رجال صدقوا ما عاهدوا الله والشعب عليه، منهم من لقي ربه ومنهم من ينتظر. أسماء دوى صداها في أرجاء المدينة الحمراء وخارجها وشمخوا شموخ صومعة «الكتبية» أو أكثر، وبصموا بأناملهم وكتبهم تاريخا ظل عصيا على المحو. لكن فئة قليلة من الجيل الحالي من تعرفهم أو تعرف إنجازاتهم. غير أن الذين عاصروهم أو الذين تتلمذوا على أيديهم يعتبرون أن هذا الرعيل صنع ما لم يصنعه أحد ممن سبقوهم كل في تخصصه. «المساء» نبشت في ذكرياتهم في مراكش وخارجها، وجالست من بقي منهم على قيد الحياة، واستمعت إلى تلامذتهم، الذين لا زالوا يعيشون جمالية تلك اللحظات التي لازالت منقوشة في أذهانهم وقلوبهم. لم يكن محمد العشراوي يتوقع أنه سيصبح ذات يوم لاعبا وبطلا في رياضة التنس، نظرا إلى الظروف المعيشية المتدنية التي نشأ فيها، من جهة، وجهله التام بهذا التخصص الرياضي، الذي كان مقتصرا على الفئات الأرستقراطية فقط، والجالية الأجنبية المقيمة في المغرب، من جهة أخرى. ولد العشراوي سنة 1944 في حي سيدي ميمون، المجاور لصومعة «الكتبية»، من أسرة معوزة، في فترة الإستعمار الفرنسي، حرم إبانها من ولوج المؤسسة التعليمية، حيث وجد نفسه مطالبا باقتسام هموم العيش مع أسرته وهو طفل في العاشرة من عمره. وقد تنقل العشراوي بين محلات صناع وتجار مدينة مراكش، إلى أن حل يوم حظه، الذي منحه ولادة جديدة. يتذكر محمد العشراوي أنه كان يلهو بمعية أطفال الحي حين سمع شخصا يبحث عمن لديه رغبة في العمل من الأطفال والشباب، ليتبعه العشراوي جريا وهو يمتطي دراجة عادية، إلى أن دخلا فضاء النادي الملكي للتنس في مراكش، حيث اشتغل أجيرا يلتقط الكرات ويجمع المُعدّات.. فرصة رغم أنها بلغت هدف سد أحد منافذ الحاجة لدى الأسرة، فإن طموح وفراسة الطفل العشراوي أبتا إلا أن تجعلا منه اسما خالدا في تاريخ كرة المضرب المغربية.. عملية تقويمية ل «الشينوا» لقب محمد العشراوي ب»الشينوا» من قِبَل سيدة فرنسية مقيمة في المغرب، كانت عضوا في النادي الملكي المراكشي للتنس، لأن ملامح وجهه وعينيه، قبل إخضاعهما لعملية تقويمية، تدخلانه في فصيلة الجنس الأصفر.. تحدى «الشينوا» ظروف حظر التجوال، التي كانت سائدة في المغرب آنذاك، ومكنه فضول الطفولة وعشق اللعب مراكمة رصيد تقني وقانوني ساعداه في لفت أنظار القائمين على النادي منذ سنة 1958، بعدما وطّد علاقته بالأسر المنخرطة في النادي وأبنائها، ليعتمده المدرب الفرنسي كاستان ضمن فتيان النادي. وكان لمحمد «الشينوا» موعد مع البطولة منذ موسم 1962، حيث تُوج بطلا للشبان في المغرب بعدما أضاع اللقب في الموسم الذي قبله أمام برنار بول في الجديدة، ليلحقها بطلا للقسم الوطني الثاني كبار في موسم 66، حيث صعد النادي المراكشي إلى القسم الأول. وكان وصيف بطل موسم 67 في فاس أمام لحسن الشادلي، ما أهله للمشاركة مع المنتخب الوطني في ألعاب البحر المتوسط في تونس، ثم وصيف بطل موسم 70 في أكادير أمام زميله في النادي، أحمد بن عمر. وفي سنة 1974، توج محمد العشراوي بطلا لكرة المضرب المغربية فردي، وفي مواسم 76 و 77 و78 فرق. وموازاة مع ذلك، فاز بمجموعة دوريات محلية وفرض سيطرته المطلقة على دوريات كرة المضرب في المغرب، من 81 إلى 83، حيث أنهى مشواره كلاعب في دوري مراكش الدولي، متقدما على الفرنسيين والإسبان. انتقل محمد العشراوي «الشينوا» بعد ذلك لشغل مهمة مدرب ومدير تقني للنادي الملكي للتنس في مراكش، حتى سنة 1995، حيث قدّم إضافات كبيرة للنادي، من ثمارها أن تخرَّج البطلُ المغربي طلال الوهابي على يديه، وكذلك مصطفى دسلام، الذي تتلمذ على يديه، قبل فوزه ببطولة المغرب فردي أربعة مواسم (من 76 إلى 79). النادي المدرسة يعتبر محمد «الشينوا» نفسه محظوظا بالمسار الذي أخذته حياته منذ رشده، وهو يتنقل من الحي عبر دراجته من ساحة «الكتبية» إلى فضاء النادي الملكي، الذي كان بالنسبة إليه المدرسة التي لقنته اللغات وفنون الأدب على يد أساتذة ودكاترة وممثلين وكتاب ورجال دولة، من خلال الاحتكاك بهم عن قرب، ومركزا للتكوين الاحترافي، من حيث ممارسة لعبة التنس، التي اتخذها حرفة يتقاضى عنها حاليا، وهو في عقده السابع، شبه راتب تقاعد من النادي. ويقول العشراوي إن نادي التنس عوّض لديه الحرمان من الأب، الذي وافته المنية في سنة 1958، وغطى جانبا كبيرا من المصاريف المالية للأسرة، التي كانت تعول عليه وتنظر إليه دائما كشخص يشتغل أكثر منه لاعبا لكرة المضرب.. شأنها في ذلك شأن عامة الشعب الذين يربطون الرياضة والبطولة بكرة القدم فقط، باستثناء بعض الشباب، الذين كانوا يتصفحون الجرائد آنذاك. التمرن مع ولي العهد أناقة لعب محمد العشراوي وعلو كعبه أهلاه سنة 1978، التي توج فيها الفريق المراكشي بطلا، ليدخل في البرنامج الرياضي للقصر الملكي، حيث تمرّن مع الملك محمد السادس حين كان وليا للعهد.. ويذكر العشراوي لقاءه بالممثل العالمي أنطوني كوين، الذي حل بالمغرب سنة 1962 لتصوير فيلم «لورانس العرب» في مدينة ورززات، حيث تم اختياره كأفضل لاعب في النادي لتدريبه والتمرن معه، إذ قضى معه خمسة أيام في مراكش وشهرا في ورززات، إلى جانب كل من النجمين المصري عمر الشريف والأمريكي أرثر كيندي.. لقاء تجدد بعد 12 سنة، بعدما رفض «الشينوا الهجرة» مع كوين والتنقل معه أينما حل وارتحل، حين عاد الممثل الأمريكي، مجددا، إلى المغرب لتصوير فيلم «الرسالة»، حيث توطدت علاقة الصداقة التي شملت أسرته ودامت حتى وفاته. ويقضي العشراوي حاليا جل فترات يومه بين النادي الملكي للتنس، الذي يفتخر بكونه من أحسن فضاءات مراكش، بأطره المثقفة والعقلية الحداثية السائدة داخله، وبين أسرة أنجبت لاعبين في كرة القدم، هما فيصل وعبيد، اللذان لعبا في كل فئات الكوكب المراكشي، حتى قسم الكبار، مستحضرا بعض صور الماضي، التي جمعته بجيل من الممارسين، أمثال حبايبي، بنعمر، الخمليشي، الدهري، ديسلام والشادلي.. وكيف كان مواضبا على «الحلقة» في ساحة جامع الفنا، التي وصفها بالمسرح المحترف، خصوصا «حلقة الملك جالوق».. الرغبة و الصبر أساس البطل بحكم رصيده اللوجستي وتجربته الميدانية، وهو المخضرم في رياضة التنس، بين مرحلتي ما قبل الاستقلال وبعده، يشدّد محمد العشراوي على أن خلق بطل في رياضة التنس يتوقف على قابلية اللاعب المعنيّ بالأمر ورغبته في أن يصبح بطلا، ثم الصبر وقوة تحمل التمرن ثمان ساعات وأكثر في اليوم الواحد.. وبعدها، يقول العشراوي، يأتي الشق المالي المُكلِّف، والذي يتطلب تدخل محيط اللاعب لتحقيق انطلاقة ناجحة، لكون الدخول في التصنيف العالمي يتطلب التنقل عبر بقاع العالم لجمع رصيد مهمّ من النقط. وسرد العشراوي نماذج لاعبين على شاكلته، تألقوا رغم الإنتماء إلى طبقة شبه مسحوقة، في حين انعدمت الرغبة لدى آخرين وفّرت لهم أسرهم باقي السبل، بما فيها التكوين في الخارج ليسجلوا فشلهم في وقت وجيز.