تملك الأمم مقومات العيش في ذاتها، في قوة أبنائها واستنارة أجيالها الذين يتعاقبون على حمل المشعل، لتبقى الأمة حية وفاعلة تقاوم وتتجاوز مسببات الانهيار والفناء والتلاشي بين الأمم. هذه المسببات التي تبقى متعددة ومتنوعة بل ومتشابكة إلا أنها ليست عصية على التحديد والإجمال، فواقع امتنا ينبئ بوقوعها في ثلاث آفات واختلالات محددة وواضحة وهي كفيلة بأن تكون مسببات قاتلة تنخر الأمة وتسير بها نحو المجهول، إنه الثالوث القاتل الذي يجب الانتباه إليه ورصده ووصده عبر محاربته، والعمل على نشر الوعي به وبأخطاره ويتمحور في: أولا : آفة الجهل: هذا الجهل الذي قد تتعدد أوجهه وتمثلاته في المجتمع، فالجهل بحقائق الأشياء وسياقاتها المتحكمة في وجودها هو اكبر الطامات وأقساها على وعي الأمة. إن الجهل يقوم بعملية تجميد للمبادرات والأفكار البناءة والواعدة، بل يقوم بعملية اغتيال في حقها ليكون بذلك قد أعلن الحرب على أفضل ما لدى الإنسان. إن الجهل في حقيقته ضربان، ضرب يمكن الاصطلاح عليه بجهل العوام وضرب آخر هو ضرب الخواص أو النخبة المثقفة. - في النوع الأول نجد هذا الجهل قرين الأمية لا ينفك عنها، حيث يحصل لدى الإنسان الأمي الجهل بمجمل الأمور، وتقف أميته عائقا أمام إدراكه لحقيقة الأشياء فيقف أمامها موقف المعادي في غالب الأحيان، وكما قيل الناس أعداء ما يجهلون. إلا انه ومع ظهور وسائل الإعلام السمعية منها والبصرية أصبح الوعي بحقيقة الأشياء يجد مكانه حتى في عقول الأميين لتبدأ بذلك الهوة تأخذ في التباعد فاصلة بين المفهومين الجهل والأمية، فقد أصبحنا اليوم نلمس في هذه الفئات استنارة ووعيا بحقيقة الأشياء بما يجعلنا نكتشف الهوة التي أخذت تتسع بين الجهل والأمية، هذا ليس انتصارا للأمية – معاذ الله- لأن الأمي في أسمى وعيه فهو به ضرب من الجهل، كونه لم يدرك حقيقة وأهمية العلم والتعلم ورضي بأن يبقى أميا مع العلم أن ظروف التعلم أصبحت أكثر يسرا ومتاحة أمام الجميع، وحتى إن أدرك أهمية العلم والتعلم فإنه تعوزه الإرادة والعزيمة نحو التغيير وهذه الآفة الثالثة التي تتخبط فيها أمتنا. -في المقابل نجد ضربا من جهل آخر لا يلتفت إليه كثيرا مع أهميته وقوته في الفتك بوعي المجتمع وتبصره، وهو جهل الخواص أو جهل النخبة المثقفة. فهذا النوع من الجهل يبقى أكثر تعقيدا وأقوى أثرا، تتسع دائرته في محيط عمل هذه النخب، كونه جهلا مركبا أو مكعبا كما يسميه الأستاذ المهدي المنجرة حفظه الله. فالإنسان قد يستقيم الأمر معه إذا أدرك جهله فيروم نحو تصويبه اعتبارا من معطى نفسي سيكولوجي لدى الإنسان غير المثقف ينزع به نحو الإحساس بالنقص والضعف في هذا الجانب، لكن المثقف قد يختلف الأمر معه فهو يعيش نشوة الإحساس بالقدرة على الإلمام بالمعارف والعلوم تجعل منه عصيا على القبول أو حتى على تغيير قناعاته، فقد يسمع حقائق واضحة وجلية وبدل أن يقف عندها وقفة تأمل ويراجع ذاته بالنقد يتجه ذهنه مباشرة إلى الدفاع والذود عن أفكاره دونما التفاتة أو قيام بنقد ذاتي. ثانيا: ضعف الذاكرة، هذه الذاكرة التي تعاني اليوم من وكسة تنبئ بالهوان والضعف، لدورها المركزي في النهوض الحضاري للأمة . فقوة الذاكرة وحضورها لدى الأجيال يؤسس للمستقبل ويضيء جوانبه المظلمة والمكفهرة، ويضع الأرضية الصلبة للحراك الحضاري، لتبقى بذلك منارة تضيء لنا المستقبل. فهي تحتفظ لنا بالكثير والغني من العبر والعضات التي خرجت بها الأمة عبر تاريخها من التجارب والأحداث السابقة. إن الذاكرة هي تلك التراكمات التي لا تجعلنا نبدأ التجربة من الصفر، لذا فبقوة الذاكرة ورسوخها نعرف الصديق من العدو ونعرف كيف صنع الماضي الحاضر وبها نتلمس صناعة المستقبل الذي نريد. كل الأمم تمر بلحظات ضعف وخبو وهجها ونفوذها، بل قد تقع في أيدي الغزاة، فيسلبوا الديار والقفار والوديان والبحار وكل ما طالت أيديهم وقدروا عليه. كل ذلك هين أمام أن تسلب الذاكرة، أن يسلبوا وعيك بتاريخك، وعيك بأمتك، فأنت بذلك أشبه ما تكون بقشة في مهب الريح تسوقها وتتنازعها تيارات جارفة في ما بينها لتجد نفسك في الأخير منعدم الوجود لا أثر يدل عليك. فمن الغباء أن نعلن القطيعة مع تاريخنا سواء القريب منه أو البعيد، وسواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد فتاريخنا وتاريخ الأمم من قبلنا معالم تمنح للعقل والوجدان نشاطه وتجعله يخطو خطى واعية متبصرة، نحو الأهداف المنشودة. لكن إذا كنا أمة ذات تاريخ تليد لها فيه العبر، هل لهذه الأمة ذاكرة؟ ذاكرة قوية تجعل تاريخها حاضرا بقوة، لا صفحات منسية لا يتذكرها أحد؟. غياب الإرادة: والمقصود هنا غياب تلك القدرة على الحراك النفسي والذهني الذي يدفعنا بقوة إلى العلم والعمل، من أجل التغيير إلى الأفضل ومواجهة كل الصعاب والمعوقات وصولا إلى الأهداف المبتغاة. فالإرادة هي النتيجة المرجوة من كل ما ذكر، هذه الإرادة التي تزيد قوتها بازدياد إيمان المرء بضرورة الوجود، ذلك الوجود النوعي المؤثر لا ذلك الوجود الكمي التبعي المتأثر.