إن تتبع مسيرة الحرف «زد» (Z) في الثقافة العالمية يكشف كيف استطاع أن يتجاوز وظيفته اللغوية، ليصبح علامة فكرية وثقافية وسياسية متجددة، فهو في اليونان رمز للحياة في وجه الموت، وفي بريطانيا عنوان لاختلال أنظمة الرقابة التكنولوجية، وفي أمريكا تجسيد لانهيار الحضارة أمام الخوف الجماعي، وفي العالم العربي أداة للتعبير عن صراع الأجيال أو مواجهة الشر والفساد وتردي الخدمات الأساسية. وبينما يعيش العالم تحت أنظمة مراقبة رقمية، وتصاعد النزعات الاستبدادية الناعمة، وتمدد نفوذ الشركات التكنولوجية، تبدو استعادة «زد» أكثر راهنية من أي وقت مضى، فالحرف البسيط الذي انطلق من ساحة في أثينا منتصف الستينيات، لا يزال يذكرنا بأن الأفكار لا تقتل، وأن الحرية تنتزع ولا تمنح، وأن الثقافة قادرة على أن تكون صوتا مقاوما ضد كل أشكال القمع، قديمها وحديثها. وتحمل ذاكرة الطفولة والسينما الكلاسيكية في طياتها صورة شخصية «زورو» الشهيرة منذ عام 1919 وإلى اليوم، ذلك البطل المقنع الذي ارتبط اسمه بالإثارة والعدالة في آن واحد، ولم يكن مجرد شخصية خيالية عابرة، بل رمزا للذكاء والمكر والتمرد، وشهدت هذه الشخصية تحولات عدة في السينما والأدب، لكنها احتفظت بجوهرها كفارس ملثم يرتدي السواد، ويدافع عن المقهورين ويواجه رموز الطغيان بشجاعة ودهاء، أما توقيعه الشهير، حرف Z الذي كان يرسمه بسيفه فكان إعلانا بانتصار المكر على الغطرسة، والعدالة على الجور. من اليونان إلى سياق عالمي ملتهب وفي سياق النقاش الأكاديمي المتنامي حول الخصوصيات النفسية والاجتماعية والثقافية لجيل «زد»، تتقاطع رؤى عدد من الباحثين والخبراء والسينمائيين الذين حاولوا تفكيك التحولات العميقة التي تميز هذا الجيل، وليس من المبالغة القول إن الحرف الواحد قد يصير أيقونة، وأن الأدب قادر على أن يحول جريمة اغتيال إلى شهادة باقية في الذاكرة الإنسانية، هكذا خرجت رواية «زد» Z للكاتب اليوناني فاسيليس فاسيليكوسVassilis Vassilikos ، الرواية السياسية التي اعتبرت علامة بارزة في تاريخ الأدب الأوروبي الحديث، والتي سرعان ما تجاوزت حدود اليونان لتصبح جزء من الوعي الثقافي والسياسي العالمي. الرواية، التي صدرت في ستينيات القرن العشرين، استندت إلى واقعة اغتيال النائب اليساري والناشط البارز غريغوريس لمبراكيس في العاصمة أثينا سنة 1963، جريمة تمت بتخطيط وتواطؤ مع أجهزة الشرطة والعسكر، لكنها تحولت إلى لحظة كاشفة عن حجم العنف والفساد الذي كان ينخر مؤسسات الحكم آنذاك، فاسيليكوس، الذي اختار أن يجعل من هذه الحادثة مادة أدبية، لم يكتب فقط عن رجل سياسي اغتيل، بل عن وطن بكامله كان يرزح تحت ضغط الانقلابات والخيانات السياسية والتحالفات الدولية. ولم تلبث الرواية أن وجدت طريقها إلى السينما عبر المخرج اليوناني العالمي كوستا غافراس Costa-Gavras، الذي أخرج فيلمه الشهير «Z» عام 1969 ببطولة إيف مونتان وإيرين باباس، الفيلم لم يكن مجرد اقتباس أدبي، بل عمل سينمائي مشحون بالتوتر والجرأة، إذ حمل لغة بصرية جديدة قائمة على الإيقاع السريع، والمطاردات المثيرة، والمشاهد الجماعية للمتظاهرين، ليعيد تصوير جوهر الصراع السياسي الذي سبق انقلاب 1967 العسكري في اليونان. الكلمة «Z»، التي تعني باليونانية القديمة «إنه حي»، كانت قد كتبت اختصارا في المظاهرات بعد اغتيال لامبراكيس، في رسالة واضحة مفادها أن الأفكار لا تموت وإن صمت الجسد لا يعني صمت الوعي، لقد تحولت إلى شعار يتجاوز الحدود، لتصير رمزا للمقاومة، وللذاكرة، وللاستمرارية في وجه محاولات الطمس والإلغاء. الفيلم، الذي انطلق إخراجه في زمن الاحتجاجات الشبابية والطلابية عام 1968، ارتبط بسياق عالمي ملتهب: من ساحات باريس إلى شوارع برلين ولندن، ومن الجامعات الأمريكية إلى المظاهرات ضد حرب فيتنام، لذلك بدا «زد» عملا سياسيا كونيا، يترجم غضب جيل بأكمله، ويصوغ من خلاله خطابا ضد العنف السلطوي والقمع المنظم، وقد نال مكانة استثنائية في تاريخ السينما، وفتح الباب أمام موجة من الأفلام السياسية التي تستلهم أسلوبه الدرامي، حيث يتحول التحقيق الجنائي إلى مفتاح لفهم منظومة كاملة من الفساد والهيمنة. هيمنة الرقمنة في مواجهة الأزمات ولم يبق «زد» حبيس السياسة والسينما، بل أعيد توظيفه في أعمال أدبية مختلفة عبر العالم، ومن ذلك الكاتبة البريطانية جوانا كافنا في روايتها «زد» قدمت رؤية مستقبلية لمجتمع خاضع لهيمنة الذكاء الاصطناعي، حيث تسيطر شركة عملاقة تسمى «الخنفساء» على تفاصيل حياة البشر عبر الرقابة الشاملة، وتبرر جرائمها وأخطائها المميتة بوجود عامل مجهول اسمته «زد»، هكذا تحول الحرف إلى مرادف للاختلال الذي ينخر أنظمة المراقبة الحديثة. وفي الأدب الغربي دائما، كتب الأمريكي ماكس بروكس روايته «الحرب العالمية زد» (2006)، التي جسدت على شكل شهادات إنسانية حكاية اجتياح الزومبي للعالم، لكنها لم تكن مجرد رواية رعب، بل نص سياسي مبطن ينتقد فشل الحكومات والمؤسسات الدولية في مواجهة الأزمات، ويعكس هشاشة النظام العالمي أمام الخوف الجماعي والأزمات المفاجئة. وهذه الرواية تحولت بدورها لفيلم سينمائي عام 2013 بنفس العنوان (World War Z) وبخيال علمي وفانتازيا من إخراج مارك فوستر وبطولة براد بيت إلى جانب ميراي إينوس وإلياس جابل، وبلغت إيراداته خلال أيام عروضه الأولى 88 مليون دولار في الولاياتالمتحدة خلال أقل من أسبوع، لتناوله موضوع عدوى تجتاح العالم ودمار شامل، من خلال قصة محقق سابق بالأمم المتحدة يدخل في سباق مع الزمن لإنقاذ العالم من جائحة تهدد بفناء البشرية. ومن بين الأعمال اللافتة التي صدرت في هذا السياق «رواية زد» لكاتبها دو موندران كرونيك، التي تنفتح عبر 369 صفحة على عوالم متخيلة تجمع بين السياسي والإنساني، حيث يقدم الكاتب شخصية الراوي قسدري57، القادم من الفضاء، والمكلف برصد تفاصيل الحملة الانتخابية الفرنسية لسنة 2022، عبر هذا المنظور الغريب، يتابع القارئ عرضا ساخرا لأسماء المرشحين وخطاباتهم، ومحاولة للتسلل إلى مجتمع «أبناء الوطن» الذين يعيشون تحت رقابة مشددة. وفي مؤلفها «جيل زد: تحرير الرغبة في التعلم»، تسلط الباحثة الفرنسية بريجيت برو، المتخصصة في البيداغوجيا النفسية، الضوء على أزمة مركزية يعيشها أبناء هذا الجيل: انطفاء شغفهم بالمعرفة في زمن الإشباع الرقمي الفوري، وترى برو أن هؤلاء الشباب الذين كبروا وسط الشاشات والخيارات اللامحدودة يجدون أنفسهم اليوم أمام ما يطالبهم بالالتزام بمسار تعليمي طويل يتطلب الصبر والمثابرة في عالم لم يعد يعترف بالإيقاع البطيء أو بالجهد المتراكم، ما يجعل علاقتهم بالتعلّم محفوفة بالتوتر والتشتت. الاحساس بالمجتمع ومصارعة قوى الشر ومن زاوية أخرى، يتناول الخبير في سوسيولوجيا المجموعات واستراتيجيات العلامات التجارية جورج لوي في كتابه «جيل زد: دليل الاستخدام» السلوك الاجتماعي والاستهلاكي لهذا الجيل من خلال مقاربة تجمع بين التحليل السوسيولوجي والتطبيق العملي، فيما يشير لوي إلى أن جيل زد يتميز بالمرونة في الأشكال والثبات في القيم، وبات يؤسس هويته حول ثلاث ركائز أساسية: الشفافية، وروح الدعابة، والإحساس بالمجتمع، إنه جيل متصل رقميا على نحو مفرط، يطالب بحقوق جديدة، يعمل بكثافة دون ولاء طويل الأمد، وقادر على تغيير مواقفه بسرعة تجاه العلامات التجارية كما لو أنه يعيد تعريف مفهوم الانتماء والاستهلاك ذاته. أما الباحث بيلي ويلسون ، في مؤلفه «جيل زد: ولدوا لمواجهة العواصف»، فيقدم رؤية مغايرة تقوم على الإيجابية، إذ يرى أن هذا الجيل مهيأ بطبيعته لمواجهة الاضطرابات الكبرى التي تطبع عصرنا الراهن، من أزمات اقتصادية وسياسية إلى صراعات اجتماعية وجائحة عالمية، ويعتبر أن أبناء جيل زد يمتلكون أدوات الإبداع والدافعية والابتكار التكنولوجي، وأنهم يعيشون في عالم متقلب كالبحر الهائج، لكنهم مؤهلون لقيادة أعظم صحوة شهدها العالم الحديث. وفي الاتجاه ذاته، يقدم إريك بريونس، مدير تحرير Journal du Luxe، رفقة نيكولا أندريه ، مدير التخطيط الاستراتيجي بوكالة Publicis Epsilon، في كتابهما المشترك «صدمة جيل زد: ثورة في عالم الفخامة والموضة والجمال»، تحليلا معمقا للزلزال الذي أحدثه هذا الجيل في منظومة التسويق الكلاسيكية، إذ يكشف الكتاب كيف فرض جيل زد منطقه الخاص في التفاعل مع العلامات التجارية، بما في ذلك تلك التي تنتمي إلى عالم الفخامة الذي ظل لزمن طويل مقاوما للتغيير، لقد غير هذا الجيل معايير الذوق، وأعاد تعريف قيم الرفاه والهوية والتميز، محدثا ثورة ناعمة في علاقة المستهلك بالمنتج، والرمز بالواقع. ويذكر أن الخزانة العربية لم تخل من مؤلفات في الموضوع، إذ اختارت الكاتبة عزة عبدالجواد أن تكتب «عالم Z»، متناولة فيه، على مدى أكثر من مائتين وخمسين صفحة، حياة ثمانية فتيان وفتيات من جيل «زد»، جيل يعيش صراعا يوميا مع أزماته العائلية والاجتماعية، في محاولة للاقتراب من هموم المراهقة الحديثة، بينما قدم الكاتب حسام الدين أحمد رواية «Z العالم السفلي» التي تناول فيها شخصية أسطورية تدعى «ليل»، تقاتل قوى الشر والقهر والهيمنة العقلية المتمثلة في شخصية «رأس الغول»، ليعيد صياغة الحرف (Z) باعتباره رمزا للمواجهة الأبدية بين النور والظلام.