مما لا شك فيه أن دراسة الفتاوى والنوازل الفقهية لم تحظ بعد بما يليق بها من مكانة في الدراسات التاريخية الخاصة بالمغرب والأندلس، رغم المنزلة التي تحتلها بين المصادر التاريخية. ولعل المتتبع لكتب الفتاوى بصفة عامة، قد يتبادر إلى ذهنه للوهلة الأولى أنها تتناول فقط القضايا الدينية والفقهية الصرفة المرتبطة بالعبادات، الحقوق والواجبات، ولكن بعد أن يتناولها الدارس بالاهتمام اللازم، قراءة ودراسة وتمحيصا، فإنه يجد نفسه أمام ثروة علمية خصبة وذخيرة قيِّمة وحية، تقف شاهدة على جانب الحياة اليومية في الأندلس، بل هي سجل شامل لسائر مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والعمرانية وحتى العسكرية والسياسة، وهي دروب تهم الباحث في التاريخ الأندلسي والغرب الإسلامي بصفة عامة، كما أن النوازل تزخر بمعلومات قيِّمة ودقيقة حول واقع الحياة اليومية المعيشة قلما نجدها في أمهات الكتب التاريخية، وبالتالي فإن كتب النوازل أصبحت لذلك تعتبر مصدرا مهما للتاريخ، مما يستوجب من الباحثين إخراجها من رفوف الخزائن والمكتبات لدراستها واستنطاق وثائقها الغنية بالأخبار والمعلومات. والحق أن الصعوبات التي تعترض الباحث في هذا الميدان، كرداءة الخط وركاكة الأسلوب ووجود بعض المصطلحات الفقهية المعقدة وكذا بعض الكلمات المتقطعة التي تفقد الموضوع معناه العام، قد تجعل الباحثين ينصرفون عن الاهتمام بهذه المادة، ولاسيما أن الغوص فيها -كتب النوازل- قد يستغرق وقتا لا يطيقه الباحث الذي يستعجل النتائج، لكن التحلي بالصبر يمكن الباحث قطعا من تجاوز تلك الصعوبات. إن التاريخ الأندلسي يعتبر ذا أهمية كبرى بالنسبة إلى التاريخ العربي الإسلامي الذي يستحق المزيد من الاهتمام والبحث. لا يتسع المجال هنا للحديث عن المجتمع الأندلسي الوسيط من خلال النوازل الفقهية، لكن حسبي أن أقول إن هذه النوازل تكشف بعض الجوانب الغامضة من واقع الحياة الأندلسية، وعلى الأخص عصر الطوائف والمرابطين الذي شهد ظهور وانتشار المدونات النوازلية الكبرى، كمسائل أبي الوليد بن رشد وابن حمدين وابن الحاج وابن عتاب وغيرهم من شيوخ الفتاوى في الأندلس. كما أن هذه الفتاوى أعطت للذي يؤمن إيمانا راسخا ويعتقد بصحة المذهب المالكي، نفسا جديدا لهذا المذهب ودعما قويا من أجل الاستمرار والصمود أمام المذاهب الأخرى الوافدة إلى الأندلس. وثمة ملاحظة أساسية، وهي أن هذه النوازل يغلب عليها طابع الشمولية، بمعنى أنها بطبيعتها تلامس مواضيع متعددة تهم مختلف مظاهر الحياة المجتمعية، كما أنها تعد ثروة لا ينضب معينُها، خاصة في ما يتعلق بالجانبين الاجتماعي والاقتصادي. وثمة ملاحظة أخرى، يجب تسجيلها في هذا المجال، وهي أن فقهاء قرطبة اكتسبوا في مجال الإفتاء شهرة واسعة على صعيد العالم الإسلامي، وليس غريبا أن يحتل هؤلاء تلك المكانة، فقد برعوا في أغوار الفقه المالكي وتضلعوا في باقي علوم عصرهم، وكان صاحب أحكام قرطبة وعميد فقهائها قطبا تتجه إليه الأنظار للاستفتاء وطلب المشورة في النوازل الغنية بالأحداث، التي تهم الفقيه كما تهم المؤرخ والجغرافي وعالم الاجتماع والأديب واللغوي... هشام الأزرق