الطغاة كثيرون، انتهوا وانقضوا.. وسيولدون و يمضون، قد يتفاوتون في وسائل الطغيان، لكنهم يتوحدون في البدايات و النهايات، أتوا إلى الحكم مسالمين ومستعطفين ليصيروا دمويين ومتجبرين، وينتهوا مغدورين ومقتولين. من نيرون الروماني، وكاليغولا الرومانيين، مرورا بالحجاج وعباس السفاح العربيين، وصولا إلى صدام حسين والقذافي القوميين، ظل الطاغية هو الطاغية، لا يرى إلا نفسه ولا يسمع إلا صوته ولا يهتم إلا لمصالحه. الطغاة وهم في أوج طغيانهم يمتلكهم الغرور والاستعلاء ولا يتعظون من دروس التاريخ ومن مصائر أمثالهم ممن سبقوهم من أصنام الطغاة. كان عيدي أمين دادا رئيس أوغندا في الفترة ما بين 1971 و1979.أنهى النفوذ البريطاني في أوغندا، مما حذا ببريطانيا إلى تأليب مختلف القوى الداخلية والمحيطة ضده، ثم قام بطرد الآسيويين، وقضى على النفوذ الإسرائيلي المتنامي في أوغندا في عهد سابقه ملتون أوبوته . وقد اتهم من قبل القوى الغربية بتطبيق المشروع الإسلامي، مما أدخله في دوامة الاتهام بالديكتاتورية. يقدر عدد القتلى في فترة حكمه ما بين 80,000 و500,000، حسب تقديرات المنظمات الغربية، فيما تشكك منظمات أخرى بذلك. تم إبعاده إلى السعودية حيث توفي هناك عام 2003. ولد عيدي حوالي عام 1925، إما في كوكوبو أو كمبالا. أبوه هو أندرياس نيابيره (1889-1976) من قبيلة كاكوا، وتحول من الكاثوليكية إلى الإسلام في عام 1910، وغير اسمه إلى أمين دادا .نشأ عيدي أمين في كنف أخواله بعد انفصال أبيه. والدة عيدي (عائشة عطا) (1904-1970) من قبيلة لوكبارا، عملت مداوية بالأعشاب لعائلة بوكندا الملكية. في عام 1941 التحق عيدي بالمدرسة الإسلامية في بومبو، وبعد بضع سنوات في المدرسة، تركها وعمل في مهن عديدة قبل أن يجنده في الجيش ضابط استعماري بريطاني. ادعى عيدي أنه ينتسب إلى قائد الجيش المصري في منابع النيل أمين باشا النمساوي، ولذلك اتخذ لقب «أمين» وقد قام عيدي أمين في فترة ما من فترات حكمه بما كان يعتقد أنها سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية، كان منها قرار إبعاد الهنود، الذين كانوا قد جاؤوا إلى البلاد مع البريطانيين وبدؤوا يؤسسون مجموعة من الأنشطة التجارية والأعمال والمشروعات المختلفة، فاختار معظمهم بريطانيا كوجهة بديلة عن أوغندا، التي رحبت بهم ومنحتم التسهيلات في قضية أصبحت تعرف فيما بعد في بريطانيا بقضية الهنود الأوغنديين. في منتصف السبعينيات عقدت منظمة الوحدة الإفريقية قمتها السنوية في العاصمة الأوغندية كمبالا. وكان عيدي أمين هو الرئيس الذي آلت إليه مقاليد منظمة الوحدة الإفريقية في تلك الفترة، طبقا للقواعد التي تسير المنظمة، وقد دعي الحضور إلى حفل العشاء الذي أقامه فرح عيدي.وكانت المفاجأة الكبرى عندما دخل عيدي جالسا على كرسي ككراسي الفراعنة، يحمله على أكتافهم أربعة من البريطانيين الأشداء، واستثارت الرسالة التي قصدها الرئيس الأوغندي حماس الأفارقة الذين عاشوا عقودا متتالية يحملون المستعمر الأبيض على أكتافهم عبر الأدغال والسهول والوديان. وقد بدا يومها أن الرجل سيدفع غاليا ثمن هذه الإهانة للجنس الأبيض، بعد أن قضى على الوجود الاقتصادي الآسيوي الذي كان يمتص دماء الأوغنديين. ومن طرائفه، أنه أثناء زيارة قام بها إلى الجزائر راح يجول بين الجماهير التي اصطفت لاستقباله، وكانت تتابعه بمزيج من الفضول والدهشة، فبدا له أن يتوقف أمام طفل صغير كان فاغرا فاه وهو يرى العملاق الأسود يتجه نحوه، وفجأة انفجر الطفل بصراخ أحرج الجميع، ولم يواصل الماريشال سيره، بل بقي ينتظر هدوء الطفل، وهو ما حدث بعد أن اطمأن إلى أن الرجل لن يقترب منه، وبسرعة بديهة اتجه الجنرال الجزائري عباس بن غزيل، وكان معروفا بوسامته، نحو الطفل وهو يرسم ابتسامة ساحرة على وجهه، وما إن اقترب من الطفل واطمأن إلى أنه خارج مجال رؤية الضيف حتى قام بشد عضلات وجهه وأبرز أسنانه، فصرخ الطفل وأسرع بالفرار. والتفت العقيد عباس للماريشال وقد استعاد ابتسامته بعد أن أكد عمليا للرئيس، الذي انفجر ضاحكا، بأن الطفل شرس ولا يحب أن يقترب منه أحد على الإطلاق، أوغنديا كان أم جزائريا. وقد ازدادت كراهية الغرب بصفة عامة للماريشال، الذي أضاف إلى اسمه لقب: الحاج. وقد تولى جوليوس نيريري عملية الإطاحة به في نهاية السبعينيات. وبعد إقامة في ليبيا استقر في السعودية إلى أن فاضت روحه عن 78 عاما، ومر موته على العالم العربي وكأنه لا حدث. ولا جدال في أن عيدي أمين كان دكتاتورا بمعنى الكلمة، لكن كراهية الغرب لم تكن بسبب دكتاتوريته، فقد تفوق عليه في ذلك قاتل باتريس لومومبا الماريشال موبوتو سيسي سيكو والإمبراطور بوكاسا، الذي حولته الاحتكارات الفرنسية من شخص مغمور إلى إمبراطور، ثم قلبت له ظهر المجن، وأحمد سيكوتوري، الذي تحول من قائد وطني إلى سفاح حقيقي، إلى درجة أنه أوصى بألا يدفن في بلاده حتى لا تمزق الجماهير جثته، دون أن ننسى بينوشيه وصدام حسين وغيرهما. ولقد تجسد كره الغرب لعيدي أمين من خلال ما كتب عنه بعد وفاته، ومن ذلك ما زعمه كاتب غربي بأنه كان مجرد طباخ للكتيبة البريطانية في إفريقيا وصار قائد جيش. والتاريخ يقول إن الرجل كان أحد أوغنديين اثنين في القوات البريطانية منذ سنة 1946 ثم تولى رئاسة أركان الجيش بعد الاستقلال في سنة 1962، ودعم جهود ملتون أبوته للقضاء على الحكم القبلي ليطيح به في 1971، ويتولى حكم البلاد في مرحلة من أشد المراحل تعقيدا في الصراع العربي الإسرائيلي إلى أن نجح الغرب، عبر تنزانيا، في إسقاطه.