"فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ" (القمر 10) عندما تنوء أمة من أمم التبعية تحت إصر ديونها فيكاد ريحها يذهب و تتهاوى أركانها الهشة يلجأ "المجتمع الدولي" والمقصود طبعا "أمة الزمان" الولاياتالمتحدةالأمريكية و توابعها الجاثمين على "طبقية" العصر الأممية، وعلى رأسها بريطانيا و فرنسا، إلى إعاد جدولة ديون دول "الطبقات السفلى"، ليس خوفا على مصير هذه الدول ولكن على مآل دول الطبقات العليا، والتي رَهَنَ تاريخ تَكَوُّنِها المعاصر وجودَها المزدهرَ والثريَّ بوجود هذه الدول البائسة أو السائرة في طريق البؤس، تماما كما قد يُطيل طبيب مدة "صلاحية استعمال" الأعضاء الحيوية لمحتضر بِوَصْلِه بآلة التنفس الاصطناعي.
تلك حكمة يتوسل بها الغرب كلما شارفت أمم الاحتياط النفطي والبشري والقُمامي(1) على الموت أو الحياة!.
والآن و بعد أن شارفت أمم عربية على الحياة، تأخذ سياسة جدولة الديون أشكالا متعددة التجلي أُحادية الهدف.
في تونس و مصر تُحاول هذه الأمم الوصية علينا أبد الدهر، أن تجد مداخلَ لها تجعل من ثوراتها المباركة انتعاشة عابرة كانتعاشة المستدين قبل أن يصرف ما في جيبه و يستعد للعمل في خدمة السيد تسديدا لديونه، وكذلك تفعل في ليبيا بعد تدخل عسكري كان الهدف منه إعادة جدولة الضحايا، فبدل أن يَقضيَ مئات في أسبوع أو أسبوعين، لا بأس من أن تمتد فترة هلاكهم إلى أشهر رأفة بقلوب المواطنين الغربيين "الرقيقة"، والنتيجة التي تبدوا مختلفة ظاهرا، هي واحدة حقيقة، كما يفعل السرطان الصهيوني في فلسطين، فعندما يقتل مئة في يوم أو يومين تُسمي منظمات "المجتمع الدولي" و عرب الاحتياط والتبعية ذلك مجزرة، ولكن قتل نفس العدد على فترات يُسمى مناوشات و سقوطا لشهيد أو ثلاثة شهداء يمر عبر شريط أخبار القنوات مرور اللئام.
في البلاد العربية التي تشهد يقظة لم يشهد التاريخ المعاصر لها مثيلا في هذه الدول، التي ألِفت انقلابات، تأتي بأنظمة أسوء من سابقتها، بدأت تتحرك آلية جدولة البؤس، ب"عرض" تغييرات سطحية تريد تصريف البؤس على فترات بعد تأزم الوضع و مشارفة بُنى المجتمع على الهلاك أو الانفجار، وحتى من "سينجح" منهم في هذا المسعى فسيكون ذلك إلى حين، "فما عاد في الوقت وقت" كما قال شاعر المقاومة محمود درويش.
في بلدنا الطيب، الذي لم يعرف إلا انقلابات فاشلة بحمد الله، لكنه كسائر بلاد الاحتياط والتبعية، عرف الاستبداد و القهر والتعذيب لخلق الله، كما عرف مشارفة أبنائه على الحياة و تَبرمهم من آلة التنفس الاصطناعي، و ذلك ظاهر فيما سمي بحراك اصطف فيه المعطلون و المهمشون الممنوعون من حقهم في المطالبة بمستقبل لأبنائهم يكونون فيه مواطنين لا خدما لعائلات تحتكر المال والسلطة والأرض بدعوى شرعيات مزيفة و مُستهلكة.
و مغربنا يعرف كسائر بلاد اليقظات المباركة، محاولات لإعادة جدولة البؤس باقتراح إصلاحات سطحية أو في غير محلها تصريفا للبؤس وتأجيلا للحياة.
الدستور يريد توسيع صلاحيات بلا ضمانات للتطبيق، ومن السذاجة القول أن الضمانات ستكون في بنود الدستور، ذلك أنها من طبيعة مختلفة، ومحلها يقع خارج صفحاته، فالدستور القائم لا ينص على أن بإمكان صديق للملك أن يتحكم، وبهذه الصفة، في الداخلية والقضاء حتى بدون منصب في الحكومة. كما أنه لا ينص على أن من حق وزير تهديد رجل أمن في الشارع العام ومنع تطبيق القانون على ابنه لأنه وزير وعلى مرأى ومسمع من "العالمين"، والدستور القائم لا ينص على أن من حق الوزير الأول أن يُحَوِّل الحكومة إلى شركة يُوزع فيها الوظائف على عائلته الأقربين، أو أن ينتقل من متهم في قضية هائلة هي "فضيحة النجاة" إلى و زير بدون حقيبة ثم وزيرا أولا، كما أن الدستور الحالي لا ينص على اختطاف خلق الله على يد زبانية المخابرات كما لا ينص على أن من مهمات هؤلاء "تنظيم النسل" على طريقتهم الهمجية كما شاهد العالم في شهادة السيد "الشارف"، لطف الله به و بإخوانه من المظلومين الذين لا يسعنا إلا أن نقول معهم كما قال نبي الله نوح عليه السلام من قبل:ربِّ إني مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ.
الخطوة الأولى في طريق الإصلاح كما سبق أن كتبت وأعيد هي محاسبة المفسدين وحل حكومة هي جزء من المشكلة، و من مهازل هذه "الإصلاحات" أن هذه الحكومة المشكلة هي الطرف المُحاوَر في مضمون هذه الإصلاحات، بجلوس نقابات ،باعت فينا واشترت، إليها، للحديث عن تسويات لا نشك لحظة في أنها إعادة لجدولة البؤس في هذا البلد. والذي يدَّعي أن الشعب كله فاسد ومرتش إنما يقول من حيث لا يدري ألاّ أحد مسؤول.
أصدقاء الملك و حكومة "القنادس" التي باعتنا وباعت مبادئها في حزمة واحدة عليهم أن يرفعوا أيديهم عن حاضر ومستقبل هذا البلد، كما أن أزلام الفساد الاقتصادي لا تَخفى على أحد، والوقوف في وجهها ووجه من يريدون تخفيف بؤسنا من أجل تمديده لمدة أطول ممكن وآني ولا يقبل التأجيل. ما ينقصُ ظاهر للعيان (بفتح الياء مع التخفيف أو التشديد) وهو الإرادة الحقيقية للتغيير و الإصلاح، والمغرب ومستقبله أغلى من "القنادس" والمتنفذين.
إحالة: (1) أنظر محمد الهداج: "ما الذي يقع في بلاد العرب؟"