مصرع شخصين في حادثة سير مروعة بضواحي طنجة    تنسيق أمني مغربي-مالي يُنهي كابوس السائقين المغاربة المختطفين    سلطات المضيق تباغث من جديد المركبات السياحية والسكنية وتحجز عشرات المظلات والكراسي    علي الصامد يشعل مهرجان الشواطئ بحضور جماهيري غير مسبوق    الرباط تحتضن النسخة الأولى من "سهرة الجالية" احتفاءً بالمغاربة المقيمين بالخارج    توقيف قائد للاشتباه في تورطه بإحدى جرائم الفساد    تحرير 4 سائقي شاحنات مغاربة بمالي    تحرير السائقين المغاربة من يد تنظيم داعش الإرهابي إنتصار إستخباراتي مغربي يعيد رسم معادلات الأمن في الساحل    منخرطو الوداد يطالبون أيت منا بعقد جمع عام لمناقشة وضعية الفريق عبر مفوض قضائي    ديون وادخار الأسر المغربية.. قروض ضمان السكن تتجاوز 32 مليار درهم    حادثة سير مروعة تخلف قتيلين على الطريق الوطنية الرابطة بين الحسيمة وتطوان    مؤسسة محمد الخضير الحموتي تفضح مؤامرات النظام الجزائري.. وتؤكد: من يعبث بوحدة المغرب ستحرقه نار الانفصال    من قلب الجزائر.. كبير مستشاري ترامب للشؤون الأفريقية يكرّس الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء ويدعو لمفاوضات على أساس الحكم الذاتي    المندوبية السامية للتخطيط: جهة الشمال تسجل أدنى معدل في البطالة بالمغرب    الانتخابات التشريعية في خطاب العرش: رؤية ملكية لاستكمال البناء الديمقراطي وترسيخ الثقة    منصة تيك توك تزيل أكثر من مليون فيديو لمغاربة خلال 2025    قضية حكيمي تثير جدلًا حقوقيا وقانونيا.. ونشطاء فرنسيون يطالبون بإنصافه    شخصيات فلسطينية تشيد بالمبادرة الإنسانية التي أطلقها الملك محمد السادس    الممثلة الخاصة للأمم المتحدة في ليبيا تشيد بالتزام المغرب وتعرب عن تقديرها العميق للمملكة لتيسير الحوار الليبي-الليبي    النقص الحاد في المياه يفاقم مآسي الجوع والنزوح في قطاع غزة    الانخفاض ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    رابطة الكتبيين بالمغرب تحذر من أساليب تجارية «مضلّلة» وتدعو لحوار وطني حول مستقبل الكتاب المدرسي    غينيا تهزم النيجر بهدف في "الشان"    أولمبيك آسفي يتعاقد رسميا مع الإيفواري "أبو بكر سيلا"    موجة حرّ قياسية تصل إلى 47 درجة وأمطار رعدية مرتقبة بعدد من مناطق المملكة هذا الأسبوع    بنكيران يدخل على خط مهاجمة الريسوني للتوفيق ويعتبر أنه من غير "اللائق أن ينعت وزارة الأوقاف بتشويه الإسلام"    "فدرالية ناشري الصحف" تدعو الحكومة لمراجعة موقفها من قانون مجلس الصحافة    الرئيس الأيرلندي يدعو غوتيريش لتفعيل الفصل السابع ضد إسرائيل    كوندوري تلتقي بوفد من المستشارين    الدار البيضاء تستضيف الدورة الأولى من مهرجان "عيطة دْ بلادي"    باحث يناقش رسالة ماستر حول الحكامة المائية في ضوء التجارب الدولية بكلية الحقوق بالدار البيضاء    بجلد السمك.. طفل يُولد في حالة غريبة من نوعها    إسبانيا تنفي إنزال علمها من جزيرتي الحسيمة    دعوات لاحتجاجات أمام ميناء الدار البيضاء رفضا لاستقبال "سفن الإبادة"    انخفاض أسعار النفط بعد اتفاق "أوبك+" على زيادة الإنتاج    فنادق أوروبا تلاحق "بوكينغ" قضائياً    "الجايمة"..أشهر مطعم مغربي في ألميريا يُغلق أبوابه نهائيًا    من الزاويت إلى الطائف .. مسار علمي فريد للفقيه الراحل لحسن وكاك    البحرية الملكية تتدخل لإنقاذ مهاجرين    الأطعمة الحارة قد تسبب خفقان القلب المفاجئ    لا أنُوء بغزّة ومِنْهَا النُّشُوء    مقاومة الأداء الإلكتروني بالمغرب تعرقل جهود الدولة نحو الشمول المالي    كأس أمم إفريقيا للاعبين للمحليين 2024.. المغرب مرشح قوي تترقبه أعين كل المنافسين على اللقب    إنتر ميامي يعلن غياب ميسي لأجل غير مسمى    الدخول المكثف للجالية يدفع الدرهم المغربي للارتفاع أمام الأورو    ترتيب شباك التذاكر في سينما أميركا الشمالية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين        توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين بالمغرب    وفاة الممثلة الأميركية لوني أندرسون عن عمر ناهز 79 عاما    بطولة انجلترا: تشلسي يتعاقد مع الظهير الأيسر الهولندي هاتو    دراسة كندية: لا علاقة مباشرة بين الغلوتين وأعراض القولون العصبي    دراسة: الانضباط المالي اليومي مفتاح لتعزيز الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية    بنكيران يدعو شبيبة حزبه إلى الإكثار من "الذكر والدعاء" خلال عامين استعدادا للاستحقاقات المقبلة    حبس وغرامات ثقيلة تنتظر من يطعم الحيوانات الضالة أو يقتلها.. حكومة أخنوش تُحيل قانونًا مثيرًا على البرلمان    "العدل والإحسان" تناشد "علماء المغرب" لمغادرة مقاعد الصمت وتوضيح موقفهم مما يجري في غزة ومن التطبيع مع الصهاينة    التوفيق: كلفة الحج مرتبطة بالخدمات    في ذكرى عيد العرش: الصحراء المغربية وثلاثة ملوك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الباحث التربوي محمد بادرة يحلل تحول التعليم من رسالة انسانية إلى سلعة تجارية: كيف تدفع العولمة التربية إلى التشيء والتسليع ؟
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 24 - 12 - 2020

إن التحولات الناتجة عن العولمة لا تقتصر على مجال الاقتصاد فحسب، بل انها تطال كل اوجه الحياة في سعي محموم الى تحويل كل شيء الى سلعة وبضاعة، وبات التعليم يشكل اليوم هدفا لهجوم هذا الرأسمال المعولم بقيادة المؤسسات المالية العالمية، وبواسطة أداتين رئيسيتين، هما الاتفاق العام حول تجارة الخدمات AGCS الموقع في ابريل 1992، واتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة والخدمات GATT التي خضعت قطاعي التعليم والصحة للخصخصة بتحويل الادوات التربوية والصحية الى جملة من البضائع تتحكم ف يها قوانين العرض والطلب جاعلين من الربح الهدف المنشود عوض مساعدة البشرية للقضاء على الجهل والأمية والمرض. هذه الفرصة التي وفرها مجتمع العولمة جعلت رجال المال والأعمال متلهفين لولوج عالم التربية والتعليم من اجل استثمار رساميلهم في قطاع ميزانيته السنوية العالمية تفوق ثلاثة آلاف مليار دولار و يشغل عشرات الملايين من اليد العاملة، وقبل كل هذا وذاك له اكثر من مليار زبون مفترض من التلاميذ والطلاب
لقد سارعت الدول والحكومات ذات النهج الاقتصادي الليبرالي الى وضع "مشاريع اصلاح التعليم " تنصح وتدعو الى انسحاب الدول والحكومات من التدبير العمومي للقطاع، وترك المجال للرأسمال الخاص بحثا عن الربح، ولقد عبر جاك اتالي عن ذلك بخصوص التعليم في فرنسا قائلا ( لا تستطيع الجامعات ان تبقى امكنة للمعارف ونقلها بل يجب ان تصبح اداة للمردودية وان تصبح الابحاث ذات منفعة ومربحة ان امكن) وهي نفس الفلسفة والرؤية التي نقراها ونسايرها في المشاريع الاصلاحية التعليمية والتي تدعو الى تأهيل المغرب للاندماج في الاقتصاد العالمي وتقوية قدرته التنافسية.
أ- يرسم الميثاق الوطني للتربية والتكوين المبادئ الاساسية والمرتكزات الثابتة لنظام التربية والتكوين، ويعتبر هذا الميثاق بمثابة اطار ايديولوجي عام لسياسة التعليم واهدافها. كما ان الرؤية الاستراتيجية للإصلاح اعتمدت الميثاق الوطني كإطار مرجعي للإصلاح. وهاتين الوثيقتين الاصلاحيتين تتأسسان على دعامات ورافعات تدعو الى التجديد والتغيير وربط التعليم بالمحيط الاقتصادي مع الانخراط الفاعل في اقتصاد ومجتمع المعرفة.
ب- المادة 5 تجعل نظام التربية والتكوين يروم تفعيل البلاد (لامتلاك ناصية العلوم والتكنولوجيا المتقدمة والاسهام في وتطويرها بما يعزز قدرة المغرب التنافسية ونموه الاقتصادي والاجتماعي والانساني في عهد يطبعه الانفتاح على العالم ) وهي نفس الغاية المتوخاة التي وردت في الوثيقة الاصلاحية للرؤية الاستراتيجية من قبيل (مواكبة واستدماج تحولات العالم ومستجداته في العلوم والتكنولوجيا والمعارف، وضمنها ما يتصل بالتربية والتكوين والبحث العلمي والتقني والابتكار)
ج- تضيف المادة 7 القول بان نظام التربية والتكوين عليه ان (يمنح الافراد فرصة اكتساب القيم والمعارف والمهارات التي تؤهلهم للاندماج في الحياة العملية) وفي الرافعة الحادية عشرة – المادة 66 ترى وثيقة الرؤية الاستراتيجية حاجة المدرسة المغربية الى الرفع من مستوى التأهيل والاشهاد والقابلية للاندماج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي . وعن التعليم الثانوي تقول المادة 71 من الميثاق ان التعليم الثانوي العام والتقني والمهني عليه ان يتوخى (تنويع مجالات التعلم بكيفية تسمح بفتح سبل جديدة للنجاح والاندماج في الحياة المهنية والاجتماعية) وتضيف المادة 72 ان هدف التأهيل المهني هو تكوين يد عاملة قادرة على التكيف مع المحيط المهني...ومزاولة الشغل في مختلف قطاعات الانتاج والخدمات) وهو نفس الهدف الذي سطرته الرؤية الاستراتيجية في الرافعة الخامسة – المادة 15 ومنها الدعوة الى تقوية الجسور بين التكوين المهني والنسيج الاقتصادي.. مع ملاءمة التكوينات، بانتظام، مع تطور المهن ومستجداتها.
د- تلح المادة 130 من الميثاق على (تطوير ثقافة المقاولة والتدبير والإبداع في مؤسسات البحث والتكوين) وتكرر المادة 126 من نفس الوثيقة مشروع (توطيد الوشائج بين الجامعات والمقاولات لترسيخ البحث في عالم الاقتصاد وافادة المقاولات بخبرة الجامعات ) وهي نفس الرؤية الاستراتيجية الواردة في الرافعة الثانية والعشرين – المادة 120 التي تدعو الى توسيع انخراط المقاولات ومنظماتها المهنية في شراكات مؤسساتية مع المدرسة وكذا انخراط الهيئات الممثلة للمقاولات المغربية واتحاداتها الجهوية في اختيار ممثليها لدى مجالس التدبير و تعبئتهم من اجل تصور المشروع الجهوي للشراكة مع المدرسة ...
ه- لقد نظر الميثاق الوطني والرؤية الاستراتيجية الى المدرسة والى التربية والتعليم كنظام فرعي في علاقته مع المحيط ومع البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويمكن رصد مؤشرات دالة على بداية حدوث تحولات عميقة تحددت بشكل اساسي في المبادئ الاساسية والمرتكزات الثابتة والاهداف العامة للتربية والتكوين وفي البرامج والمناهج واستعمال التكنولوجيا الجديدة للإعلام والتواصل ثم في الشراكات والتمويل ...حيث الدعوة الى تعزيز العلاقة بالمقاولات وتمثيليتها في اللجن والمجالس ذات الطابع التربوي والتكويني على نحو يسمح لها (مساعدة المدرسة، عبر الكفاءات المهنية للمقاولة وارساء برامج للتكوين، والتكوين بالتناوب لفائدة المتعلمين في الشعب التقنية، والتكنولوجية، والاقتصاد، والتكوين المهني) مما ينسف في نظر البعض اي استقلالية وديموقراطية لمؤسسات التعليم فتنعدم جراء ذلك كل حرية في اختيار مسار التعلم طبقا لميول المتعلمين وملكاتهم بفعل الانتقاء والتوجيه المدرسي الموجه ومتطلبات المقاولة اي ان الشواهد ذات القيمة في سوق الشغل هي ما سيسعى اليها الطلبة وهذا ما ينحي جانبا المعرفة المتكاملة المتعددة الابعاد والفكر النقدي، ويفضي الى افقار البرامج باستهداف تحصيل تكوين تقني سريع ليد عاملة مرنة وهذا يمثل استجابة لانشغال سياسي لدى رجال الاعمال بتقليص مجال الاهتمامات الفكرية لرواد التعليم لمنع امتلاك فهم اجمالي للمجتمع، وكذا بجعلهم في اخر المطاف موارد بشرية عمياء لتشحيم دواليب المقاولة.
و- من المؤشرات الدالة على بداية حدوث تحولات عميقة بقطاع التعليم نتيجة اختراقه من طرف العولمة، ظهور علامات تجارية لشركات مشهورة تنتشر بشكل واسع في المدارس ومحيطها، وفي الثانويات وفضاءاتها، وفي الجامعات ومراكزها العلمية، بل منها من يقدم خدمات لأطر هذه المؤسسات التعليمية ومدرسيها من تجهيزات تقنية في التدبير الاداري او وسائل بيداغوجية حديثة او تجهيزات تقنية مخصصة لمساعدة الفاعلين التربويين و الجمعويين على اساس تنشيط الأوراش بالأقسام او تنشيط الحياة المدرسية والانشطة الرياضية (DANONE – Coca Cola– Colgate – always – Microsoft...) وهذه ليست الا عينة محدودة وقليلة من المقاولات التي اصبحنا نصادفها في الانشطة المدرسية، ونجد صورها وعلاماتها التجارية في عدد من الكتب المدرسية وهذا كله لكون هذه الشركات العملاقة تنظر الى الاطفال والتلاميذ بوصفهم مستهلكين مستقبليين وبوصفهم في انتظار ذلك يمتلكون سلطة للضغط على ابائهم كفئة مستهلكة بامتياز.
ز- وباسم الانفتاح على المجتمع اصبحت المدرسة جنة المقاولات الجديدة لذا تغيرت وجهتها وتلفتت نحو المدرسة والقسم والمدرس: شركةsignal او Colgate لمعجون الاسنان تعلم الاطفال كيف ينظفون اسنانهم، اما دانون وجبنة كيري فيقدمان معلومات عن التوازن الغذائي، وعن الغداء المحقق للذة والمتعة، اما الشركات الخاصة بالتكنولوجية التواصلية Microsoft... فتقدم نصائح في مجال الوسائط الاعلامية المتعددة وطرق استعمالها في عرض المواد التعليمية ويمكن ان تظهر هذه العلامات التجارية في الادوات والتجهيزات والكتب المدرسية المخصصة للقراءة وهي في العمق رسالة اشهارية.
لذا اصبح التسليع التربوي احد مظاهر العولمة في المنظومة التربوية التي تحولت فيها التربية من رسالة انسانية، الى سلعة تجارية وهي عملية تؤدي الى تشيئ التربية بعد تشيئ الانسان نفسه، وفي هذه العملية يصبح الهدف الاسمى للتربية هو تحقيق الربح، ويتم تسويق ذلك والترويج له بأساليب شتى مشروعة في بعض الاحيان ومغالية في الكذب احيانا اخرى.
ان التسليع التربوي كما رأى الكساندرAlexander ما هو الا ادخال التربية الى الاسواق وعرض الدرجات العلمية كبضاعة للبيع وتحويل المؤسسات التعليمية الى شركات تجارية هدفها تحقيق المكاسب المالية اي ان التسليع التربوي كما قال دريسكول و ويكس Driscoll – Wicks يعني عمل القائمين على مؤسسات التعليم كرجال اعمال عاديين ينافسون لبيع منتجاتهم للمستهلكين. د- يزيد عيسى السورطي – السلطوية في التربية العربية – عالم المعرفة
ويمكننا رصد عدة مؤشرات تدل على توغل قيم العولمة وحدوث تحولات عميقة بقطاع التربية والتكوين نتيجة هذا الاختراق العولمي في :
المناهج الدراسية
منذ سنين وعقود ازداد الاهتمام بدور التكنولوجيا في العملية التعليمية، و جدوائية الاستعانة بها في تطوير التعليم ومعالجة مشكلاته، ونحن نعيش اليوم عصر عولمة القيم والمعرفة حيث اصبحت التكنولوجيا المعلوماتية المحرك لدينامية الفصل الدراسي. وتزخر ادبيات التربية الحديثة منذ عقود خلت بالدعوة الى تبني الصيغة التقنية لأجل تطوير التعليم، حيث تنظر الى التعليم والتربية على انه نظام مطلق قوامه (مدخلات)و(مخرجات)و(عمليات )مستنسخة نظم المؤسسات العسكرية والصناعية والتجارية على اساس انها ستكون ذات فائدة كبيرة في اصلاح نظام التعليم او تطويره لكن الابحاث دلت على فشل هذا التصور، فمن الخطأ تصور النظام التعليمي على انه معادل لنظام المصانع الذي يتصف بوثاقة الصلة بين جميع مكوناته. انه (عندما يعتبر التعليم صناعة يتحول الأساتذة الى اناس يطبقون في فصولهم الدراسية ما تم وضعه من قبل المهندسين الديداكتيكيين والخبراء، وهكذا يتحولون الى منفذي تعليمات عامة مفروض انها ستحسن فعالية التعليم لكن هل من السليم اقامة قياس بين التعليم وعالم الصناعة؟ ..هل التعليم قابل ان يفكر فيه على اساس النموذج التقني؟ فاذا كان التعليم تقنية فانه ستكون هناك غربة مزدوجة : غربة المدرس عن نشاطه المهني، وغربة التلميذ عن تأمله ) د. محمد بوبكري
وفي السنوات الاخيرة تم ادماج مضامين تربوية جديدة في المنهاج لإكساب المتمدرسين القيم والاتجاهات والسلوكات الايجابية نحو العولمة، ومنها التربية البيئية والتربية من اجل الديموقراطية(الرافعة الثامنة عشرة من الرؤية الاستراتيجية) اضافة الى مراجعة شاملة لنظام التوجيه والدعوة الى التمكن من اللغات العالمية واحداث شعب ومسالك دولية قصد الانخراط في اقتصاد ومجتمع المعرفة وملاءمة التكوينات مع حاجات ومهن المستقبل، لكن تتعثر كل جهود تطوير هذه المناهج الدراسية بحجة عدم توافر القدرة المالية على تغطية تكاليفها فتتحطم كثير من محاولات تحديث المناهج الدراسية بسبب " المنطق المالي " وبذلك يتم التضحية بمكاسب عقلية وفكرية و مهارية.
كما ان من صور التسليع التربوي تكاثر ظاهرة اللجوء الى المطبوعات والوثائق والسلسلات ك " كبسولات " قابلة للابتلاع والاسترجاع قبل الامتحان، مما غير من وظيفة هذه المناهج وجعلها مرتبطة بسوق الطلب والعرض تدر الارباح على الأشخاص وعلى المقاولات وهذا ما يشكل مأساة علمية واخلاقية لارتباطها بالتسليع التربوي.
التعليم الخصوصي
تقوم العولمة الاقتصادية على نظام رأسمالي مبني على اقتصاد السوق والحرية والمنافسة، وهيمنة التكتلات الاقتصادية الكبرى والشركات والمؤسسات المالية الدولية ( البنك العالمي وصندوق النقد الدولي) وهاتين المؤسستين الماليتين تمولان المشاريع وتمنحان قروضا مقابل تطبيق برامج الاصلاح الاقتصادي وفق مبادى الليبرالية الرأسمالية. وتعتبر توصياتها الزامية، وهي توصيات ترمي الى خلق نوع من تحسين الاداء في مختلف القطاعات الانتاجية والاجتماعية ومنها قطاع التربية والتعليم، من قبيل تنويع مصادر تمويل التعليم وعقلنة القطاع والتحكم في مسار المعرفة والعلوم باعتبارها رأسمال خاضع للمنافسة والتسويق والربح. ولذا تقوم العديد من الدول بالانسحاب تدريجيا من مسؤولية تمويل التعليم بحجة انه اصبح عبئا غير محتمل يثقل كاهل الدول ويستنزف مواردها المحدودة وان ما تدفعه على التعليم هو نوع من الدعم يجب ايقافه مثله مثل انواع الدعم الاخرى وان عليها ان تتراجع عن التزاماتها نحو التعليم وان تتركها ولو جزئيا للقطاع الخاص.
في المادة 95 تحت عنوان (الاختيارات الكبرى) ترى خطة الطريق التي رسمتها الرؤية الاستراتيجية ضرورة (تنويع مصادر تمويل التربية والتكوين والبحث العلمي الى جانب ميزانية الدولة.. من اسهام باقي الاطراف المعنية والشركاء ولا سيما : الجماعات الترابية والمؤسسات العمومية والقطاع الخاص )
من المبررات الرئيسية التي يطرحها انصار هذا الاتجاه هو ان الانفاق ضخم وان مستوى التعليم الرسمي متواضع، وان خصخصة التعليم توفر فرص التنافس وتحقق الجودة وتحسن النوعية، وقد رافق هذا الطرح هجوم شرس على مجانية التعليم تمثل في تحميلها كثير من ازمات و مشكلات التعليم من قبيل ضعف الجودة – ضعف التمكن من اللغات الاجنبية – استمرار الهدر المدرسي- ضعف المردودية الداخلية والخارجية للمؤسسات– البطالة الجامعية وغير الجامعية –وكان هدف الهجوم هو تقليص الانفاق الحكومي على تعليم الشعب وتحويل التعليم الى سلعة رأسمالية تخضع لمعيار الربح والخسارة.
ومنذ 1985 عايشنا العديد من الاصلاحات، وتابعنا ما نجم عنها من ردود فعل الفاعلين التربويين والنقابيين والسياسيين، وهذه الاصلاحات بعضها جاء بناء على توصيات البنك الدولي الا انها لم تساعد في حل ازمة النظام التعليمي المتفاقمة بقدر ما ساعدت في جعله يساير متطلبات العولمة خصوصا ما يتعلق بالتوازنات المالية عبر خصخصة القطاعات الاجتماعية.
ورغم مساوئ سياسة خصخصة القطاع الا ان التعليم الخاص او الخصوصي كانت له بعض الايجابيات التي لا يمكن انكارها من قبيل :
– اتاحة فرصة الدراسة الجامعية للطلبة الذين لا يتمكنون من الالتحاق بالجامعات والمدارس العليا الحكومية لسبب من الاسباب.
– افساح المجال للحاصلين على ديبلومات التكوين المهني لإكمال دراستهم. – توفير فرص العمل لكثير من الخرجين الجامعيين والموظفين الاداريين والسائقين والعمال...
– توفير مبالغ مهمة من العملة الصعبة التي يستنزفها الدارسون في المدارس والجامعات والمعاهد في الخارج.
– تشجيع المستثمرين المحليين على الاستثمار في بلادهم.
وعلى الرغم من هذه الايجابيات التي تحققت بفضل القطاع التعليمي الخاص الا ان ذلك قاد الى عدد من السلبيات مثل دخول عدد من رجال الاعمال والمستثمرين الى مجال التعليم على الرغم من ان لا علاقة لهم بالعملية التعليمية التي ينظرون اليها على انها سلعة تدر المكاسب فقط، وقد ادى هذا الى حدوث بعض القلق وعدم الاستقرار لدى العاملين في المؤسسات التعليمية الخاصة بسبب تدخل اصحاب المال في الشؤون التربوية، وحرمان العاملين في القطاع من حقوقهم المادية والوظيفية.
اما الدروس الخصوصية فهي بضاعات بيداغوجية فجة يتم تسويقها في اسواق مرخصة واخرى في تدار وتسوق في اسواق سوداء مما ادى الى اضعاف قيمة المدرسة وتقليل احترام سلطتها، وكأن التعليم سلعة تباع وتشترى لمن يدفع الثمن.
ونضيف الى هذه الماسي التعليمية صور الملهاة عن البحوث الجامعية و البحوث التربوية التي تحولت في الآونة الاخيرة الى ضرورة لأجل الترقي او اعتلاء منصب اداري او اكاديمي بغض النظر عن قيمة البحث او مدى ارتباطه بواقع الممارسات العلمية او التربوية وهذا ما زاد من حمى التسرع في اعداد البحوث والتقليل من جودتها ودرجة اتقانها.
تربية معولمة أو تسليع معمم؟
ان مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، ماهي الا مقدمة لمخاطر اعظم على الدولة الوطنية والثقافة الوطنية والتربية الوطنية، والهدف الاعظم من ذلك هو فتح الدولة الوطنية لحدودها الاقتصادية والسياسية والسير في نهج الخصخصة والتحول من القطاع العام الى القطاع الخاص الذي يساهم فيه الرأسمال الخاص المحلي والاجنبي وان كان هذا الاخير يزاحم ويدوس الاول ويجعله تبعيا، كما على الاقتصاد الوطني ان يتحول الى جزء من الاقتصاد العالمي يرفع الدعم عن المواد الاولية ويترك كل شيء لقانون العرض والطلب في الغذاء والسكن والخدمات العامة والتعليم استنادا الى توصيات ومبادئ اتفاقيات الكات GATTالتي تجعل كل شيء خاضعا لقانون الاسواق.
حولت العولمة اقتصاديات العالم المتعدد الى اقتصاد عالمي واحد، ويعتبر تسليع التربية من اهم المضامين التربوية للعولمة حيث انها تعتمد كثيرا على الخصخصة التي تشجع الحكومات على رفع يدها تدريجيا عن قطاع الخدمات كالتربية وغيرها وتقليص الدعم الحكومي المالي له، ودفع القطاع الخاص الى تولي مهمة امتلاك المؤسسات التربوية والتعليمية وادارتها Woodart – Gillotte ولذلك اصبح هناك توجه عالمي تتزايد اهميته ويتسع تأثيره يتمثل في النظرة الى التربية كسلعة للتسويق والاستهلاك وادخال المؤسسات التعليمية الى السوق كمنافس تجاري يهدف الى تحقيق الربح واعتبار المؤسسات التعليمية الاساسية والجامعية او غيرها مؤسسات تجارية لا فرق بينها وبين باقي المؤسسات الاخرى، الا في انها تبيع سلوكات ومعارف ومعلومات لزبنائها التلاميذ والطلاب.
يتم تأطير و توجيه هذه التربية الحديثة بنوع من الفلسفة البراغماتية التي انتشرت في كثير من المؤسسات التربوية وشاعت مفاهيمها الرئيسية، مثل : الخبرة – النشاط – النمو – الضبط – العمل – الديموقراطية .. و ساهم ذلك في التوجه السلعي فيها. والبراغماتية فلسفة فردية تركز على المنفعة وتؤمن بالقيم النسبية والذاتية وتنظر الى القيم كسلع تتوقف قيمتها على مدى منفعتها المادية وتحكم على الافكار وفق نتائجها العملية وتفضل المصالح على المبادئ.
من هذا المنطلق...يحرجنا ان نطرح السؤال المحرق حول كيفية التعامل مع "ثقافة العولمة" التي تحاصرنا من كل جانب وتغزو حميميتنا بإغرائها الذي لا يقاوم واحيانا كثيرة بعنفها الرمزي. فهل نقاومها بواسطة اسلوب الامتناع والانزواء وراء خصوصية ثقافية اصيلة وبالتالي رفضها شكلا ومضمونا ؟ او نتعامل معها بطريقة انتقائية تقوم على رفض طابعها الايديولوجي ( ايديولوجية الفكر الواحد) والتعامل الوظيفي مع لغتها وادواتها ومجموع التقنيات المرتبطة بها ؟
ان العولمة هي احد اشكال الهيمنة، تفرض علينا التكيف مع الثورة المعلوماتية وكأنها فرض عين على كل الافراد والجماعات والمجتمعات وتخترق كل الحدود والحواجز مما يتطلب منا المواكبة القادرة والواعية دون تبعية منغلقة او انبهار بحداثتها، وان ارتداء معطفها دون مقاس لهندسة اجسامنا قد يوقعنا في الذوبان فتحدث خسارة وجودية لكينونتنا، وذوبان هويتنا الثقافية.
ان اسواق الثقافة المعولمة تماما كأسواق الاقتصاد المعولم، لا تتجمد، ولا تهدا، ولا تنام، تدرك انها لا بد ان تبقى متيقظة، متحركة، متجددة، على مدار الساعة مستجيبة لمتطلبات مجتمع المعرفة والتكنولوجيا. وانتاجها لابد وان ينال قبولا في عقول وقلوب الناس، وعليه فما يجري في عالم التربية اليوم هو محاولات منظمة لعولمة التربية والثقافة بمقاييس ومواصفات معولمة ومنها : نشر اللغات الاجنبية – تعميم القيم الجديدة – تبني الرموز الثقافية الغربية والامريكية باعتبارها مكونات ثقافية عالمية..
ان اثار العولمة في الجانب التربوي والتعليمي هي من اخطر سلبيات العولمة فقد استغلت العلم والمعلومات والتقنيات الحديثة واجهزة الاعلام من خلال الشركات قصد فرض النمط التربوي المعولم وتكريس افكار تربوية في عقول الاجيال تؤكد على قيم المادة والربح ، واعتبار المؤسسة مقاولة تحقق الارباح حتى اصبحت ظاهرة الربح ظاهرة سلوكية لا يمكن الفرار منها.. وتحولت المادة التعليمية الى بضاعة تعلب وتباع في الاسواق فإلى اين المصير؟
(مواكبة واستدماجا لتحولات العالم ومستجداته في العلوم والتكنولوجيا والمعارف...) وطلبا للتغيير المتوخى للمدرسة المغربية وتمكينها من الاضطلاع بأدوارها الحاسمة ترى الرؤية الاستراتيجية للإصلاح التغيير المنشود في (الارتقاء بالمجتمع المغربي من مجتمع مستهلك للمعرفة الى مجتمع لنشر المعرفة وانتاجها) وذلك عبر تقوية دور المؤسسات التربوية في صياغة الشخصية الوطنية وغرس الهوية (التمسك بالثوابت الدينية والوطنية والمؤسساتية وبالهوية في تعدد مكوناتها وتنوع روافدها)، واقامة نظام تربوي وتعليمي متميز يستطيع مواجهة التحديات ( عبر تكوين متكامل متجانس بين التحصيل وبناء المعارف) اضافة الى تعليم يطور قدرات الافراد وينمي مهاراتهم ويزودهم بالمنهجية السليمة لتلقي المعلومات وتنظيمها وحسن استخدامها في التفكير والانتاج حتى نستطيع الوفاء بمتطلبات مجتمع العولمة (اسهاما في تعزيز تموقع المغرب في مجتمع المعرفة وفي مصاف البلدان الصاعدة ) هكذا حددت الرؤية الاستراتيجية اسس المدرسة الجديدة القادرة على مواكبة تحديات العولمة وفي نفس الان الدفاع عن الهوية الثقافية والوطنية ضد مخاطر العولمة.
إذن فإما مواكبة تربوية معولمة، او بؤس تربوي معمم ؟؟؟
باجث تربوي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.