رأينا كيف سقطت بغداد ضحية الخلاف السني-الشيعي. ولعل السؤال الذي يراود الآن القارئ هو: لماذا انقسم المسلمون إلى هذه الدرجة، وكيف صارت الأمة الواحدة شيعا؟ والجواب أن لهذا الوضع التاريخي عللا كثيرة، ولما كان موضوع هذه السلسلة هو التفرق المذهبي خاصة، فأجدني مرغما على الاقتصار خاصة على بيان الأسباب المذهبية للانقسام، دون أن أغفل الإشارة إلى الأسباب الأخرى، لما بين الجميع من التداخل والاتصال الوثيق. وأبدأ بالعامل الخارجي. ونحتاج، لإدراك حجم دوره وحدوده، إلى أن نعرف بالضبط غايات القوى المعادية للإسلام قديما وحديثا. من أهداف خصوم الإسلام شخّص الأستاذ عباس الجيراري الأحوال العامة للمسلمين مع بدء القرن الخامس عشر الهجري، وذكر في ذلك خمسة معطيات، قال: «أما رابع تلك المعطيات، فهو أن خصوم الإسلام، مهما كان اختلافهم في ما بينهم، متفقون على جملة أشياء تتعلق بالعالم الإسلامي، أهمها: - إضعاف الاعتقاد بأن الإسلام رابطة قوية. - الحيلولة دون قيام أي كيان وحدوي يمكن أن يجمع شتات المسلمين، أو حتى العرب، في أية صيغة ممكنة للجمع.. - التبشير بولاءات عقدية وانتماءات مذهبية ملغومة، أقل سلبياتها أنها تبث الفرقة، وتنشر الخصومة، وتحمل الآخذين بها على تبعية فكرية رخيصة.. - إحياء النزعات القبلية والنعرات العنصرية لتكريس فكرة التشتت والتمزق داخل الكيانات الوطنية.» لقد سيطر الاستعمار بالقوة الحربية على بلدان كثيرة من العالم الإسلامي، لكنه «كان يعلم أنه لا بد يوما من أن يُرغم على الجلاء ومغادرة البلاد، لذا عمل بكل جهده وطاقاته ليزرع فيها جميع الوسائل التي تحقق ما يهفو إليه». وذكر الأستاذ يالجن بعض هذه الوسائل، فمنها: فصل الشعوب المسلمة بعضها عن بعض، و»ذلك عن طريق إحياء العصبيات القومية، وإثارة النعرات الشعوبية والإقليمية..»، ومنها أن بعض القوى الكبرى وضع بذورا للخلاف بين الشعوب والدول المسلمة، فتراه يقتطع أرضا من بلد ويعطيها لآخر، أو يضع أرضا بين دولتين، ويغريها بالاستقلال عنهما معا.. فمن ذلك قضية كشمير، ومشاكل الحدود بين الكويت والعراق، وأخرى شبيهة بها بين إيران ودول الخليج... ولم ينج من هذا المخطط الاستعماري أحد، لا سنة ولا شيعة. يقول محمد آل كاشف الغطاء: «قد عرف اليوم حتى الأبكم والأصم من المسلمين أن لكل قطر من الأقطار الإسلامية حوتا من حيتان الغرب، وأفعى من أفاعي الاستعمار فاغرا فاه لالتهام ذلك القطر وما فيه.. أفلا يكفي هذا جامعا للمسلمين، ومؤججا لنار الغيرة والحماس في عزائمهم، أفلا تكون شدة تلك الآلام وآلام تلك الشدة باعثة لهم على الاتحاد وإماتة ما بينهم من الأضغان والأحقاد، وقد قيل: عند الشدائد تذهب الأحقاد؟.. ينسى الكل أو يتناسى عدوهم الصميم الذي هو لهم بالمرصاد، والذي يريد سحق الكل، ومحو الجميع، ويبث بذور الشقاق بينهم ليضرب بعضهم ببعض، وينصب أشراك المكر لصيد الجميع. ولا يسلم المسلمون من هذه الأشراك المبثوثة لهم في كل سبيل حتى يتحدوا عملا لا قولا».. حرص القوى الاستعمارية على ضرب الوحدة الإسلامية وفي هذا يقول شريعتي رحمه الله: «إن ظاهرة القومية (الشوفينية) هي إطار عرقي للجماعات يعمل دائما على تقطيع أوصال الإطار الذي يجمع الأمة عقائديا، وهو ما لجأ إليه الاستعمار الغربي إبان الحرب العالمية الأولى حيث بثّ الأفكار القومية والنزعات الوطنية في نفوس المسلمين، مما سهّل عليه مهمة تدمير العالم الإسلامي من الداخل. وبمجرد أن عادت المشاعر القومية بعد أن قضى عليها الإسلام، وجد المارد الإسلامي العظيم نفسه مفتتا إلى أجزاء ورقع صغيرة متناثرة، بات من السهل على الغول الاستعماري الغربي أن يلتقمها الواحدة بعد الأخرى، ليلفظها على شكل دول إسلامية مجزأة وصغيرة قائمة على أساس قبلي وطائفي ضيق بحكومات عميلة للأجنبي، ناهيك عن المشاكل الحدودية التي زرعها الاستعمار بين تلك الدول كقنابل موقوتة يتاح له تفجيرها وقت شاء.» إن حجم التحدي الأجنبي للأمة كبير، وتخطيطه لإنهاء جميع مظاهر الوحدة بين المسلمين خطير.. لولا أن وجود الأمة -في مجموعها- محفوظ. وهذه الرعاية الإلهية هي التي دفعت الأستاذ الكتاني إلى نحت مصطلح «الأمة الميتاريخية»، يقول في مسألة الوحدة: «وقعت البلاد الإسلامية.. في بداية العصور الحديثة تحت الاحتلال الأجنبي الذي لم يدخر سببا للابتعاد بالمسلمين عن استرجاع وحدتهم إلا اصطنعه، ولم يأل جهدا في القضاء على جامعتهم الدينية واللغوية. وتضافرت الأسباب الموروثة والعوامل الطارئة على وأد الوحدة الإسلامية، لولا أن الله تعالى كتب لهذه الأمة الإسلامية الصمود في وجه التحديات ومغالبة القوى المناوئة..» المذهبية من وسائل تمزيق الوحدة الإسلامية ولا ينبغي -تحت تأثير التطرف في رد نظرية المؤامرة- استبعاد العامل الأجنبي في إثارة المشكلات المذهبية في عالمنا الإسلامي. ذلك أن من أهم وسائل الغرب في إدامة سيطرته الشاملة على مقدرات العالم ومصائره: مراقبة حركة الأفكار، ومحاولة توجيهها. وقد تنبّه الأستاذ مالك بن نبي باكرا إلى هذه المسألة، فقد أنشأت بعض القوى العالمية ما يسميه مالك «مَراقبَ الاستعمار»، ودورها احتكار الأفكار والاستعلام عن حركتها بالعالم الثالث، خاصة المسلم منه، وكذا تحريف الأفكار الصالحة وتحويرها بأساليب ذكية، منها حتى الدفاع الضعيف و»المشبوه» عن الأفكار الجيدة، من ذلك أن البريطانيين طرحوا في أواخر الخمسينيات بطهران مشروع وحدة سموها: كمنويلث إسلامي. يقول المرحوم شمس الدين: «وأعظم وسائله إلى هذا الهدف ضرب وحدتها بتعطيل دور الإسلام التوحيدي في حياتها، وذلك بتفكيك علاقات الوجدان والتاريخ والمصالح ووحدة المصائر بين أقوامها، ثم بتفكيك هذه العلاقات داخل كل قوم، مستخدما عوامل القومية تارة، وعوامل الوطنية تارة، وعوامل المذهبية الطائفية تارة، خالقا المخاوف عند كل فريق من كل فريق. وفي جميع مراحل هذه المؤامرة، يستخدم قوته ونفوذه في بناء أنظمة للمصالح القومية والوطنية والقطرية، والمذهبية الطائفية، ويدفع بكل نظام للمصالح إلى بناء قوته الخاصة التي تعتمد على الغرب، وإلى ربط اقتصاده بالغرب، ثم إلى ربط أمنه واستقراره بالغرب». ويشرح الأستاذ شلق كيف يحول الاستعمار، أو الأجنبي عموما، التميز المذهبي إلى انقسام طائفي، فيقول: «التمايز المذهبي صفة لازمت تاريخ المشرق العربي.. وهذا أمر طبيعي في مجتمع كانت الصراعات الاجتماعية والسياسية تعبر فيه عن نفسها في شعارات دينية. وإذا كان هذا التنوع مصدر تنوع وغنى ثقافي وروحي في المراحل التي كان فيها هذا المجتمع قويا مزدهرا.. فإنه تحول إلى عبء.. في المراحل التي ضعف فيها هذا المجتمع في وجه التحديات الخارجية، وتحول إلى مشكلة دائمة تهدد إمكانيات نهوضه وتشل تقدمه وتبعثر قواه، وتقف حاجزا ضد توحده في مرحلة السيطرة الاستعمارية، وهي المرحلة التي يكون فيها المجتمع أحوج ما يحتاج إلى تلافي جميع عوامل التمزق الداخلي. الطائفية، قبل كل شيء، هي انقسام اجتماعي عمودي يحدث تبعا لتمايزات دينية ومذهبية. فالانقسامات الطائفية تفتت المجتمع إلى مجموعات متراصفة فاقدة للترابط في ما بينها. وفي مراحل السيطرة الاستعمارية تتحول الجماعات الطائفية إلى جماعات متمحورة حول الخارج، وليس حول مركز استقطاب داخلي ضمن المجتمع. وهذا التمحور حول الخارج يشكل أساسا للقرارات السياسية للطوائف ولتضارب هذه القرارات، كما أنه غالبا ما يكون أساسا لنمو انتماءات عصبية وثقافية تتقرر تبعا للعلاقات مع القوى الخارجية المسيطرة، وليس تلبية لحاجة المجتمع إلى وجود متناغم موحد ومستقر. ومن هنا، فإن التمايزات الدينية والمذهبية تتحول في ظل السيطرة الاستعمارية إلى مشكلة انقسام طائفي تهدد وجود المجتمع من أساسه». إنه أمر بالغ الدلالة في موضوعنا هذا أن نتأمل أول خطوة أقدمت عليها أمريكا بمجرد احتلال العراق. لقد قسموا كل شيء: الشعب والسياسة والمناصب.. إلى ثلاثة أطراف: عرب شيعة، وعرب سنة، وكرد. وهي القسمة المسؤولة الآن عن كثير من الكوارث التي أصابت وتصيب البلد. يتبع...