لم يأت البوليس العالمي إلى مراكش ليعقد مؤتمر الانتربول لكي يتابعوا تجربة تشبههم، أو لقياس مدى قدرة الأمن المغربي، ومن وراءه الأمن القاري في محاكاتهم. لا شك أن معايير قياس التطور ستحضر كما هي متعارف عليه دوليا، ولكن من المحقق أنهم يأتون أيضا لكي يتابعوا تجربة مغربية بامتياز في التطور، وفي التفوق، وفي النجاح وتقدير المهمة بأبعادها الحالية في العالم. استطاع الأمن المغربي طوال العهد الجديد على وجه الخصوص الانتقال من الحاجة إلى الآخرين إلى الندية معهم. اتخذت تعبيراتها أشكالا متعددة، سواء في المراهنة على المغرب في قضايا الإرهاب والهجرة والجريمة المنظمة والاستقرار الإقليمي أو من خلال التوشيحات والتكريمات والاعتراف العملي. وبعد الندية وصل زمن الاحتضان فوق تراب مراكش. هناك آفاق ما بعد الاحتضان، ولا شك أنه يتم التأسيس لها في المدينة الأكثر عالمية من بين مدن المغرب، مراكش الحمراء، ونحن وقتها عند عتبة الأمن كفعل مستقبلي، سيكون قد وضع أفقا جديدا للتعاون الدولي، بما يطرحه المستقبل من استباقية، وبما يأتي به التطور من إشكاليات جديدة، منها الذكاء الاصطناعي الذي سيفرز الأمن الاصطناعي بدوره. هي نفسها مراكش التي احتضنت منذ سنة تقريبا مؤتمر التحالف الدولي ضد داعش، الذي اعتُبر مرحلة مفصلية في تاريخ التحالف الذي ولد برعاية مغربية ودولية، أمريكية خصوصًا مشتركة.. سيأتي بوليس العالم ليتابع ميدانيا تجربة الجنوب الذي لديه ما يعلمه للشمال والشرق والغرب، الضالعين في التجربة الأمنية بعقود طويلة. ومن الضروري هنا أن نشير إلى أن مدير الأمن الوطني ومديرية الديستي يشرفان على الحدث بأربع قبعات، لكل منها حمولاتها الدلالية في صناعة الحدث: 1- القبعة الأمنية المغربية، وهو يحظى بتفويض السلط الذي يمنحه الحديث باسم المملكة، وهي قبعة ترمز إلى التحديث الواسع داخليا والالتزام الواسع بالمغرب الجديد الذي رسم أفقه محمد السادس، من المصالحة إلى محاربة الإرهاب مرورا بمحاربة الفساد والجريمة المنظمة وصياغة الأمن المشترك … اجتماعيا وثقافيًا وحقوقيًا وتدبيريًا. 2- القبعة العربية، وهي التي جمعت تحتها، في طنجة سنة 2024، كل قادة الشرطة والأمن العرب في مؤتمرهم 47. 3- القبعة الإفريقية، حيث يحتضن المغرب اليوم مؤتمر الانتربول الذي وصل المسؤول عنه إلى قيادته كرجل أمن إفريقي نائبا لرئيس الانتربول في الجمعية العامة في نونبر 2024. 4- بطبيعة الحال، كمسؤول دولي في هذا القطاع الحساس والاستراتيجي يحظى بتقدير زملائه في كبريات الأحزمة الدولية، كما تشهد بذلك اتفاقيات التعاون من أوروبا إلى أمريكا مرورا بباقي الأجهزة الدولية. ولعل الجمعية العامة 93 هي شهادة دولية على الثقة في الأهلية العلمية من خلال العقل الأمني المغربي، سواء في قيادة القرار أو في تطويره، أو في عقلنته، أو في إنتاجه على مستوى الأطر القاعدية، وفي الأهلية الميدانية والقدرة التدبيرية، منحت لمؤسسة الأمن في المغرب مستوى دوليا تحرص المؤسسات العالمية على الارتباط به. ليست المقاربة الأمنية والجدارة في المراقبة وتحصين الحدود هي التي تأتي وحدها بهكذا احتفال عالمي وتقدير، بل لا بد من قدرة على صناعة النموذج القادر على التفاعل مع آفاق الانتظار الدولية ميدانيا، سياسيا، جيوسياسيا وديبلوماسيا. فكان لا بد من تجربة تفوق المهمة الأصلية. وبعد التفاني فيها والتفوق فيها، تنمي منظومة قيم قائمة على الوضوح والجدية والحرفية العالية والقدرة على استيعاب التطور وخلقه، وفي صلبها القدرة على اقتراح آفاق جديدة. ولن نجازف إذا قلنا إن جدول أعمال المؤتمر تُصنع أرضيته المنظمة ككل، وكان هو أيضا مسرحا لاجتهاد محلي للمنظمين، يبصمون انعقاده في المغرب. إن المؤتمر، كما كل ما سبقه من تظاهرات، هو كذلك فعل ديبلوماسي. ولعل من المهم بالنسبة لنا أن ننتبه إلى دور مؤسسة الأمن في التأثير على عواصم أوروبية بخصوص قضيتنا الوطنية الأولى، كما برز تميزها في الاصطفاف إلى جانب المغرب بدون عقدة أو استعلاء. ومثل هذه اللقاءات لا شك أنها تذكرنا بمبادرات ومهام أخرى ذات علاقة بالأداء الذي أصبح الأمن يقدمه لبلادنا في إسماع صوتها في قضاياها المصيرية، وهذا تحول عميق في الوظيفة الأمنية. سميناها في مقال سابق سرديات أمنية جديدة، بجعل "البراديغم الأمني" يأخذ صيغة أخرى، ويساهم في هوية مغربية عابرة للقارات تجاوزت طور التشكل وأصبحت مخاطبا دوليًا. يمكن لكل مغربي أن يضيف إلى هذه اللائحة بنودا أخرى، تزيد من الثقة في الجهاز الوطني الخاص بالأمن والاستخبارات، والتي تعبر عنها بالفعل ميولات المواطنين واستطلاعات الرأي بخصوصها، لكنها ثقة لا تقف عند الحدود الوطنية بل تتعداها إلى أجهزة ودول لها تاريخ طويل في علم الأمن والإجرام والتهديدات الدولية. لقد تم تكريم الأمن المغربي في أهم مراكز القرار الأمني الدولية شرقًا وغربًا، من التوشيحات وقبلها التعاون والتفاعل وتبادل الخبرات، ولكن الذي يحدث في مراكش الآن هو احتضان سيادي لتجربة مغربية. المؤتمر الأمني فعل سيادي ما كان له أن يكون دون ثلاث قواعد رئيسية: 1 – سيادة أمنية مقنعة بإرادتها ونضجها، حيث لم يعد خافيًا أن السيادة الأمنية صارت في قلب الرهانات وموازين القوى في العالم، كما بالنسبة للمغرب في علاقته مع شركائه كلهم، وموضوعا ديبلوماسيا بامتياز في كل العلاقات، وهي سيادة فعلية وليست بلاغية أو دعائية للترويج الذاتي. 2 – قدرة على التفاعل مع تعقيدات الوضع الأمني العالمي والقدرة على اجتراح المعالجات التي تحمل البصمة المغربية، وفي قلبها التجربة القارية التي جعلت المغرب يخط مهارته الأمنية ببعد سياسي وجيو-استراتيجي، وفي قلبه الدولة الوطنية كضمان للاستقرار الإقليمي والقاري والعالمي، والمشاركة في كبريات التظاهرات ومنها الرياضية: مونديال قطر وأولمبياد باريس باعتبارها امتحانا صعبا للتدبير الأمني. 3 – الاستجابة التفاعلية لما تسميه أدبيات الأممالمتحدة بالدبلوماسية الوقائية، أي تلك الشعبة الأمنية الدولية التي ترتكز على عدة مؤهلات ثبت أن الأجهزة المغربية تتوفر عليها، مما يجعلها شريكا موثوقا من طرف الأجهزة الكبرى في العالم، ونعني بذلك معرفة دقيقة بالميدان وبالاتجاهات العالمية للأزمات، وبأسلوب الجماعات الإجرامية في التأطير والعمل، سواء كان إرهابا دينيا أو إلكترونيا أو جريمة تجارة بشرية أو هجرة سرية، وبالقدرة على جمع المعلومات الحقيقية وتحليلها التحليل الدقيق والصائب.