قليله هي الشخصيات التي تصنع التاريخ.. وقليلة هي الشخصيات التي تظل راسخة في القلب والوجدان، وقد يكون ياسر عرفات «أبو عمار» من أوائل الشخصيات الكاريزمية القائدة عالميا والتي حملت شعلة صناعة التاريخ ولم تكتف بالسير في ركبه، هذا هو ياسر عرفات الذي صنع ثورة وحول شعبا من «كارت التموين» إلى شعب مناضل، وحول قضية شعبه من مجرد أوراق محترقة إلى وقائع حقيقية ملموسة لتصبح قضية العالم كله... بزيه الزيتي القاتم وكوفيته الفلسطينية التي لم يتخل عنها في أي محفل من المحافل، وبشخصيته الكاريزمية، شكل ياسر عرفات، الذي أصبح رئيسا منتخبا للسلطة الفلسطينية، رمزا للنضال الفلسطيني منذ أكثر من أربعة عقود، وقد برهن عرفات على قدرة غير عادية للخروج من أشد الأوضاع خطورة، ولأن الجبل لا تهزه الرياح، فقد أعلنها أبو عمار مدوية ليسمعها القاصي قبل الداني «شهيداً شهيداً شهيداً هذا دربي واختياري منذ عقود طويلة». «ستمنعون الشمس والهواء عني لن أتنازل، ستحجبون عني الدواء والغذاء، الله خلقني ولن ينساني، القدس مطلبي.. وركعة في المسجد الأقصى المبارك غايتي التي لا تناظرها غاية.. الطريق طويل.. لكن النفس أطول والهجمة الشرسة تقابلها إرادة حديدية أنتجتها سنوات من اللجوء والتشرد...». في هذا الكتاب يروي بسام أبو شريف (أحد القيادات التاريخية في حركة القوميين العرب، ثم في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي انتخبته عضواً لمكتبها السياسي عام 1972، وأثناء زيارة لمصر برفقة ياسر عرفات صافح أبو شريف الرئيس محمد حسني مبارك، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يصافح فيها قيادي من الجبهة الشعبية رئيساً مصرياً منذ توقيع اتفاق كامب ديفيد، تلك المصافحة التاريخية التي قصمت ظهر البعير وعرت العلاقة الرسمية مع رفاقه، وتسببت في التحاقه بياسر عرفات كمستشار له في عام 1987، وجعلته مقرباً من الزعيم الأسطوري للشعب الفلسطيني، وقريباً إليه لدرجة أتاحت له تأليف هذا الكتاب الذي يحمل عنوان (ياسر عرفات)، الصادر أخيرا عن دار الريس للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت، لبنان 2009، والكتاب مقاربة على عدة مستويات ومن زوايا مختلفة، لشخصية تماهت مع شعبها، واندمجت مع قضيته بشكل غير مسبوق، إنه رواية تاريخية مشوقة لحقيقة سمت إلى مرتبة الأسطورة، حقيقة أسطورية اسمها: ياسر عرفات! بدأت الطائرة بالهبوط في مطار ستوكهولم. تخطينا الغيوم هبوطا لتبدأ معالم الأرض تتضح. كان الجميع ينظر من خلال النوافذ إلى أرض السويدالبيضاء. بيضاء في كل مكان تكسوه الثلوج . مزيد من الاقتراب نحو الأرض. بدت لنا المدارج التي عريت من ثلوجها لتتمكن الطائرات من الهبوط. بضع دقائق مرت قبل ارتطام دواليب الطائرة بمدرج المطار ثم هرولت بنعومة نحو موقع تقودها إليه عربة تكسوها كشافات حمراء وصفراء. قادتنا العربة نحو ركن بعيد تقف عند حافته مروحيتان، لا بل ثلاث، وهرول مستقبلون نحو سلم الطائرة يرتعشون من البرد. تحية سريعة وسلام سريع وكلام سريع، فيما هرول الجميع نحو المروحيات. كان البرد شديدا، ولم نكن قد احتطنا لذلك، فلم نكن نعرف إلى أين نتوجه عندما دعينا لمرافقة الرئيس في تلك الزيارة. دخلنا إلى المروحيات بأسرع ما يمكننا لتجنب البرد القارس، وبدأت محركات المروحية الأولى بالدوران، دون أن تنتظر المروحيتين الأخريين، وانطلقت. كانت المناظر خلابة، وتحاشت المروحية الطيران فوق وسط مدينة ستوكهولم، لكننا كنا نراها. يا لها من مدينة ضخمة وجميلة! كان من الواضح أننا نتجه إلى مكان في ضواحي ستوكهولم، خارج عن نطاق المدينة المزدحم، وهكذا كان. فقد هبطت المروحية بعد نصف ساعة في باحة قصر قديم - قلعة قديمة. كانت إحدى قلاع ملوك السويد القديمة.حجارتها قاتمة، يضيئها الثلج الذي يكسوها هنا وهناك، حدائقها يغطيها الثلج إلا بعض ورودها التي كانت أعناقها فوق الثلوج أو رؤوس أشجار عالية كانت ربما. تم الترحيب بنا. وبسرعة مماثلة لسرعة صعودنا للمروحية، أسرعنا نحو بوابة القصر. استقبال لطيف وأنيق يحف به دفئان: دفء المستقبلين ودفء القصر (القلعة) وتوجه كل منا إلى الغرفة المخصصة له على أن نلتقي في جناح الرئيس ياسر عرفات بعد عشر دقائق. التأم شمل الوفد في جناح الرئيس ودار حديث حول ما يمكن أن يبحث والفوائد السياسية من مثل هذا اللقاء، وعلق الرئيس بالقول: «لن يكون هذا اللقاء لقاء عاديا، فالسويد ترمي بثقلها لإنجاح هذا اللقاء ولا يمكن لوفد من اليهود الأمريكيين أن يلتقي بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية دون إبلاغ وزارة الخارجية الأمريكية، لذلك علينا إعطاء الاهتمام الشديد لما سيدور البحث حوله، ودعونا لا نستبق الأمور لنرى ماذا يحملون معهم». وما كاد الرئيس ينهي كلامه حتى جاء من يعلمه بأن وزير خارجية السويد وصل للجناح وأنه ينتظر في غرفة الجلوس. نهض الجميع متوجها نحو غرفة الجلوس، وأسرع الرئيس بمصافحة وزير الخارجية، فعرف أعضاء الوفد الذين صافحوه بدورهم. غداء مع قادة يهود أمريكا ارتسمت على وجه الرئيس ابتسامة عريضة وهو ينظر إلى وزير الخارجية وكأنه يقول له: هات ما عندك. تحدث الوزير عن اهتمام السويد بإنجاح هذا اللقاء وأن الهدف هو الخروج ببيان مشترك يدعو إلى حل سياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأن الفكرة مستمدة من البرنامج الجديد الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني في نوفمبر. علق الرئيس قائلا: «بيان مشترك بين منظمة التحرير الفلسطينيةوالسويد؟»، فأجاب الوزير «السويد ترعى هذا اللقاء»، فعلق الرئيس مرة أخرى قائلا: «لكن هذه المجموعة من قادة يهود أمريكا لا تمثل جهة رسمية، فلا هي تمثل الإدارة الأمريكية ولا هي تمثل الحكومة الإسرائيلية». كانت الملاحظة تحمل معاني أبعد من الكلمات، وفهم وزير الخارجية السويدي القصد، فأجاب باقتضاب «سيحضر رئيس الوزراء بعد قليل، وطلب مني أن أبلغك بأنه يريد أن يلتقي بك منفردين»، وكأن الوزير أراد بذلك أن يقول للرئيس ياسر عرفات إن الأمر أهم من مجرد بيان مشترك. وبالفعل اختلى رئيس وزراء السويد بالرئيس ياسر عرفات دقائق ثم خرجا سويا، فدعا رئيس الوزراء الجميع إلى غرفة الطعام. لقد رتب السويديون أن يكون اللقاء الأول على مائدة الغداء، وقد رتبت أماكن الجلوس بطريقة ذكية، حيث يختلط الجميع لتبادل الحديث والتعرف على بعضهم البعض. وقد كان وصولنا إلى قاعة الطعام قبل وصول وفد اليهود الأمريكيين. فتحت الأبواب بعد ثوان معدودات ودخل الوفد الأمريكي برفقة وزير الخارجية السويدي. تصافح الجميع ثم جلسوا إلى مائدة الطعام، ودار كلام عام حول الوضع السياسي وضرورة إيجاد حل للصراع. وقبل الانتهاء من وجبة الغداء اقترح رئيس وزراء السويد أن تلتقي مجموعة قليلة من الطرفين في غرفة الاجتماعات، للبدء بمناقشة الأمور بطريقة أكثر خصوصية وعملية.وتم ذلك. انسحب الباقون نحو غرفة الجلوس يتحدثون في أمور مختلفة. أربعة من وفد اليهود الأمريكيين برئاسة السيدة ريتا هاوزر جلسوا قبالة الرئيس ياسر عرفات، يحيط به ثلاثة من أعضاء الوفد: ياسر عبد ربه ومحمود درويش وأنا. راحت ريتا هاوزر تمتدح ورقة العمل السابقة وتقول إنها صالحة للإعلان، فأجاب الرئيس مرحبا بالنقاش، وقال: «هنالك بعض النقاط بحاجة لتعديلات، لذلك أقترح أن تصاغ هذه الملاحظات وتدرس». وانسحب الرئيس من الجلسة نحو جناحه فيما بقي البعض لدراسة الملاحظات. وقد كلف اليهود الأمريكيون السيدة دورا كاس من اتحاد النساء اليهوديات الأمريكيات بصياغة تلك الملاحظات بعد مناقشتها مع الفلسطينيين. كان التعديل أساسا ينصب على إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأرض التي احتلتها إسرائيل عام 1967، وحملت الصياغة للرئيس الذي أبدى مزيدا من الملاحظات باتجاه إزالة أي لبس حول هدف إقامة الدولة الفلسطينية وسيادتها. وعدنا مرة أخرى لجلسة الصياغة. في تلك اللحظة دبت حركة غير عادية أمام جناح الرئيس ياسر عرفات. كانت هناك زيارة مفاجئة من رئيس وزراء السويد ووزير خارجيته للرئيس في جناحه. وقد أبلغنا الرئيس لاحقا بأن وزير خارجية الولاياتالمتحدة شولتز أبلغ السويديين بأن هنالك اهتماما كبيرا بهذا اللقاء، وأنه إذا تم الاتفاق ستدرسه الولاياتالمتحدة لتقرر فيما إذا كان الإعلان يمهد الطريق أمام اعتراف الولاياتالمتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبدء حوار جدي معها أم لا .اختلف الأمر الآن. ثلاثة شروط أمريكية للاعتراف بمنظمة التحرير استنفر الرئيس قواه السياسية، فهذه أول مرة تعرض فيها الولاياتالمتحدة عبر دولة كالسويد اتفاقا سياسيا. وكان رئيس وزراء السويد قد حمل معه رسالة من «شولتز» تتضمن ثلاث نقاط يجب على الإعلان أن يتضمنها، وهي نبذ العنف والاعتراف بحق إسرائيل بالعيش وراء حدود آمنة ومعترف بها، وبقرارات الشرعية الدولية. كان من الواضح جدا أن العمل تحول إلى اتصالات سياسية جدية وغاية في الأهمية، ولم يُضع الرئيس الوقت، إذ جمع الوفد وطلب صياغة رسالة فورية ليحملها رئيس وزراء السويد إلى الإدارة الأمريكية تشرح برنامجنا وأهدافنا واستعدادنا للسلام على أساس الشرعية الدولية وقبولنا ضمن هذا الإطار بالنقاط الأمريكية الثلاث. وجاء الرد الذي أثار الدهشة سريعا! إذ لم يتضمن رد الوزير «شولتز» أي إشارات ترفض فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة ولا ملاحظات حول مقدمة الرسالة، التي حددت أن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية تحمل صفة الحكومة الفلسطينية المؤقتة إلى أن تقوم الدولة الفلسطينية المستقلة، لكنها طلبت أن يركز الرئيس ياسر عرفات في مؤتمر صحافي على البنود الثلاثة، التي حملها رئيس وزراء السويد من الإدارة الأمريكية، وتضمنت الرسالة وعدا بأنه في حال إعلان الرئيس ياسر عرفات في مؤتمر صحافي في ستوكهولم هذه البنود الثلاثة، فإن وزير الخارجية الأمريكي جورج شولتز سيعلن بعد ذلك بنصف ساعة اعتراف الولاياتالمتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبدء حوار بناء معها لإقامة السلام في الشرق الأوسط. تبين بوضوح ماذا كان يقصد الرئيس ياسر عرفات عندما قال لوزير الخارجية في اللقاء الأول: «إعلان مشترك مع السويد ؟»، فالمجموعة الأمريكية لا تمثل حكومة إسرائيل أو الإدارة الأمريكية، وكأنه كان يطلب منه العمل علي إعلان مشترك مع هذه الجهات، وها هي الفرصة تلوح لإعلان متزامن بين منظمة التحرير الفلسطينية والإدارة الأمريكية. لاحقا، وفي جناح الرئيس، دار نقاش هام كان واضحا منه أن الرئيس يريد أن يلتقط الفرصة وأن يكون مرناً لتبدأ لأول مرة علاقة رسمية بين (م.ت.ف) والإدارة الأمريكية. إنها أولى ثمرة من ثمرات البرنامج السياسي الجديد الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني في 15 نوفمبر من العام 1988. وهنا طلب الرئيس من ياسر عبد ربه أن يجري اتصالات مع أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لكن شرح التفاصيل وأهمية التطورات لم يكن ممكنا. تردد الرئيس، فقد كان حريصا على أن تنال موافقة الأغلبية في اللجنة التنفيذية، حفاظا على ديمقراطية اتخاذ القرار. وفجأة لمعت عيناه بالفكرة، وقال: «لماذا لا نعقد مؤتمرا صحافيا الآن وهنا في ستوكهولم؟. يمكننا أن ننهي العمل مع المجموعة الأمريكية ونصدر إعلانا مشتركا، ونفصل بين هذا وبين اعتراف الولاياتالمتحدة بنا، وذلك بإقناعهم أن يكون ذلك في خطابي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي سيعقد بعد أسبوع في الثالث عشر من ديسمبر في جنيف». نالت فكرته استحسانا وتقرر أن نقنع السويديين بذلك (لأنهم كانوا تواقين لعقد المؤتمر الصحافي التاريخي في ستوكهولم)، وتفهم السويديون وجهة النظر وأعلموا بأن خطاب الرئيس أمام الجمعية العمومية سيكون خطابا يطرح مبادرة للسلام. وطلب الرئيس منهم أن يرسلوا وفدا لمتابعة كافة الأمور بيننا وبين الإدارة الأمريكية إلى جنيف، وتم الاحتفال مساء بإصدار إعلان ستوكهولم للسلام بين (م.ت.ف) وقادة المنظمات اليهودية الأمريكية، وكان له تأثير إيجابي ضاغط، وغادرنا عائدين إلى تونس. وهناك (في تونس) نال الرئيس موافقة أغلبية أعضاء اللجنة التنفيذية على تحركه السياسي وعلى إعلان ستوكهولم للسلام، استنادا لبرنامج المجلس الوطني الجديد، وبدأ التحضير لاجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة وشكلت لجنة صياغة الخطاب الذي سيتضمن البنود (الشروط) الأمريكية الثلاثة التي أصر عليها جورج شولتز وزير خارجية أمريكا.