في صيف 1982، كانت بيروت تحت الحصار الإسرائيلي، وياسر عرفات يواجه لحظةً وجودية تهدد القضية الفلسطينية برمتها. وسط القصف والدمار، وصلت رسالة غير متوقعة من المغرب، كتبها معتقلان يساريان يهوديان: إبراهام السرفاتي، المحكوم بالمؤبد، وسيون أسيدون، المحكوم باثني عشر عامًا. قالا فيها بوضوح: "نحن جنديان في الثورة الفلسطينية". أن يكتب سجينان يهوديان من قلب زنازين المغرب رسالة تضامن للمقاومة الفلسطينية كان حدثًا استثنائيًا، يفضح زيف الادعاء الصهيوني بأن إسرائيل تمثل كل اليهود. لقد برهنا أن اليهودية ليست مرادفًا للصهيونية، وأن داخل العالم العربي نفسه من يهود وقفوا ضد الاحتلال وجرائمه.
أهمية الرسالة لم تقتصر على رمزيتها الدينية والسياسية، بل امتدت إلى بعدها الأممي. فالسرفاتي وأسيدون، كمناضلين يساريين، ربطا بين العدوان على فلسطينولبنان وبين تاريخ طويل من الفاشية والإمبريالية، من النازية في أوروبا إلى مذابح فيتنام وتشيلي. بهذا الخطاب، وضعا الثورة الفلسطينية في قلب حركة تحرر عالمية، لا كقضية العرب وحدهم، بل كقضية إنسانية كبرى. صدور الرسالة من داخل سجون المغرب في عهد الحسن الثاني أعطاها دلالة محلية قوية أيضًا. فقد رأى اليسار المغربي في فلسطين امتدادًا طبيعيًا لمعركته ضد الاستبداد الداخلي والإمبريالية الخارجية. وما جرى في بيروت حينها، كما ما يجري في غزة اليوم، لم يكن شأنًا بعيدًا، بل جزءًا من معركة مشتركة ضد منطق القمع والتحالف مع القوى الرجعية. اليوم، بعد أكثر من أربعة عقود، تُباد غزة أمام أعين العالم. آلاف الضحايا تحت الركام، الجوع والقصف ينهشان الأطفال والنساء، والدمار يُبث لحظة بلحظة. ومع ذلك، تصمت كثير من النخب العربية، والمغربية خصوصًا، أو تختبئ وراء خطاب التطبيع والدعاية الصهيونية. المفارقة صادمة: سجناء مقيدون تجرؤوا على رفع أصواتهم، بينما مثقفون وإعلاميون وسياسيون أحرار يختارون الصمت أو التواطؤ. إعادة نشر رسالة السرفاتي وأسيدون اليوم ليست مجرد استرجاع وثيقة تاريخية، بل محاكمة أخلاقية للحاضر. فهي تقول بوضوح: المواقف لا تُقاس بالظروف بل بالشجاعة. وإذا كان سجينان يهوديان مغربيان قد أعلنا نفسيهما جنديين للثورة الفلسطينية في زمن الحصار والظلام، فما عذر النخب الحرة اليوم وهي ترى غزة تُباد على الهواء مباشرة؟ وفي ما يلي نص الرسالة / الوثيقة: من إبراهام السرڤاتي وسيون أسيدون إلى ياسر عرفات الأخ العزيز، اخوتنا الأعزاء، نحييكم بحرارة. في الوقت الذي يحتل فيه جنود الهمجية الصهيونية جنوبلبنان معتمدين في ذلك على الدعم الفعال للغرب الامبريالي، ومستفيدين من سكوت وتواطؤ الرجعية العربية… في الوقت الذي يرتكبون فيه جريمة الابادة الجماعية ضد الشعبين العربيين الفلسطينيواللبناني.. نرفع صرختنا نحن كاتبا هذه السطور. آملان أن تصلكم، ولو داخل خطوط الحصار، للتنديد بالعملية الاجرامية التي يقوم بها بيغين وعصابته. من جديد تطبع حجة تاريخية أخرى عن طبيعة الصهيونية: الفاشية-الصهيونية. هذه الآلة لزرع الدمار والموت- على اللحم المنهوش وتسجل بالدم المسفوك لعشرات الآلاف من العرب الفلسطينيينواللبنانيين، رجالا ونساء، أطفالا وشيوخا استشهدوا تحت نيران القنابل. من جديد سجلت حجة تاريخية أخرى وجه العالم كله عن طبيعة الصهيونية العنصرية التي تسعى لابادة الشعب الفلسطيني نهائيا على غرار ما مارسته النازية من «حل نهائي للمشكلة اليهودية» عن طريق الابادة الجماعية. وهكذا فان جماهير اليهود التي هاجرت باغراء الى فلسطين الصهيونية تحولت إلى ذراع لنازية جديدة. من دير ياسين في 1948 الى ما يجري اليوم في جنوبلبنان مرورا بكفر قاسم وبفلسطينالمحتلة، ومن غرنيكا في بلاد الباسك ومن اورادور سوركلان بفرنسا ابان الاحتلال النازي الى سانتياغو بتشيلي في 1973، مرورا بمي لاي في فيتنام، هناك نفس المنطق ونفس النهج ونفس الهمجية الامبريالية الفاشية. في الوقت الذي تحاول فيه الامبريالية والصهيونية اطفاء الشعلة التي أوقدتها الثورة الفلسطينية، نؤكد من خلالكم دعمنا المطلق للمقاتلين الفلسطينيينواللبنانيين الأبطال، حاملي آمال مستقبل مشرق للشعوب العربية والأمل الوحيد لسلام حقيقي وعادل بالنسبة للبشرية في هذه المنطقة من العالم. في الوقت الذي يبدو فيه وكأن الهدف السامي للثورة الفلسطينية يبتعد كجوهرة ساطعة في أحشاء الليل الهمجي، في ذات الوقت، تلمع سدادة وعظمة هذا الهدف بكل جلاء. ألا تبرهن جرائم الصهيونية الأخيرة على أن الصهيونية والأمة العربية لا سبيل للتعايش بينهما؟ ان الصراع التاريخي والحضاري بين الأمة العربية، وعلى رأسها فلسطين، والكيان الصهيوني كامتدادا للامبريالية في عدوانها ضد الشعوب العربية عامة وكآلة للدولة الهادفة إلى تصفية الشعب الفلسطيني خاصة سيؤدي لا محالة الى تدمير الكيان الصهيوني. وهكذا، ستفتح مرحلة جديدة في تاريخ الشرق الأوسط، أحد منابع الحضارة البشرية من أقدم العصور. ومهما طال وصعب الطريق فان تعايش المسلمين واليهود والمسيحيين داخل فلسطين ديمقراطية مندمجين في شعب فلسطيني موحد سيتحقق على أنقاض الكيان الصهيوني. إن الثورة الفلسطينية تحمل في طياتها أملا مزدوجا لأنها لن تحرر الأمة العربية فقط من وحش الصهيونية المفترس بل ستحرر أيضا يهود فلسطين أنفسهم من هذا الوهم القاتل والانتحاري. اخوتنا الاعزاء، إن الثورة الفلسطينية تحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، المحاصرة في بيروت من طرف الهمجية الصهيونية والفاشية الكتائبية وبمشاركة الرجعية وعجز البرجوازية العربية، تشكل منارا للضمير الفلسطيني والعربي والبشري تحاول الامبريالية وبالخصوص الامريكية منها والصهيونية إطفاءه. إننا متيقنون تمام اليقين من أن الثورة الفلسطينية ستخرج من المعركة القاسية التي تخوضونها في هذه اللحظات الحرجة أعظم من ذي قبل وأن الانتصار النهائي سيكون حليفا للثورة الفلسطينية والشعوب العربية! الأخ أبو عمار ، اننا كثوريين عرب نطلب منك كقائد عام للقوى الفلسطينية المسلحة أن تعتبرنا جنديين للثورة الفلسطينية مكافحين في سبيل تحرير فلسطين. ان الشعب الفلسطيني قد نهض ولا يمكن أن يموت ! وانها ثورة حتى النصر! 19 يونيو 1982. المصدر: عن أسبوعية «البلاغ المغربي» عدد 29 يوليوز 1982