احتضنت الرباط يومي 24 و25 نونبر 2025 لقاء موسعا حول تقييم أثر سياسات مكافحة الفساد، نظمته الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها بشراكة مع مجلس أوروبا، في محطة اعتبرها المتدخلون لحظة تحول مؤسساتي نحو اعتماد منهجية جديدة تقوم على قياس الأثر الفعلي للسياسات العمومية، بدل الاكتفاء بتتبع المشاريع والأنشطة. وفي كلمته الافتتاحية، شدد رئيس الهيئة محمد بنعليلو على أن المغرب يدخل مرحلة تستوجب تغيير طريقة فهم ومساءلة جهود مكافحة الفساد، قائلا إن الزمن السياسي الراهن يفرض الانتقال من رصد البرامج إلى مساءلة أثرها، ومن سؤال ماذا أنجزنا؟ إلى السؤال الأعمق،ماذا تغير فعلا؟. وأوضح أن التقارير التقليدية كثيرا ما تقدم صورة منفوخة عن الإنجاز، بينما لا تعكس دائما الواقع اليومي للمواطن أو حجم التحولات الحقيقية في السلوك والإدارة. وبموازاة هذا التشخيص، قدمت الهيئة مشروع الدليل الوطني لتقييم أثر سياسات النزاهة، وهو أول مرجع من نوعه في المغرب، صمم ليكون إطارا مفتوحا للتطوير المشترك بين الفاعلين المؤسساتيين. ويعتمد الدليل على مقاربات علمية حديثة أبرزها نظرية التغيير، سلاسل النتائج والقيم، التقييم المبني على الأدلة، والاستعمال التخصصي للمعطيات الرقمية. وأكد بنعليلو أن فعالية السياسات العمومية لم تعد تقاس بعدد النصوص أو حجم الاعتمادات، بل بمدى تأثيرها الفعلي على حياة المواطن وعلى مستوى الثقة في المؤسسات. من جانبه، أوضح أمين البصري، مدير مرصد الهيئة، أن إعداد الدليل جاء استجابة للتحولات المؤسسية وما تفرضه مقتضيات القانون 46.19 من مسؤولية جديدة في تتبع وتقييم فعالية وأثر الإستراتيجيات العمومية في محاربة الفساد. ومع اقتراب نهاية الاستراتيجية الوطنية الحالية (2015–2025)، قال البصري إن محدودية آليات التتبع السابقة باتت جلية، لأنها ركزت على قياس تقدم المشاريع دون تقييم منهجي للتغيير الفعلي على مستوى الممارسات والسلوكيات والمؤسسات، خاصة في غياب منظومة تقييم مبنية على مؤشرات مرجعية منذ مرحلة التصميم. وكشف مدير المرصد أن إعداد الدليل مر بمسار علمي متعدد المراحل، بدأ بإعداد تقرير شامل حول التجارب الوطنية والدولية لتقييم الأثر، تضمن تحليلا للمنهجيات الرائدة ورصدا للثغرات واقتراحات ملائمة للسياق المغربي. وقد تمت مناقشة التقرير مع خبراء مجلس أوروبا الذين أغنوه بملاحظاتهم التقنية، قبل الانتقال إلى إعداد النسخة النهائية. وتوج المسار بتقرير مقارن أنجزه خبراء المجلس حول تجارب دولية متقدمة شكل، إلى جانب باقي المراجع، الأساس العلمي لصياغة النسخة الأولية للدليل المعروض خلال اللقاء. ويقدم الدليل منظومة متكاملة تجمع بين الإطار المفاهيمي والتطبيقي، تشمل الأسس المرجعية وأنواع التقييم ومنهجيات القياس وبناء المؤشرات، إضافة إلى تموقع نظرية التغيير كآلية محورية لربط البرامج بالنتائج الملموسة. ويهدف هذا التحول إلى تجاوز منطق إنجاز الأنشطة نحو منطق قياس التغيير، انسجاما مع توصيات مجلس أوروبا ومعايير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية والالتزامات الدولية للمغرب. وأكد كل من بنعليلو والبصري أن الهدف النهائي ليس إنتاج وثيقة إضافية، بل بناء إطار منهجي واقعي يساعد المؤسسات العمومية على اعتماد التقييم كجزء أساسي من دورة السياسات العمومية، بما يمكن من قياس التغيرات وفهم أسبابها واستثمار خلاصاتها لتحسين الأداء العمومي وتعزيز الثقة،مشددين على أن نجاح المشروع يظل رهينا بالانخراط الجماعي للقطاعات والمؤسسات والخبرات الوطنية والدولية، وبترسيخ ثقافة جديدة تجعل الأدلة والنتائج معيارا رئيسيا للحكم على فعالية السياسات. وتم في هذا اللقاء تأكيد على أن المغرب يقف اليوم أمام منعطف نوعي نحو بناء حكامة عمومية قائمة على الصدقية والفعالية، وعلى اعتماد الأثر كمعيار للحكم على جدوى التدخلات العمومية، في أفق جعل نتائج الإصلاحات ملموسة لدى المواطن، وبلورة نظرية تغيير وطنية جديدة تقود المرحلة المقبلة من مسار مكافحة الفساد.