عندما تنوء أمة من أمم التبعية تحت وزر ديونها فيكاد ريحها يذهب وتتهاوى أركانها الهشة. يلجأ «المجتمع الدولي»، والمقصود طبعا «أمة الزمان»، الولاياتالمتحدةالأمريكية وتوابعها الجاثمون على «طبقية» العصر الأممية، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، إلى إعادة جدولة ديون دول «الطبقات السفلى»، ليس خوفا على مصير هذه الدول ولكنْ على مآل دول الطبقات العليا، والتي رَهَنَ تاريخ تَكَوُّنِها المعاصر وجودَها المزدهرَ والثريَّ بوجود هذه الدول البائسة أو السائرة في طريق البؤس، تماما كما قد يُطيل طبيب مدة «صلاحية استعمال» الأعضاء الحيوية لمحتضِر بِوَصْلِه بآلة التنفس الاصطناعي. تلك حكمة يتوسل بها الغرب كلما شارفت أمم الاحتياط النفطي والبشري والقُمامي على الموت أو الحياة!... والآن وبعد أن شارفت أمم عربية على الحياة، تأخذ سياسة جدولة الديون أشكالا متعددة التجلي، أُحادية الهدف. في تونس ومصر، تُحاول هذه الأمم، الوصية علينا أبد الدهر، أن تجد مداخلَ لها تجعل من ثوراتها المباركة انتعاشة عابرة كانتعاشة المستدين، قبل أن يصرف ما في جيبه ويستعد للعمل في خدمة السيد تسديدا لديونه، وكذلك تفعل في ليبيا بعد تدخل عسكري كان الهدف منه إعادة جدولة الضحايا، فبدل أن يَقضيَ مئات في أسبوع أو أسبوعين، لا بأس من أن تمتد فترة هلاكهم إلى أشهر، رأفة بقلوب المواطنين الغربيين «الرقيقة»، والنتيجة التي تبدو مختلفة، ظاهرا، هي واحدة حقيقة، كما يفعل السرطان الصهيوني في فلسطين، فعندما يقتل مئة في يوم أو يومين، تُسمي منظمات «المجتمع الدولي» وعرب الاحتياط والتبعية ذلك «مجزرة»، ولكن قتل نفس العدد على فترات يُسمى مناوشات وسقوطا لشهيد أو ثلاثة شهداء، يمر عبر شريط أخبار القنوات، مرور اللئام... في البلاد العربية، التي تشهد يقظة لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلا في هذه الدول، التي ألِفت انقلابات تأتي بأنظمة أسوأ من سابقتها، بدأت تتحرك آلية جدولة البؤس، ب«عرض» تغييرات سطحية تريد تصريف البؤس على فترات، بعد تأزم الوضع ومشارفة بُنى المجتمع على الهلاك أو الانفجار، وحتى من «سينجح» منهم في هذا المسعى فسيكون ذلك حين، «فما عاد في الوقت وقت»، كما قال شاعر المقاومة محمود درويش. في بلدنا الطيب، الذي لم يعرف إلا انقلابات فاشلة بحمد الله، لكنه كسائر بلاد الاحتياط والتبعية، عرف الاستبداد والقهر والتعذيب لخلق الله، كما عرف مشارفة أبنائه على الحياة وتَبرمهم من آلة التنفس الاصطناعي، وذلك ظاهر في ما سمي حراكا اصطف فيه المعطلون والمهمشون الممنوعون من حقهم في المطالبة بمستقبل لأبنائهم، يكونون فيه مواطنين لا خدما لعائلات تحتكر المال والسلطة والأرض، بدعوى شرعيات مزيفة ومُستهلكة. وتعرف بلاد المغرب، كسائر بلاد اليقظات المبارَكة، محاولات لإعادة جدولة البؤس باقتراح إصلاحات سطحية أو في غير محلها، تصريفا للبؤس وتأجيلا للحياة. «الدستور المنتظر» يريد توسيع صلاحيات بلا ضمانات للتطبيق، ومن السذاجة القول إن الضمانات ستكون في بنود الدستور، ذلك أنه من طبيعة مختلفة ومحلها يقع خارج صفحاته، فالدستور القائم لا ينص على أن بإمكان صديق للملك أن يتحكم، وبهذه الصفة، في الداخلية والقضاء حتى بدون منصب في الحكومة. كما أنه لا ينص على أن من حق وزير تهديد رجل أمن في الشارع العام ومنع تطبيق القانون على ابنه، لأنه وزير، والدستور القائم لا ينص على أن من حق الوزير الأول أن يُحَوِّل الحكومة إلى «شركة» يُوزع فيها الوظائف على عائلته الأقربين أو أن ينتقل من متهم في قضية هائلة، هي «فضيحة النجاة»، إلى وزير بدون حقيبة، ثم إلى وزير أول. الخطوة الأولى في طريق الإصلاح، كما سبق أن كتبت وأعيد، هي محاسبة المفسدين وحل حكومة هي جزء من المشكلة، ومن مهازل هذه «الإصلاحات» أن هذه الحكومة المشكَّلة هي الطرف المُحاوَر في مضمون هذه الإصلاحات، بجلوس نقابات «باعت فينا واشترت» إليها، للحديث عن تسويات لا نشك لحظة في أنها إعادة لجدولة البؤس في هذا البلد. والذي يدَّعي أن الشعب كله فاسد ومرتش إنما يقول، من حيث لا يدري، أنْ لا أحد مسؤول، كما أنه يتجاهل أو «يستهين» بنفوذ وسلطة الملك. قبل سنوات، لفت انتباهي عنوان غريب في «مختارات من دفاتر السجن»، لمؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي وأحد أهم «مجتهدي» الماركسية، أنطونيو غرامشي، كان العنوان هو «خرافة القندس» (Antonio Gramsci: tr Quintin Hoare: Selections from the Prison Notebooks 1978 p 223)، وحاصل الخرافة أن «حيوان القندس (وهو حيوان من القوارض، يشبه القنفد) ولكي يسلم من مصايد المتربصين به لاصطياده من أجل استخراج دواء من خصيتيه، قام بخصي نفسه»، أي أنه تخلّص من فحولته ومن مستقبل نوعه وما يتميز به بين باقي القوارض، مما تحمله خصيتاه من نفع، لأجل سلامته، فاختار سبيل الانقراض وفقدان القيمة من أجل حياته العابرة وسلامته الواهمة. لا أتحدث، طبعا، عن حيوان القندس، بعد عن سرد الخرافة، ولكن عن كل الذين اختاروا وضع قيمهم ومبادئهم في ثلاجات، من أحزاب ومثقفين، واختاروا السلامة الواهمة والحياة العابرة والتافهة في آن، هربا من «الصيادين»، ظنا منهم أن بإمكانهم الرجوع إلى تلك القيم والمبادئ في الوقت المناسب، ناسين أو متناسين أن هذه القيم والمبادئ ليست ملابس لتوضع في دولاب إلى وقت الحاجة ،كما أنها ليست طعاما يحفظ في ثلاجة، وما تلك الأقيسة سوى استعارات تبريرية للهمم الضعيفة والنفوس الوصولية، لأن القيم والمبادئ هي الحياة، والحياة تنفر من «الثلاجات» والدواليب... على أصدقاء الملك وحكومة «القنادس»، التي باعتنا وباعت مبادئها في حزمة واحدة، أن يرفعوا أيديهم عن حاضر ومستقبل هذا البلد، كما أن أزلام الفساد الاقتصادي لا تَخفى على أحد والوقوف في وجهها وفي وجه من يريدون تخفيف بؤسنا من أجل تمديده لمدة أطول ممكن وآني ولا يقبل التأجيل. ما ينقصُ ظاهر للعيان (بفتح الياء أو فتحها مع التشديد) وهو الإرادة الحقيقية للتغيير والإصلاح والمغرب ومستقبله أغلى من «القنادس» والمتنفذين.