بالإضافة إلى الصراع السياسي والفكري المحتدم علنا وسرا بين العالمين العربي والإسلامي، من جهة، والعالم الغربي، من جهة أخرى، ثمة بعد آخر لا يتم التطرق إليه إلا لماما، رغم تجلي مصاديقه بوضوح. فالعلم يمثل عمقا في هذا الصراع، لأنه من أهم مستلزمات التفوق التكنولوجي والصناعي. صحيح أن الحديث عنه نادر، ولكنه لم ينقطع. وما الحظر الذي تفرضه الجامعات الغربية على الطلبة العرب والمسلمين بشأن الالتحاق ببعض التخصصات العلمية إلا مؤشر على ذلك. ومن الخطأ الاعتقاد بأن الضغوط المتواصلة على إيران محصورة في الجانب الفني من المشروع النووي، بل يتصل بالقدرة على امتلاك دورة تكنولوجية كاملة تؤهل إيران لبناء المفاعلات بدون الحاجة إلى الاعتماد على الغرب. فالدول الغربية دخلت في صفقات كبيرة لبناء عدد من المفاعلات في السعودية والإمارات مثلا، فلماذا الاعتراض على المشروع الإيراني؟ الغربيون، من الناحية الظاهرية على الأقل، لا يرفضون بناء مفاعل نووي لإيران، بشرط أن يقوموا هم بتزويد اليورانيوم المخصب، فليس من حق هذه الدول تخصيب تلك المادة التي هي أساس تشغيل المفاعلات النووية لأن ذلك يؤدي إلى تطور علمي وتكنولوجي ممنوع على المسلمين. بينما تصر إيران على حقها في التخصيب، وما ينطوي عليه ذلك من امتلاك المعرفة والوسائل الضرورية لذلك، الأمر الذي يعني قدرتها على التعمق في البحث العلمي المتصل بالذرة. وبامتلاك عمق علمي بهذا المستوى، تستطيع إيران أن تتحول إلى قوة علمية وتكنولوجية كبرى كما هي الصين والهند واليابان. وهذا أمر يقلق الغربيين بشكل كبير ويدفعهم إلى الإقدام على أية خطوة لإعاقة ذلك التطور. ولو كان الأمر محصورا في بناء المفاعلات النووية وفق ما يسمح به الغربيون لما اغتيل علماء الذرة الإيرانيون. يضاف إلى ذلك أن الاغتيالات لم تبدأ بهؤلاء، بل سبقتهم باستهداف العلماء المصريين والعراقيين. وربما من أبشع وسائل الضغط والحصار العلمي إجبار باكستان على اتخاذ إجراءات ضد العقل المدبر لمشروعها النووي، عبد القدير خان، وعزله عن ميدان البحث والتطوير النووي بتهم واهية. رغم هذه الحقائق، لم يتوقف تقديم الدعم المالي من بعض الأنظمة العربية إلى المؤسسات العلمية الغربية. إن ذلك أمر إيجابي لو كان الغربيون يتعاملون مع عالمنا بالمثل. أما أن يكون الدعم من أجل تحقيق أغراض سياسية لأنظمة الحكم القائمة في العالمين العربي والإسلامي، فإن الدعم هنا يصبح تصرفا مثيرا للجدل. وفي العام الماضي، ظهرت قضية الدعم الليبي لإحدى الجامعات البريطانية بشكل واضح، وأحدثت هزة في العالم الأكاديمي رغم مرور بضعة أعوام على ذلك الدعم. ولكن استهداف نظام القذافي من قبل التحالف الإنكلو-أمريكي ساهم في إعادة القضية إلى الواجهة. وكان سيف الإسلام القذافي قد «درس» في جامعة لندن للاقتصاد، وقدم إليها دعما ماليا بلغ ما يعادل خمسة ملايين دولار، وحصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه. ودخلت الجامعة مع نظام القذافي في اتفاق أكاديمي ينص على قيام الجامعة ب»تدريب» المسؤولين الليبيين. ورغم العناوين التي تبدو بريئة، فإن هذه الاتفاقات تنطوي عادة على بعد سياسي، منه أنها توفر شرعية للنظام السياسي في البلدان المانحة؛ فقد جاء الدعم الليبي بعد أن «تصالحت» بريطانيا مع القذافي، وقام توني بلير بزيارة لطرابلس والتقى الديكتاتور السابق وأطرى على «إنجازاته». ولذلك أثيرت ضجة كبيرة أدت إلى استقالة مدير الجامعة، السيد هاوارد ديفيس، في مارس 2011. وتواصل السجال الأكاديمي حول مدى أخلاقية التعامل مع الجامعات التابعة لأنظمة قمعية استبدادية كنظام القذافي، خصوصا بعد أن اتضح أن جامعات بريطانية أخرى كانت بصدد التعاون مع نظام القذافي، مثل جامعة هادرزفيلد التي كانت بصدد تدريب مائة من كوادر الشرطة الليبية. وكانت جامعة ولاية ميتشيغان قد تعاقدت مع طرابلس لتدريب المسؤولين الليبيين الكبار، وهي الجامعة التي حصل منها موسى كوسا على درجة الماجستير في 1978؛ كما تعاونت جامعة أسنت آندروز الأسكتلاندية مع سورية في السنوات الأخيرة. الواضح أن الجامعات البريطانية أصبحت، كبقية المؤسسات العلمية والمهنية، أكثر ميلا نحو الممارسة التجارية، وهو الداء الذي أصبح مرتبطا بالحضارة المعاصرة، شأنها شأن الرياضة والرعاية الصحية؛ فالعلم لم يعد مجالا نقيا يركز أساسا على كشف الحقيقة الكونية أو الاجتماعية، بل أصبح يتحول تدريجيا إلى وظيفة ومهنة ومصدر للارتزاق. يقول البروفيسور، أليكس كالينيكوس، أستاذ الاقتصاد السياسي العالمي بجامعة كينجز في لندن: «أصبحت الجامعات البريطانية تحركها أولويات تصوغها احتياجات التجارة الكبيرة. وأصبحت هيكليتها موجهة لتوفير الشركات الأجنبية والبريطانية بالبحث الأكاديمي والعمالة الماهرة التي تحافظ على ربحيتها. وفي الوقت نفسه أصبحت تتحول من مؤسسات علمية إلى مراكز ربحية تجذب أموالا أجنبية لاقتصاد المملكة المتحدة». هذه الظاهرة تؤثر بدون شك ليس على صدقية الجامعات فحسب، بل على مواقفها وأخلاقياتها، خصوصا عندما تتعامل مع أنظمة القمع والاستبداد. توازي ذلك في الوقت نفسه توجهات ليبرالية لدى جامعات أخرى، تدفعها إلى الوقوف ضد الاستبداد والاحتلال. وفي العامين الماضيين، ظهرت دعوات بريطانية إلى مقاطعة «إسرائيل» أكاديميا وطرحت اقتراحات انطلقت على أرضية مشابهة للمقاطعة الأكاديمية للنظام العنصري في جنوب إفريقيا قبل ربع قرن. وظهرت أولى الدعوات المنظمة للمقاطعة في رسالة مفتوحة بصحيفة «الغارديان» في 4 أبريل الماضي موقعة من ستيفن روز، أستاذ علم الأحياء بالجامعة المفتوحة، وهيلاري روز، أستاذة السياسة الاجتماعية بجامعة برادفورد، اللذين طالبا بتجميد كافة الاتصالات الثقافية والبحثية مع «إسرائيل». وفي غضون شهور ثلاثة، ارتفع عدد موقعيها إلى 700 أكاديمي، من بينهم عشرة إسرائيليين.