لم يختر من مقطع أغنية «راحلة» للفنان الراحل محمد الحياني سوى مقطع «وأنت بعيدة، لمن يا إلهة فني، لمن سأغني...». هذا المقطع الغنائي لا يفارق شفتي «عبد الحي» طيلة اليوم، بعد وفاة والدته «لالة عبوش»، التي كانت قلب عبد الحي النابض ودموعه التي لا تنسكب من عينيه إلا وهو في حضنها. رفض الزواج حبا في أمه الكل يعرف أن القاضي عبد الحي هو «الفتى» المدلل، و«الطفل» الذي لا يفارق أمه حتى في النوم، ومن أجلها رفض الزواج، ولم يتقبل أن يكون في قلبه مكان لامرأة أخرى سوى أمه العزيزة عليه بشكل جنوني. فقد كان الجميع يلقبه داخل الحي الشعبي الذي يسكن فيه ب«عبد الحي ولد مو»، على اعتبار أن العلاقة الحميمية التي تربطه بوالدته تفوق في حرارتها علاقة والدته بأخته سعيدة وأخيه الركراكي. درس عبد الحي القانون بكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية بمراكش، حيث كان يعرف بين أوساط أبناء مدينته وداخل فصله بأنه نموذج للتفوق الدراسي والالتزام الأخلاقي، فهو لم يكن يحضر مجالس اللهو و«النشاط» مع زملائه في الفصل، إذ في الوقت الذي يتوجه زملاؤه في الشعبة الدراسية إلى لعب مباراة في كرة القدم وحضور حفل فني، كان عبد الحي يتوجه صوب خزانة الكتب، فكان يلتهم كل المعارف، سواء المتعلقة بتخصصه القانوني أو المواضيع المتعلقة بالشريعة الإسلامية والأديان السماوية، وهكذا كان العديد من زملائه يتفادون إحراج صديقهم عبد الحي بالحديث في مواضيع وقضايا لا يفضلها، أو دعوته لمناسبة معينة لأنهم يعرفون موقفه مسبقا. ومما كان يزيد من معاناة وانطوائية عبد الحي هو بُعده عن والدته «لالة عبوش»، التي تركها في مدينة آسفي وسافر إلى مدينة مراكش من أجل إتمام دراسته الجامعية، إذ لم يكن يمر شهر كامل حتى يسافر صوب مدينته التي نسخ معها علاقة كالتي تطبع علاقته بوالدته. يروي أحد جيران أسرة عبد الحي، كيف أنه كان يذرف الدموع، عندما يحين وقت رحيله صوب مدينة مراكش، فقد كان لا يريد أن يفترق عن والدته. جاء وقت الاقتراب من «لالة عبوش» حصل عبد الحي على شهادة الإجازة في شعبة القانون الخاص، وأتم دراسته بعد ذلك وحصل على دبلوم الدراسات المعمقة، ليتجه صوب مدينة آسفي من أجل رأب الصدع، الذي طال أمده بينه وبين أمه الحنون. في مدينة «القرش» و«السردين»، كما يحلو للبعض تسميتها، سيخضع عبد الحي لتدريب بمحكمة الاستئناف بالمدينة، حيث كان مواظبا على الحضور في الوقت المحدد للمحكمة، حتى في أوقات الحر الشديد أو الأمطار الغزيرة والرياح القوية التي تضرب المدينة خلال فصل الشتاء. وأهم ما كان يميز ابن ال 27 سنة، حينما كان يجري تدريبا بالمحكمة هو جديته في العمل وكفاءته العالية في بعض التخصصات، إضافة إلى استقامته وأخلاقه العالية. لكن أهم رأس مال كان يملكه عبد الحي في تلك الفترة هو قربه من مصدر الحنان والاطمئنان. الطريق نحو القضاء بعد اجتهاد كبير وانضباط، انفتح باب الفرج أمام عبد الحي كي يسعد أمه التي طالما انتظرت بشوق كبير أن ترى فلذة كبدها قاضيا كبيرا يرفع رأسها أمام الجيران والمعارف، ويكون نموذجا للقاضي، الذي ينصف المظلومين ويعاقب الظالمين، ويعيد الحقوق إلى أهلها. في أحد الأيام سيُخبر عبد الحي بفتح الباب للتباري على مراتب عالية في سلك القضاء. وكما هو الشأن بالنسبة للعديد من طلبة هذا التخصص، تقدم عبد الحي للمباراة واجتاز الامتحان بمعدل عال جدا، بهر المشرفين على المباراة، فما كان منهم إلا أن تمت مكافأته على ذلك بتعيينه مستشارا لأحد القضاة وبالمدينة نفسها التي يقطن بها. بعد حوالي خمس سنوات سيرتقي عبد الحي في مدارج سلك القضاء إلى أن وصل إلى رتبة قاض، حينها سيتحقق حلم الأسرة الفقيرة، التي كابدت قساوة العيش، وتوفير لقمة عيش بكد واجتهاد، بعيدا عن طرق أبواب الحرام. حينها سيعتني عبد الحي بوالدته وإخوانه، ويوفر لهم كل متطلباتهم، التي حرموا منها في غياب معيل، بعد وفاة والدهم الذي لقي حتفه وسط البحر، بعدما كان يبحث عن لقمة عيش لأسرته وسط البحر الهائج. المرض يتسرب ل«لالة عبوش» بدأ الوضع الاجتماعي لأسرة عبد الحي يتحسن شيئا فشيئا، لكن القدر كان يخبئ ابتلاء آخر لعبد الحي وإخوته. وعكة صحية ألمت ب »لالة عبوش»، أدت إلى نقلها على وجه السرعة إلى مستشفى محمد الخامس بالمدينة، وبعد فحوصات دقيقة أجريت لها صدم الجميع، وتحديدا عبد الحي عندما أخبرهم الدكتور بإصابة والدتهم بداء السرطان، وأنه بلغ مراحل متقدمة، أضحى معه العلاج بشكل نهائي صعبا. هذا »الزلزال» أحدث رجة في بيت عبد الحي، وخلخل عواطف الفتى المدلل. منذ ذلك اليوم أضحت حياة عبد الحي مضطربة، لكن مرض »لالة عبوش» لم يمنع عبد الحي من الاهتمام بعمله ودراسة الملفات المرفوعة إليه بدقة فائقة. هذه الدقة ستجعل عبد الحي ينقل غير ما مرة إلى قسم المستعجلات وأحيانا غرفة الإنعاش المركزة، بعد إجهاد نفسه في دراسة العديد من الملفات، حيث كان عندما ينتهي من العمل بالمحكمة يحمل عددا من الملفات المهمة والخطيرة إلى المنزل، حيث يعتكف على دراستها والتدقيق فيها قبل أن يبت فيها. دراسة هذه الملفات كانت تبدأ من التاسعة ليلا إلى الرابعة أو الثالثة صباحا، مما جعلت حالته الصحية تتدهور بشكل كبير، حتى أصبح من ضحايا مرض الأرق الشديد، و«الضغط»، والاضطراب العصبي،... لكن هذا الوضع لم يمنع عبد الحي من الاهتمام بوالدته والعناية بصحتها. هول الصدمة ما يخبئه القدر هذه المرة شديد، وسيحول حياة عبد الحي إلى جحيم، إذ ماتت والدته بعدما فعل فيها داء السرطان فعلته. لكن موت «لالة عبوش» سيفعل أيضا في عبد الحي فعلته، إذ لم يتمالك القاضي نفسه، وانهار من هول الصدمة، التي لم يكن وقعها شديد على باقي أفراد الأسرة، لكنها أفقدت عبد الحي عقله، ومهنته السامية، وكل ما بناه واجتهد من أجله. بيت صغير وإعانات الجيران ضاع كل شيء كان يملكه عبد الحي، فلم يعد ينعم بحنان الأم، ولا بنعيم الدخل الذي كان يتقاضاه من مهنته. فقد أضحى تائها في الأحياء يغني أغنية «راحلة»، ويردد: و«أنت بعيدة، لمن يا إلهة فني، لمن سأغنى...». لم يعد عبد الحي يملك قوت يومه، اللهم الوجبات اليومية التي يقدمها له بعض الجيران وأبناء الحي، الذين يشفقون عليه، نظرا لوضعه وطيبوبته التي يتميز بها وسط الحي، فهو كثير البكاء قليل الضحك، قليل الكلام، كثير النظرات الثاقبة، شديد الخوف من كل من يقترب منه، إلا من بعض الوجوه التي ألفها من نساء الحي، اللواتي يشكلن بالنسبة له علامة من علامات الأنوثة التي طبعت والدته، ونموذجا للحنان والرحمة التي كانت تمنحهما له والدته »لالة عبوش»، بعدما تخلى عنه إخوته وأصدقاؤه، ولم يعد له سوى ربه يتكفل به، وذوي القلوب الرحيمة يمنون عليه ببعض المساعدات.