بقلم : عبدالقادر العفسي إنها الدعاية، كما فهمها غوبلز، لم تكن مجرد نقل معلومات، بل فن التلاعب بالوعي الجمعي، لقد استغل ببراعة مبادئ علم نفس الجماهير، مدركا أن العواطف لا المنطق هي المحرك الأساسي للحشود و الجمهور ،فمن خلال التكرار المستمر للأكاذيب الكبيرة وتبسيط الرسائل، تمكن من تشكيل الرأي العام وتوجيه الجماهير نحو أهداف محددة، محولا الحقيقة إلى أداة طيعة في خدمة السلطة، ومستخدما الخوف والكراهية كوقود لتحريك الجموع . تستمر الدعاية،حيث تتراقص فيه الكلمات على حبال الدعاية نفسها ، وتتخذ فيه البيانات الرسمية قناعا شفافا يكشف أكثر مما يستر، يبرز بيان حزب الأصالة والمعاصرة بإقليم العرائش حول احتجاجات الشرفة الأطلسية بالعرائش كوثيقة تستدعي قراءة متأنية، لا بعين السذاجة التي يرجوها محرروها، بل بعين الناقذ القصاص الفيلسوف الساخر الذي يرى في كل ادعاء سلطوي بذور تفككه، إنها ليست مجرد كلمات، بل هي مسرحية عبثية تعرض على خشبة الواقع، حيث تتداخل أدوار الممثلين والجمهور، وحيث يختلط الوهم بالحقيقة في رقصة لاذعة . لقد أتى هذا البيان، الذي يدعي تفهمه العميق لمطالب الساكنة واعتزازه بوعيها الحضاري، ليضع نفسه في موقف لا يختلف كثيرا عن موقف 'الراعي الصالح' الذي يلوم الذئب على افتراسه الخرفان، بينما هو نفسه من قادها إلى المرعى الموبوء، ففي الوقت الذي كانت فيه حناجر المحتجين تصدح بالرفض، وتطالب بالحفاظ على هوية المدينة وجمالياتها و محاسبة الفسدة، كان 'الراعي' المزعوم،أي الحزب، يمارس فن 'التأطير' و 'التقطير' و'التوجيه' الذي لا يختلف في جوهره عن 'التطويع' و'التخدير'و التخويف" و 'الكراهية' ، إنها مفارقة لاذعة ! أن يدعي من حرض وشحن ضد الاحتجاجات والمحتجين، أنه كان معهم، بل ومنهم ! شبيه ب'إله التمر' ليست مجرد استعارة تراثية، بل بنية اشتغال: صناعة مقدس سياسي من مادة هشة، قابلة للابتلاع، ثم إعادة قولبته كلما اقتضت موازين القوى ذلك، بمعنى أخر: عملية تقديس ظرفية للشعار ما دام يمنح رأس مال رمزي داخلي وخارج الإقليم، ثم تفريغه من محتواه حين يتم تجاوز اللحظة بغاية إعادة 'التعين' وتزوير الحقائق بالتقادم و التدليس على الجامع الوطني !، إنها دورة إنتاج وتدمير للرموز تشبه "إعادة تدوير الرأسمال الرمزي"، وعن تحويل القيم إلى مجرد أدوات في الحقل السياسي . هذا التناقض الصارخ يكشف عن بنية سلطوية تسعى إلى احتواء كل صوت معارض، لا من خلال الاستجابة لمطالبه، بل من خلال استيعابه في خطابها الخاص، وتفريغه من محتواه،إن هذا البيان، في جوهره، هو محاولة ل'إعادة تعريف' الواقع، لتقديم سردية بديلة تتناسب مع مصالح الحزب وأجندته و الدوائر التي تشتغل معها!، فبدلا من الاعتراف بالدور الحقيقي في تأجيج الصراع أو التغاضي عنه او المساهمة بشكل مباشر بمعية ا'لغياب' لرأس السلطة الإقليمية ، يتم تصوير الحزب كحام للهوية، وكمدافع عن التراث، بينما هو في الحقيقة يمارس 'عنفا رمزيا' على الذاكرة الجماعية للمدينة، محاولا محو آثار مقاومة الساكنة واستبدالها بسردية 'التفهم' و 'المشاركة' !. إنها لعبة 'السلطة والمعرفة' التي أتقنها البعض، حيث يتم إنتاج 'الحقيقة' التي تخدم مصالح القوى المهيمنة، وتهميش كل 'حقيقة' أخرى لا تتوافق معها،أما ادعاء الحزب بنسب مشاريع الدولة لنفسه، فهو يمثل ذروة السخرية المريرة، ففي عالم حيث تتلاشى الحدود بين الفاعل والمفعول به، وحيث يصبح الفاعل الحقيقي غائبا خلف ستار البيروقراطية والخطابات الرنانة، يأتي هذا الادعاء ليذكرنا بمفهوم 'المجتمع الاستعراضي'، حيث كل شيء يتحول إلى صورة، وكل إنجاز يصبح مجرد مشهد في مسرحية كبرى. إن المشاريع التنموية الكبرى، التي هي في جوهرها نتاج لجهود جماعية وتمويل عمومي، يتم اختزالها إلى 'إنجازات حزبية'، في محاولة لسرقة التاريخ وتزوير الذاكرة، هذا التملك الرمزي للمشاريع هو شكل من أشكال 'الرأسمالية الرمزية'، حيث يتم تحويل الإنجازات المادية إلى رصيد سياسي، يتم استثماره في سوق الدعاية والانتخابات، إنها عملية 'تجريد' للمواطن من حقه في رؤية هذه المشاريع كملكية عامة، و'إعادة إنتاج' للتبعية، حيث يصبح الحزب هو المانح والمنعم، بينما المواطن هو المتلقي السلبي !. إن هذا البيان، بكل ما يحمله من تناقضات ومفارقات، هو دعوة لنا لإعادة التفكير في طبيعة السلطة، وطبيعة الخطاب السياسي، وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، إنه يذكرنا بأن الكلمات ليست بريئة، وأنها تحمل في طياتها قوى خفية قادرة على تشكيل الواقع وتشويهه. ففي النهاية، يبقى السؤال معلقا: هل نحن أمام 'دولة' تتحدث باسم الشعب، أم أمام 'حزب' يتحدث باسم الدولة !، بينما الشعب يصرخ في واد آخر؟ إنها 'مأساة' الكلمات التي تفقد معناها، و'كوميديا' السياسة التي تفقد بوصلتها، وفلسفة الوجود التي تتوه في متاهات الدعاية .