرار كثيرة، وقال إن مسبباتها التدخل الأجنبي كما في ليبيا، غير أن العوامل الداخلية هي الأهم، فأغلبية الدول التي تعيش اضطرابات لم تحل مشاكل معيشية وبطالة الشباب تتجاوز فيها 10 ٪، ولعل أسباب غياب التنمية هي من أعمق الأسباب، فالشباب في تونسوالجزائر يشعر بالإحباط وقنوات الانتقال مسدودة، وهذا الفشل يولد “داعش” والتطرف، وقال إن أهم شيء لحل ومكافحة الإرهاب هو التنمية، وقال إن لدى المغرب تجربة كبيرة في محاربة الإرهاب ونحن نريد التعاون معه في هذا المجال، كما نرغب في تعاون ثلاثي يجمع الصين والمغرب وإفريقيا.. والثابت هو أن شمال إفريقيا يمر بمرحلة اضطرابات.. سأله عبد العزيز الرماني عن المدينة التكنولوجية وما تعرفه من تعثر في أوراشها مستفسرا عن السبب؟ قال السيد جيانغ: الوضع الاقتصادي العالمي ليس جيدا ومستوى التنمية انخفض حسب البنك الدولي إلى 3.9 ٪ في 2019 … بعدها انهال المسؤول الصيني على أمريكا، واتهمها بأنها تقود حربا تجارية – ضد بلاده طبعا- وهي تتحمل المسؤولية في إغراق الاقتصاد العالمي وتعثره.. وأشار، في تحليل ماكرو استراتيجي إلى أن هناك “عالميا نزعة حمائية مسنودة بنزعة شعبوية”. وهذه الأجواء تؤثر في الاستثمارات الصينية في المغرب.. الصحراء دوما وأبد ما كان للقاء كهذا أن يمر بدون أن نثير موضوع الصحراء، ونتابع أجوبة المسؤول الصيني الذي قال في جواب عن سؤال لعل الرماني مَن طرحه: الصين موقفها لا يتزعزع من الصحراء، فهي دولة قوية ومسؤولة، مع تشاور أطراف النزاع – وليس طرفي النزاع- لحل متوافق حوله. وقال أيضا: نتفهم هموم المغاربة إزاء الصحراء. ولم تفته الفرصة في انتقاد الولاياتالمتحدة التي اعتبر أنها ” تتقلب في مواقفها” كما في حالة التعاون مع إفريقيا. بخصوص إفريقيا قال إن الصين ترتكر علي ثوابت منها الصدق، والجدية، والإنجاز وذكر بالقمة الصينية -الإفريقية التي رصدت لها الصين 60 مليار دولار للتنمية، معلقا بالقول” لدينا مصالحنا، ولكن لا نحققها علي حساب مصالحكم، وفي ذلك نحرص على التوازن بين المبادئ والمصالح…”. من جهته أثار الزميل عبد العزيز مسعودي موضوع تطوير التعاون العلمي بين البلدين: وجاءه الجواب أن التعاون في مجال العلوم والثقافة بدأ مع فتح معاهد “كونفوشيوس” في المغرب.. ولهذا المعهد قصة، لا بد من التذكير بها. فقد تأسس في جامعة محمد الخامس بالرباط أول معهد في المغرب في بداية عام 2008 ثم بدأت أعماله التدريسية منذ عام 2009… في حوار أجرته معها وكالة أنباء ((شينخوا))، قالت كريمة اليتريبي، المديرة المغربية لمعهد “كونفوشيوس”، إن المعهد يشكل جسرا لتمتين جسور التبادل الثقافي المغربي-الصيني، وأبرزت اليتريبي أن حماس الطلاب المغاربة من أجل تعلم اللغة الصينية كبير، مشيرة إلى أن أعداد الراغبين في تعلم الصينية والتعرف على الثقافة الصينية في ارتفاع مستمر. وأوضحت أن معهد “كونفوشيوس” يحظى بإقبال المغاربة من مختلف الأعمار، مشيرة إلى أن أصغر طالب في المعهد هو في الثامنة من العمر، بينما الأكبر هو رجل متقدم في السن له أحفاد. وأكدت اليتريبي أن الكثير من المنتسبين لمعهد “كونفوشيوس” هم طلاب مغاربة يطمحون لمواصلة دراستهم في الصين، وتوسيع آفاقهم من خلال اكتساب المعارف العلمية والتقنية… وما زالت فروع المعهد تتوالى اليوم، وانضافت إليها بنود أخرى للتعاون الثقافي بين الجهات.. وهذا موضوع آخر .. قال المسؤول الصيني إن مجالات التعاون بين البلدين يمكن أن تضم الطب والجيل الخامس من التكنولوجيا التواصلية 5G، والعلوم الفضائية، وذكر في هذا الباب بنتائج التعاون مع الجزائر، والقمر الإصطناعي، وتونس والسودان .. تذكرت أنه سبق لي أن تحدثت، هنا في بلادنا، أثناء لقاء غير رسمي مع مسؤول صيني حول موضوع التعاون الفضائي، ولكن الصمت كان هو الجواب… قال السيد جيانغ في النهاية: سبق لي أن كنت في فرنسا وأعرف جيدا المستوى العالي للجالية المغربية وقدرتها علي استيعاب العلوم والاندماج في مجتمعاتها.. عندما غادرنا قاعة الاجتماع، اكتشفنا وجها آخر للسيد جيانغ: هو يتحدث الفرنسية بطلاقة، وبدون لكنة صينية، لما سألناه قال بأنه قضى خمس سنوات بها، ودرس بها أيضا..طلبنا منه صورة تذكارية أمام النصب الخشبي المرصع بالمرمر، قبل شاكرا، وصافح كل الوفد بحرارة.. ثم ذهب إلى قارته التي يتولى مسؤوليتها! إضافة إلى التعقيب على محتوى اللقاء، والجدية التي تعامل بها المسؤولون في الخارجية مع وصولنا، ثم مع أسئلتنا، كان المستوى اللغوي للمترجم موضوع حديث بين أعضاء الوفد. فقد وجدنا بالفعل شابا يافعا، يجيد الترجمة، بقاموس متميز، لا يكتفي بالمتداول اللغوي الذي نعرفه في مثل هذه الحالات، وكان هو أيضا يتقن الفرنسية… مساء ذلك اليوم، كان علينا أن نتوجه إلى وسط بيكين، لكي نلتقي زملاءنا في جمعية صحافيي عموم الصين، التي تخلد هذه السنة 82 سنة على تأسيسها.. ورئاستها هي التي دعتنا إلى العشاء، وعندما نقول العشاء، فمعنى ذلك أن علينا أن نكون في تمام الساعة الخامسة والنصف في المأدبة. بمجرد أن يخيم الظلام، يعلن وقت العشاء.. وخيل إلي حقا، أن الليل في الصين يبدأ بمجرد أن ينتهي الصينيون من عملهم، لا حسب تقويم زمني مرتبط بالشمس والأرض… كانت الجلسة مناسبة للحديث عن “الخطوط الحمراء، لدينا ولديهم، وما نسميه ثوابت ويسمونه مرجعيات لا نقاش فيها.. بينها الوحدة الترابية وطبيعة النظام وعقيدته.. استحسنت السيدة المضيفة أن ندعوها إلى تبادل المقالات، للنشر هنا وهناك والتزمت بأنها ستستجيب للدعوات التي تصلها.. وفي الأخير كانت المناسبة للهدايا وتبادل البطاقات ..انتبهنا عند الخروج أن مقر الجمعية، الذي تستقبل فيه ضيوفها يوجد في عمارة عمومية، بها السكان والشركات ومكاتب الأعمال.. تعليق كتبته وقتها، في المذكرة الصغيرة التي أحملها معي: يستحيل أن يكون هناك شيء ما جميل، هنا، وألا يهطل علي اسم بلادي من كل نبض.. هناك!