إن الذين تابعوا مسار الفنانة الصاعدة والموهوبة، في الآن ذاته، سليلة أسرة فنية صاعدة من عمق كازا بلانكا، الحي المحمدي، هذا الحي ذائع الصيت. يُستغرَب كل الاستغراب من نزع تاج «أراب أيدل» عن هذا الصوت العميق والأصيل، عن شخصية دنيا القوية، المصرّة على حضورها، رغم كثير من «عشرات حجرات العثرة»، التي ألقى بها البعض في مسارها.. وما أظن تلك الحجرة ستعني ل«بنت كازا» شيئا في مسارها، ف»الضربة التي لا تقتلك، تقويك. لا أدري، وإن كنت قلما أتابع مثل هذه البرامج، التي يبدو لي أن الكثير منها أن يتحرك وفق «أجندة» محددة ويحرث في حقول معينة لأغراض معينة، لماذا كنت أحس أن «بنت الحي المحمدي»، بشخصيتها القوية والمُصرّة على الانتماء إلى عمق المغرب، لا تريدها أطراف معينة، حتى داخل لجنة التحكيم، أن «تنجح»، خاصة حينما بقيت وجها لوجه مع المصرية كارمن.. خرج حسن الشافعي، في أكثر من مرة، عن الحياد الذي يجب أن تلتزم به اللجنة.. وهنا، لا بد من الاشارة إلى أن اللجنة كان يجب أن تكون متوازنة، فقد كان أعضاء اللجنة الثلاثة من المشرق، وغاب المغرب، أو الغرب الإسلامي، كما يحلو لأهل المشرق أن يطلقوا علينا.. لماذا؟ إن ما حدث من «وقائع» في مسار «البرنامج» جعلني أشعر -ولا شك أن الملايين من المغاربة البسطاء والمثقفين والمهتمين وغير المهتمين شعروا بأن المشارقة ما يزالون ينظرون إليهم كمجرد «تلاميذ» وأنهم هم «الأساتذة»، في كل شيء.. ولا شك أن «الغموض» الذي اكتنف حرمان «دنيا باطما» من اللقب فيه ما فيه.. ويجعل هذا الطرح يكتسب مصداقيته. ولا شك أن المغاربة يذكرون أنه حينما كانت باطما تتحدث أو يتحدث أفراد أسرتها يدّعون أنهم لا يفهمون الدارجة المغربية، «الصعبة».. لا أعرف لماذا ما يزال هؤلاء المشارقة يُردّدون نفس اللازمة، في الوقت الذي لا يتحدثون، «هُمْ» في لقاءاتهم سوى بلهجاتهم.. واقعة «حرمان» دنيا باطما جعلتني أعود سنين إلى الوراء، حيث إن المشرق كان لا ينظر إلى المغرب وإلى ما يقدّمه من مساهمات فكرية وأدبية وغيرها سوى على أنه امتداد لما ينتجه.. ولا شك أنه في هذه الحالة يطفو ما تعرض له الوليد بن رشد من انتقاد من الغزالي وغيره يؤكد نظرة «المشرق» إلى «المغرب»، فالمشرق لم يكن يرى فيه سوى جغرافيا للاتباع وليست للإبداع . لكن ابن رشد كان واضحا وحازما وقويا في الدفاع عن استقلالية عقل الغرب الإسلامي عن المشرق. فحين كتب الغزالي «تهافت الفلاسفة»، رد عليه القاضي والفقيه والفيلسوف ابن رشد بكتاب دال وضربة قاضية «تهافت التهافت».. ولا شك أن العالم العربي يذكر ردود المشرق عن الراحل محمد عابد الجابري.. وما أثير حوله من «غبار» يؤكد أن المشارقة لم يتخلصوا من نظرة قديمة لا ترى في المغربي سوى هذا «الابن»، الذي لا «يكبر» ولا يمكنه أن يأتي بأحسن وأعمق مما أتى به... لكن نظرة الاتّباع يكرسها -للأسف- مغاربة كثيرون، من خلال «الاستجداء» وفي مجالات مختلفة، فنية وفكرية وإبداعية، الاعتراف أو الجوائز منهم. أمر آخر يجعل هذه النظرة تحيى هو هذا الاحتضان المبالَغ فيه لمطربين مشارقة وتهميش للطاقات المحلية، إضافة إلى غياب الثقة في النفس وعدم حضور الشخصية المغربية بكل عمقها وغناها، وهذه من أسباب تعميق هذه النظرة. كما أن استعداد الكثيرين والكثيرات لتبديل أحذيتهم وألسنتهن وتعويضها بأخرى مصرية أو خليجية هي من أهم أسباب استمرار النظرة... المشرق يرى فينا شيئا آخر، لكنْ، وفق ما رأيت، فإن إصرار دنيا باطما على أن تكون حاضرة بشخصيتها «المغربية» هو ما جعل الطريق «تنحرف» إلى وجهة مصر.