1 تريد أن تتعرف على الآخر. أن تتواصل معه دون أن تتواصل، أي بطريقة غير مباشرة.. الآخر هذا ليس صديقك أو قريبك.. دعنا نفترض أنه مواطن بلد آخر لا يتكلم لغتك. لكنه مثلك… إنسان. في هذه الحالة تتدخل الترجمة. هي أداة تجعلك تتواصل معه أي مع حضارة تختلف عن حضارتك بكل مقوماتها. إذن ماهي الأداة السحرية التي تربط لك علاقة مع الآخر كأنه ولي حميم. هي سيرة شخص – كمن تبحث عنه – أو أمة. وأنت بهذا الفعل تنقل أمته إلى لغتك. أنت لا تفسر ما يقول. لا تعلق عليه. فقط، تفهمه. وعندما تفهمه، يصبح كتابا مفتوحا لديك. لكي تترجم لابد أن تكون على دراية بلغته، ودراية أكبر بلغتك. ثم أن تقرأه بتمعن، وأن تعطي بلغتكَ أنت نصا مكافئا للنص الذي قرأته. أنت بهذا الفعل لا تقتبس. لا تستعير، ولا تقوم حتى بنقل حرفي جدا لقوله. ما تفعله هو أن تنتج نصا يطابق ما قرأت إلى حد ما. هذا الاجتهاد ليس جديدا علينا.. نحن العرب. فقد ترجمنا منذ العهد الأموي مؤلفات علمية.. ترجمنا كتب الطب والكيمياء أساسا وهذا النوع من الترجمة، أي العلمية، يتطلب الأمانة الحرفية حتى لأن العلم هو العمل بجميع اللغات. 2 بعد الترجمة العلمية لدى الأمويين أخذت الترجمة منحى جديدا مع العباسيين، بدأه المنصور وتابعه هارون الرشيد وطوره المأمون الذي أنشأ «بيت الحكمة». بيت الحكمة هذ أصبح أكاديمية اهتمت بالرياضيات والفلك والمنطق. المصدر كان من الثقافة اليونانية. قد تتساءل… ماذا عن الأدب؟ كانت الترجمة الأدبية خجولة، ولم يكن مصدرها اليونان بل بلد فارس، ولو أن كتاب «الشعر» لأرسطو ترجمه أبو بشر متي بن يونس. في السرد، أي الحكاية، بادر عبد الله بن المقفع بنقل كتاب «كليلة ودمنة». ضاع الأصل الفارسي وبقيت الترجمة العربية حتى الآن تغازلنا في المكتبات. ابن المقفع هذا ترجم كتاب الأدب الكبير والأدب الصغير. دائما مع السرد، وهذه المرة في الاتجاه المعاكس، نعرف أن» ألف ليلة وليلة» ترجم الى لغات عدة وملأ صيته الآفاق، ولا يختلف اثنان على تأثيره في مؤلفين غربيين كبار نذكر على سبيل المثال لا الحصر بوكاشيو الإيطالي، وفولتير في كانديد وتشوس في رحلات كانتربيري. ثم هناك رائد الرواية الحديثة سيرفانتيس عبر «دون كيخوت». دائما عن تأثير الحكاية العربية الخجولة، يجدر بنا ذكر المستشرق الفرنسي دوسابيي الذي عشق «مقامات الحريري» و»كليلة ودمنة» وحتى «خطط» المقريزي و»مقدمة «ابن خلدون. دائما مع الأدب، ثمة من هام بالقصيدة العربية ونقلها الى لغته.. فهذا ريجيس بلاشير يترجم لامرئ القيس وزهير والخنساء وبشار بن برد. 3 لكن…ماذا عن الترجمة العربية للرواية الأجنبية؟ في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، كانت بيروت عاصمة القراءة العربية تكتسح مكتباتنا، وبواسطتها قرأنا لكتبا كبار..ككولن ولسن مثلا، فيكتور هوغو، أوسكار وايلد، وتشارلز ديكنز، و… كانت روايات المشاهير تثير شهيتنا للقراءة بلغتنا، وكنا نجد في المكتبات والأكشاك ضالتنا. وعندما نقرأ رواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، نهيم بها ثم يحدث أن نعثر على ترجمتها باللغة الفرنسية ونكتشف بالعين المجردة، ودون الدخول في التفاصيل، أن النسخة الفرنسية تضاعف النسخة العربية لعدة مرات. في العربية عندنا كتاب واحد، ولنقل تجاوزا مجلدا واحدا، من مائتي صفحة تقريبا، ونجد في النسخة الفرنسية جزأين ضخمين يلامسان الألف صفحة.. أين ذهب الفرق؟. وهل نستطيع بعربيتنا أن نقلص الأصل الأجنبي الى أكثر من ثلثيه.. نفس الأمر بالنسبة لرواية تولتسوي «الحرب والسلام»، ولديكنز في قصة «مدينتين»، ولزولا في «جيرمينال»، وقس على ذلك. وعندما نشرع في القراءة، نفاجأ بأن فصولا بأكملها تم اقتطاعها.. وفقرات ربما استعصت ترجمتها على المترجم أو بإيعاز من الناشر. لعل هذا الناشر يعي وعيا تاما كسل القارئ العربي فيبتر الأصل بترا، ويكتفي بالأحداث الهامة في الرواية.. متجاهلا ، عن وعي وسبق إصرار، قدرة المؤلف الفنية ومغازلته للصور البلاغية الغنية بالدلالات التي تصاحب الحدث.. ربما. يحدث أيضا أن نعثر على ترجمة من لغة أخرى لكاتب أجنبي فاز بجائزة ما، أياما بعد حصوله على الجائزة، فتكتشف وأنت تقرأ العمل أن هناك فرقا جليا بين أسلوب فصول الرواية.. مما يجعلك تعتقد عن حق أن المترجم الذي وضع اسمه على غلاف الرواية شغل لهذا العمل مجموعة من تلامذته ومنح لكل منهم فصلا. لعله نظرا لثقته في كفاءتهم، لم يراجع ما كتبوه أو لعله راجع وغض الطرف ما دامت الرواية ستباع بفضل شهرة كاتبها الأصلي. إذا قرأت رواية الكاتب التركي أورهان باموق «ثلج» الصادرة عن منشورات الجمل، والمترجمة من طرف مترجم فذ اسمه عبد القادر عبد اللي، تصبح منشغلا بتصحيح اللغة رغم فتنة النص. فهل تمت مراجعة هذه الرواية؟ وهل ترجمها فعلا عبد القادر عبد اللي بنفسه؟ ظاهرة أخرى يصعب أن تجد لها تبريرا.. مثلا سلسلة «الألف كتاب» التي كانت تشرف عليها سيدة مصر الأولى سوزان مبارك. قد تجد ما يثير استغرابك ربما رغبة في إدراك الألف عدد.. اقرأ مثلا ديوان نيرودا «عشرون قصة حب» الصادر في هذه السلسلة، وستلاحظ الترجمة الحرفية لقصائد نيرودا.. ونحن نعلم أن الشعر هو أبعد ما يمكن ممارسة الترجمة الحرفية عليه. 4 بكل اعتزاز أرى أن المترجم المغربي أكثر حرصا على إنتاج ترجمة مقنعة، لعلها أحيانا في جماليتها تتجاوز النص الأصلي. المغربي لا يلخص. لا يقضم من الرواية فصولا.. لا يخادع القارئ، بل ينتج نصا يمكن لنا أن ننعته بإبداع ثان. وهذا ما يمكن لمسه في أعمال – على سبيل المثال لا الحصر – عبد الكبير الشرقاوي، سعيد بوكرامي، محمد جليد، نصر الدين شكير، وعبد الحميد الغرباوي..بين هذه الأسماء اسمان معروفان بإبداعاتهما قبل انشغالهما بالترجمة. أخص بالذكر سعيد بوكرامي الذي ترجم عددا لا يستهان به من الروايات، آخرها عمل ألكسندر دوما «الفرسان الثلاثة» في جزأين.. لا حذف ولا اختزال.. بل ترجمة كاملة، وعبد الحميد الغرباوي الذي ترجم «الخيميائي» لباولو كويليو، ومؤخرا سلسلة نصوص قصصية لكي موباسان، ومحمد جليد الذي ينهمك انهماكا في نقل أعمال جيلبير سينويه الى العربية بنفس عربي قح لا تشم فيه رائحة الآخر.. وشكير نصر الدين الذي أقبل من ضمن ما أقبل عليه، على نقل «جيرمينال» إلى العربية.. دائما دون أن يشعر القارئ بأن العمل مترجم.. أضيف وأود من القارئ هنا أن يقارن بين ترجمة رواية «الغريب» لألبير كامو لعايدة مطرجي إدريس وترجمة محمد آيت حنا.. كلما كان للمترجم حس أدبي، أو كان مبدعا بدوره، تتسع رقعة إبداعه لنرى في الترجمة عملا آخر هو وليس هو.. هناك أيضا مبارك لمرابط الذي استشرف فوز «أني أرنو» بجائزة نوبل للآداب وترجم عملها الرائد.. بسنوات. مبارك لم يكتف بالترجمة ،بل بذل مجهودا استثنائيا في شرح الخصوصيات الفرنسية، تاريخية كانت أو اجتماعية، ومنحنا ترجمة لذيذة. ثم عندنا كاتب عشق ترجمة القصة والرواية الإسبانية والبرتغالية والبرازيلية ،وجعل منها هم حياته وبها أصبح أغزر مترجم في المغرب. تشهد بذلك أعماله الكثيرة التي ظهرت والتي في طريقها إلى الظهور.. أعمال سعيد بنعبد الواحد تكاد تكون عصية على العد، وحتى على مقاومة كسل القراءة ..عوالم أمريكا اللاتينية وأوربا نعيشها معه معجبين لا بما ينجز وحسب، بل بقدرته على التعامل مع هذا الكم الوفير، والأعمال الطويلة التي تلامس السبعمائة صفحة..أكاد أجزم أنه يترجم حتى وهو نائم.. ما رأيكم؟