السعدي: الاقتصاد الاجتماعي والتضامني يشكل رافعة حقيقية للتنمية    لاليغا تدخل على خط تطوير البطولة الوطنية بشراكة مؤسساتية    تحمل رسالة عن الحرب.. الرئيس الأمريكي يتلقى هدية من رونالدو    رئيس الحكومة يؤكد على مكانة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في النموذج التنموي    زخات رعدية بعدد من مناطق المملكة    في مجلس حقوق الإنسان بجنيف .. أربعون دولة تجدد دعم مغربية الصحراء    الذهب يصعد وسط القتال بين إسرائيل وإيران ودعوة ترامب لإخلاء طهران    شركة بريطانية تكشف مفاجئة.. الجهة الشرقية قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز للمغرب    مجزرة جديدة تحصد أرواح المجوعين.. مقتل 47 فلسطينيا بنيران إسرائيلية قرب مركز مساعدات في غزة    "سي إن إن": تقديرات استخباراتية تفيد بتأخير البرنامج النووي الإيراني لأشهر بسبب الضربات الإسرائيلية    هجوم إلكتروني يشل بنك "سبه" الإيراني    هلال: المغرب يلتزم بالتصدي للكراهية    "هيئة النزاهة": فساد مترسخ يعوق وصول المغاربة إلى الخدمات الصحية    أمطار رعدية مصحوبة بتساقط للبرد وبهبات رياح مرتقبة اليوم الثلاثاء بعدد من مناطق المغرب    إجهاض محاولة تهريب أزيد من 7 أطنان من مخدر الشيرا بميناء طنجة المتوسط    استئنافية الرباط تحجز ملف الصحافي حميد المهدوي للمداولة والنطق بالحكم في 30 يونيو    هذا ما قررته المحكمة في قضية مقتل زوج المغنية ريم فكري    طنجة الدولية.. اختبار فرضيتي التحول والتفاعل    هذا المساء في برنامج "مدارات" :لمحات من سيرة المؤرخ والأديب المرحوم عبدالحق المريني .    الصويرة ترحب بزوار مهرجان كناوة    خبير يعرف بالتأثير الغذائي على الوضع النفسي    ترامب يقول إنه يريد "نهاية فعلية" للنزاع بين إسرائيل وإيران "وليس وقف إطلاق نار"    المغرب في معرض لوبورجيه بحثا عن شراكات لمواكبة دينامية تحديث قطاعه الجوي (قيوح)    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    سطات تطلق مشروعا لإنشاء 30 محطة لتحلية المياه لمواجهة الإجهاد المائي    سجن وتغريم 4 أشخاص بسبب الإساءة العنصرية لفينيسيوس    مزور: الحكومة انتقت أزيد من 1800 مشروع لتعزيز السيادة الصناعية وخلق قرابة 180 ألف منصب شغل        موازين 2025… أزمة توزيع المنصات تثير استياء الجمهور    تقنيون بالتعليم العالي يحتجون أمام الوزارة رفضا للتهميش    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    برشلونة يعزز تصنيفه الائتماني ويترقب زيادة إيراداته بعد العودة إلى كامب نو        الأمير مولاي رشيد يترأس الجمع العام الاستثنائي للجامعة الملكية المغربية للغولف    22 دولة إسلامية تدين العدوان الإسرائيلي على إيران وتطالب بوقف فوري للتصعيد في الشرق الأوسط    مجموعة السبع تؤكد على"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وتعارض امتلاك إيران لسلاح نووي    د محمد صبري : الصيدلة دعامة أساسية في الرعاية الصحية القريبة من المواطن..    مايس... الرابور الفرنسي يُشعل المنصات برسالة قوية دفاعًا عن مغربية الصحراء    وليد الركراكي.. بين فورة الغضب ومتطلبات البناء الوطني    تطوان تحتفي بعبق الموسيقى التراثية في أول ملتقى جهوي يحتفي بعبد الصادق شقارة    فدرالية اليسار تدين العدوان الإسرائيلي على إيران وتستنكر الجرائم المتواصلة في غزة    أعمدة كهربائية تُشوّه جمالية شوارع مدينة الجديدة: محمد الرافعي وإبراهيم الروداني في الواجهة .    "نقاش الأحرار".. برادة يكشف جهود الحكومة لرفع أعداد "مدارس الريادة" والحد من الهدر المدرسي    ثنائية فلامنغو تهزم الترجي التونسي    طنجة.. الإطاحة بلص خطير متورط في 16 سرقة قرب الكورنيش    حزب الله يدين استهداف إعلام إيران    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    جراحات جبل "طوبقال" القديمة    نصائح ذهبية لحماية المسنين من ارتفاع الحرارة    "أرواح غيوانية" يُكرّم رموز المجموعات الغيوانية ويُعيد أمجاد الأغنية الملتزمة    في أول لقاء مع جمهوره المغربي.. ديستانكت يكشف ألبومه العالمي وسط تفاعل صاخب    برلماني يطالب بالتحقيق في صفقات "غير شفافة في مستشفى ابن سينا الجديد        فقدان حاسة السمع يرفع خطر الإصابة بالخرف    ماذا يفعل تحطُّم الطائرة بجسم الإنسان؟        السبحة.. هدية الحجاج التي تتجاوز قيمتها المادية إلى رمزية روحية خالدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أكبر شاعر وجداني خلال ألف سنة في الأدب التشيكي
نشر في المساء يوم 19 - 12 - 2008

تحول ياروسلاف سيفرت، في مرحلة النضج، من «الشعر البروليتاري» إلى نوع من الطليعية التي لم تكن ترغب في «إبداع عالم جديد، ولكن تنظيم العالم الموجود بشكل يتحول فيه إلى قصيدة حية». وهذا الفهم الجديد، جعل سيفرت قريبا من الثورة السريالية.
لا نعرف الكثير عن الشعر التشيكي، بالرغم من كونه دخل العالمية من بابها الواسع، من خلال فوز الشاعر ياروسلاف سيفيرت بجائزة نوبل، منذ أكثر من عقدين(1984). والواقع أن أعمال سيفيرت ظلت تتوزع على نحو محدود، لاعتبارات تتعلق بالخناق السياسي الذي كان مضروبا على الشاعر نصير الحريات والحقوق، في بلده وفي العالم. وقد جاءت الجائزة، متأخرة كالعادة، بعد كتابته لما يتجاوز عشرين ديوانا، لتكشف عن شاعر عميق، هادئ، إنساني النبرة، عرف كيف يوفق، في قصيدته، بين الرهانات الشعرية الاستطيقية، وبين الانغراس في عمق التربة التشيكية، واللهج من ثمة بقيم الحب والعدل والجمال والفن، بطريقة تشد الشعر إلى نبض الحياة اليومية، دون أن يكون بعيدا تماما عن لواعج الزمن والأسئلة الوجودية الملازمة لفعل العيش.
تحول ياروسلاف سيفرت، في مرحلة النضج، من «الشعر البرولتاري» إلى نوع من الطليعية التي لم تكن ترغب في «إبداع عالم جديد، ولكن تنظيم العالم الموجود بشكل يتحول فيه إلى قصيدة حية». وهذا الفهم الجديد، جعل سيفرت قريبا من الثورة السريالية، لكن الشاعر أبقى على مسافة تجاهها، خاصة بعد انسحابه من الحزب الشيوعي احتجاجا على «انحرافه والتحامه بالستالينية». ومع توالي التجارب، راح الشاعر يطور مفهوما شعريا، يحتفي بالوعي والموقف الجمالي، ليوقع قصيدة ملتحمة بالأرض، بأشيائها وكائناتها، ولغز العيش في مدنها وأحيائها. وقد أثمرت هذا المفهوم أعمالا شعرية هامة، في البيبليوغرافية الشعرية لِسيفرت نذكر منها: العندليب يغني بشكل سيء(1926)، التفاحة التي سقطت من الحضن(1933)، يدا فينوس(1936)، مرتدية الضوء(1940).
آخر الأعمال التي صدرتْ لياروسلاف سيفرت كانت هي ديوان «أن تكون شاعرا»، وذلك قبل سنة من حصوله على جائزة نوبل(1984)، التي وصفه بيانها بعبارة: «أكبر شاعر وجداني خلال ألف سنة في الأدب التشيكي». وبهذا الديوان، ختم الشاعر بيبليوغرافيا شعرية بلغت خمسة وعشرين ديوانا، فضلا عن إصداره لكتب مذكرات هي: «كل جمال العالم» و»والنجوم فوق حديقة الجنة». وقد تمكن الشاعر بفضل نوبل، من مقاومة الرقابة، فتوسعت شهرته، وتمكن من إعادة نشر ديوانه «أن تكون شاعرا» في ثلاثين ألف نسخة، وهو الديوان الذي صدر حديثا، عن دار المدى(2007)، في ترجمة عربية أنيقة وموفقة، أنجزها الشاعر اللبناني إسكندر حبش.
في القصيدة الأولى، التي تحمل عنوان الديوان، يكشف سيفرت، منذ المقطع الأول، بنبرة لا تخلو من تمزق، عن أجمل شغف منحته إياه الحياة، وكأنه بذلك يقدم كشف الحساب للحياة نفسها، بعد سنوات طويلة من العيش، رماها خلفه بندم وحسرة: «علمتني الحياة، منذ زمن طويل/ أن أجمل الأشياء/ التي يمكنها منحنا إياها: الموسيقى والشعر/ إن استثنينا الحب بالطبع»(ص19). وبعد هذه الخلاصة المستقطرة، من كثير من الأعوام والتجارب، يعود سيفرت لعلاقته الأولى بالكلمة الشعرية، مُذكرا بلحظة التعلم الأولى وما صاحبها من رهبة في مواجهة بياض الصفحة، التي خرج منها منهزما، حيث كانت الشعرية تغور في منطقة سحرية وغامضة من التمنع والاستحالة، في الوقت الذي كانت فيه الحياة تعده بملذات الحب الهاربة: «في كتاب مختارات قديم/ نشره مستودع كتب صاحب الجلالة الملكية والإمبراطورية/ سنة وفاة فرشيكلي،/ وجدتُ بحثا عن الفن الشعري/ والمحسانت الأسلوبية./ إذ ذاك وضعتُ زرَّ ورد في كأس/ أشعلتُ شمعة/ وبدأت كتابة قصائدي الأولى./ لِتنبثقي إذن يا شعلة الكلام،/ ولتضطرمي/ ما همَّ إن أحرقتِ أصابعي!/ استعارة مدهشة تساوي أكثر من خاتم ذهبي في اليد./ ومع ذلك، فإن موجز عروض بوشماجر/ لمْ يقدم لي أي مساعدة./ سدى، لملمتُ الأفكار/ وأطبقتُ جفنيّ بتشنج/ لأسمع أول بيت عجائبي./ بدلا من الكلمات، شاهدتُ/ في الظلام ضحكة امرأة وشَعَرا/ طافيا في الهواء./ ذاك هو قدري./ ركضتُ خلفها حتى انقطعتْ حياتي كلها»(ص20 و21).
تكشف قصائد كثيرة، في ديوان «أن تكون شاعرا»، عن عُصارة حياة وتجربة مأخوذة بالعلامات التي شكلتْ ملاذا للروح والجسد في مراحل من عُمْر هارب. وهي بهذا المعنى، تدمج أمشاجا من سيرة الحياة، في بناء تجربة شعرية تُريد أن ترتفع بتلك اللحظات إلى مقام الأغنية الخالدة، التي يؤديها الشاعر لنفسه وأحبابه، حتى يبرأ من داء الزمن الذي يصيب كل الأشياء الجميلة. من هنا مصدر نوع من النوسطالجيا الحارقة والمُعذِّبة، التي تتغلغل في ثنايا الصور، لتشكل مصدر تخصيب للحياة الشعرية في قصائد غنائية، شديدة الولع ب «براغ» القديمة، التي شكلت بالنسبة للشاعر مرتعا للصبا والشباب وأولى الأحلام وتجارب الحب: «براغ! في قلب الذي لم يرها إلا مرّة واحدة على الأقل،/ يصدح اسمها إلى الأبد. هي نفسها أغنية منسوجة بالزمن/ ونعشقها/ فلتصدح!/ كنتُ لا أزال سعيدا، أحلامي الأولى/ لمعتْ كصحون طائرة/ فوق سطوحها/ ثم اختفتْ، وحده الله يعلم أين،/ يومها كنتُ شابا./ ذات يوم، أسندتُ وجهي/ على حجر حائط قديم/ في ناحية ما، فوق باحة قلعتها/ حين سمعتُ فجأة / هديرا كئيبا./ إنه رعد القرون الغابرة/ لكن صفائح الجبل الأبيض/ الفاترة والحنونة/ همستْ بحنان في أذني./ امض! ستكون مسحورا./ غنِّ! لديكَ من يستمع إليك./ لكن لا تكذب!/ مضيتُ ولم أكذب./ إلا قليلا، عليكن،/ يا حبيباتي.(ص22/23).
تستحضر قصائد الديوان كثيرا من لحظات الحب، التي حولها الشاعر إلى أغنية، يرفعها قربانا للمحبوب: «إنها أغنية لكِ، يا معشوقتي،/ أجمل من عقد اللؤلؤ/ الذي تلفينه ثلاث مرات حول عنقك./ رغبتُ في أن أضعها هذا الصباح على ركبتيك/ مثل قربان/ لحبك المعذب»(ص36). وقد بلغ من عشق الشاعر للنساء، أنه رغب في أن يصبح رساما، ليتمكن من القبض على جمالهن، لكن قدره الشعري وضعه في مواجهة الكلمات:»كم من مرة رغبتُ في شبابي/ في أن أكون رساما/ لأصور نساء جميلات مثل السماء!/ بدلا من ذلك، وحتى آخر شيخوختي/ تعاركتُ مع الكلمات»(ص84). لكن الشاعر، بالرغم من ذلك الهيام بالنساء الذي طبع حياته، يعترف في النهاية بحبه الوحيد: «الغراميات التي عرفتها في حياتي/ هدأتْ الآن/ وحده الحب الأخير/ لا يزال يُسقط على رأسي غبار طلع ذهبي/ كغبار الزنابق»(ص96). ولأن الشاعر، أصبح يحدس نهايته الوشيكة، فقد فتح دولابه، وتحسس بذلة جديدة، أنيقة، مر على وجودها عنده زمنا طويلا/ دون أن يلبسها إطلاقا، ليخصها بكلمة وداع موجهة للحياة: «ربما عليَّ أن أمد يدي/ إلى هذه الأكمام الفارغة،/ المليئة بعرفان الجميل/ لأهزها بحنان، وأقول لها وداعا»(ص120/121).
على هذا النحو تتنامى قصائد سيفرت في هذا الديوان الخاتم، سالكة طريقا هادئة، ولكنها معززة بإشراقات الخيال التي تجعل القصيدة، تخترق بغتة، أمام أعيننا، سبلا غير متوقعة، على نحو تجمع فيه بين الانسيابية وتفجرات الغرائبية المفاجئة، التي تأتي لتحمي الشعر مما يمكن أن يهدده من رتابة، في مثل هذه الاختيارات الجمالية، لكنها تؤمِّن له أيضا انغراسا في أرض التجربة ونسوغ الحياة، على نحو عميق بطريقة مذهلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.