قال محمد بنعليلو، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، إنه "لم يعد مقبولا اختزال فعالية السياسات العمومية في عدد التقارير أو حجم النفقات أو نسب الإنجاز، بعدما أثبتت التجارب أن هذه المقاربة كثيرا ما تنتج قراءات شكلية ونتائج منفوخة وسرديات مؤسساتية مريحة، لكنها في الغالب بعيدة كل البعد عن واقع المواطن". ووصف بنعليلو ضمن كلمته خلال اللقاء الدراسي حول تقييم أثر سياسات مكافحة الفساد، اليوم الاثنين بالرباط، هذه المقاربة بأنها "تقديرات أقل ما يمكن أن يقال في شأنها إنها قد تمنح وهما بالنجاعة، لكنها في نهاية المطاف تفتح الباب أمام سيل من المزايدات". وأشار إلى أن هذا اللقاء يمثل انطلاقة لمرحلة جديدة من التفكير العمومي تتجاوز بداهة القول بوجود سياسات إلى طرح سؤال أكثر تعقيدا ومسؤولية حول ما أحدثته هذه السياسات فعليا داخل المجتمع، مشددا على أن "الزمن السياسي والمؤسساتي الراهن يفرض الانتقال من مجرد رصد الجهود المبذولة ومراكمة الإصلاحات إلى قياس النتائج الملموسة ومساءلة الأثر الحقيقي الذي صنعته هذه المبادرات في الواقع". واعتبر رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة أن الاعتماد على مؤشرات شكلية تقليدية تتكرر باستمرار يخلق في العمق مزايدات على المواطن أكثر مما يقدم له حلولا ناجعة، مما يستدعي القطع مع هذه المقاربات الانطباعية. وفي هذا السياق، أوضح المتحدث أن طرح مشروع الدليل الوطني لتقييم الأثر يأتي تعبيرا عن رغبة جادة في تأسيس ثقافة قوامها الحساب الممنهج والتقييم الموضوعي المبني على الأدلة. وأبرز بنعليلو أن أهمية اللقاء لا تكمن في مجرد عرض وثيقة جديدة، بل في لحظة التحول التي يسعى الجميع لعيشها، وهي الانتقال من "ثقافة الإنجاز" إلى "ثقافة الأثر"، وزاد: "في ظل تسارع التحولات الاجتماعية، أصبح لزاما إثبات أن الموارد العمومية تترجم إلى نتائج ملموسة". وعرّف رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة الأثر المنشود بأنه ليس رقما يُدوَّن في التقارير الوصفية، بل هو تحول ملموس في السلوك، وتغيير في الممارسات، وانخفاض في كلفة الفساد، وارتفاع في منسوب الثقة العامة. وأكد أن الانتقال نحو تقييم الأثر هو إعلان عن نقلة منهجية تحاسب المسؤولين عما أحدثوه من تغيير فعلي، وليس فقط عما قاموا به من خطوات، مما يعني الانتقال من سياسة تستعرض ما يُنجز إلى سياسة تسائل ما ينفع الناس. واستعرض الأسس العلمية لمشروع "دليل علمي لتقييم أثر سياسات مكافحة الفساد"، الذي يعد ثمرة شراكة مع مجلس أوروبا وأول مرجع وطني متكامل ينضبط للمعايير الأوروبية في تقييم السياسات العمومية. وأوضح أن الدليل يستند إلى مفاهيم حديثة مثل "نظرية التغيير" وسلاسل القيم، ويميز بوضوح بين التتبع الإداري والتقييم الفعلي للأثر، معتمدا على الاستعمال المهني للمعطيات بعيدا عن التأويلات الظرفية والاجتهادات الفردية. وأشار بنعليلو إلى البعد الاستراتيجي للمشروع، الذي يهدف إلى بناء اللبنة الأولى في هيكل "نظرية تغيير وطنية" تربط بين المدخلات والآثار بعيدة المدى، مشددا على أن الدليل ليس وثيقة مغلقة، بل هو مشروع مفتوح للتطوير الجماعي يتيح للفاعلين العموميين امتلاك أدوات علمية تجعل من التقييم مسارا مؤسسيا مستداما، وليس مجرد مرحلة إدارية محدودة في الزمن. وختم رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة قائلا: "النجاح لم يعد يُقاس بتعدد النصوص أو الهيئات، بل بما يلمسه المواطن من تغير في محيطه وتراجع للممارسات الفاسدة. والهيئة بصدد بناء منظومة تمنح للمواطن حقا جديدا هو الحق في معرفة أثر السياسات التي تتخذ باسمه، مما ينقل الدولة من منطق التطور فقط إلى منطق إحداث تغيير إيجابي".