تدشين فضاء الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير بالعرائش    كتاب طبطبة الأحزاب /3من5    لفتيت يجتمع بقادة الأحزاب السياسية قصد التحضير للانتخابات التشريعية    شهادات جامعية مزورة تهز المشهد السياسي في إسبانيا    الرواج التجاري البحري بالمغرب يتخطى 130 مليون طن في النصف الأول من 2025    اختتام معرض الصناعة التقليدية بالعرائش    أنفوغرافيك | جهة سوس ماسة.. تتصدر حالات إفلاس الشركات    موجة حر وزخات رعدية مصحوبة بتساقط البرد وبهبات رياح من الأحد إلى الجمعة بعدد من مناطق المملكة (نشرة إنذارية)    إعدام ثمانية أشخاص بينهم سبعة مدانين بتهريب المخدرات في السعودية    "عرش المحبة حين يغني المغرب في قلب تونس"    النجمة أصالة تغني شارة "القيصر" دراما جريئة من قلب المعتقلات    المركز السوسيوثقافي أبي القناديل يحتظن حفلا مميزا تخايدا لذكرى 26 لعيد العرش المجيد    السياسة وصناعتُها البئيسة !    توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    شخصيات مقدسية تشيد بمبادرة جلالة الملك إرسال مساعدة إنسانية وطبية عاجلة لسكان قطاع غزة            ثوران بركان في روسيا للمرة الأولى منذ أكثر من 450 عاما    حملة دولية للمطالبة بالإفراج الإنساني عن ناصر الزفزافي    انطلاق النسخة الثامنة من كأس أمم إفريقيا للاعبين المحليين بدار السلام    ليكيب الفرنسية تفجر المفاجأة.. رسائل سرية تفضح مؤامرة للإطاحة بحكيمي بتهم الاغتصاب والسرقة    تسمم أسرة مغربية مقيمة بالخارج يؤدي إلى إغلاق محل للوجبات السريعة بالناظور    دراسة: الانضباط المالي اليومي مفتاح لتعزيز الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية    مطالبًا بالحقيقة والعدالة.. شقيق مروان المقدم يشرع في إضراب مفتوح بالحسيمة    قلق داخل الجيش الإسرائيلي من ارتفاع معدلات انتحار الجنود بسبب المشاهد الصعبة في غزة    قافلة طبية تخفف معاناة مرضى القلب بجرسيف    تقرير: أكثر من 12 ألف رأس نووي في العالم .. 87 بالمائة منها بيد دولتين فقط    تهديدات جهادية تستنفر درك السنغال        ولاء يتجاوز المال .. باحث يرفض عرضًا ب1.5 مليار دولار من مارك زوكربيرغ    جباري يعزز هجوم سينسيناتي الأمريكي    المغرب حليف إستراتيجي دولي لصياغة توازنات جديدة في إفريقيا والعالم    بنكيران يدعو شبيبة حزبه إلى الإكثار من "الذكر والدعاء" خلال عامين استعدادا للاستحقاقات المقبلة    وزارة الداخلية تطلب من الأحزاب تقديم اقتراحاتها حول التحضير للانتخابات القبلة قبل نهاية شهر غشت    السكتيوي: الفوز على أنغولا مفتاح البداية القوية وهدفنا هو اللقب    تنزانيا تفتتح مشوارها في "الشان" بفوز مستحق على بوركينا فاسو    حبس وغرامات ثقيلة تنتظر من يطعم الحيوانات الضالة أو يقتلها.. حكومة أخنوش تُحيل قانونًا مثيرًا على البرلمان    رسالة من ترامب إلى الملك: "الولايات المتحدة الأمريكية تعترف بسيادة المغرب على الصحراء"    حادثة سير مروعة قرب سطات تخلف ثلاثة قتلى وطفلين مصابين    نادي المحامين بالمغرب ينتقد "انتهاكات قانونية جسيمة" في متابعة حكيمي    بورصة الدار البيضاء تغلق الأسبوع على ارتفاع ب0,85% في مؤشر "مازي"    خريبكة تحتفي بمونية لمكيمل في الدورة العاشرة لمهرجان الرواد    مهدي فاضيلي يزيل الستار عن "ساريني"    "حماس" تكذب مبعوث ترامب: لن نتخلى عن السلاح إلا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة        الداخلية تُؤكد التزامها بضمان نزاهة وشفافية الانتخابات القادمة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    "العدل والإحسان" تناشد "علماء المغرب" لمغادرة مقاعد الصمت وتوضيح موقفهم مما يجري في غزة ومن التطبيع مع الصهاينة    مجلة أجنبية تشيد بجمال وتنوع المغرب السياحي    الدار البيضاء .. نجوم العيطة يلهبون حماس عشاق الفن الشعبي    نجم البحر يهدد الشعاب المرجانية في جزر كوك    في رحيل زياد الرّحْباني (1956-2025) سيرةُ الابْن الذي كَسَّر النَّاي .. ومَشَى    دراسة: مشروب غازي "دايت" واحد يوميا يرفع خطر الإصابة بالسكري بنسبة 38%    دراسة تُظهِر أن البطاطا متحدرة من الطماطم    التوفيق: كلفة الحج مرتبطة بالخدمات    بعد فصيلة "الريف" اكتشاف فصيلة دم جديدة تُسجّل لأول مرة في العالم    في ذكرى عيد العرش: الصحراء المغربية وثلاثة ملوك    تطوان تحتفي بحافظات للقرآن الكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أكبر شاعر وجداني خلال ألف سنة في الأدب التشيكي
نشر في المساء يوم 19 - 12 - 2008

تحول ياروسلاف سيفرت، في مرحلة النضج، من «الشعر البروليتاري» إلى نوع من الطليعية التي لم تكن ترغب في «إبداع عالم جديد، ولكن تنظيم العالم الموجود بشكل يتحول فيه إلى قصيدة حية». وهذا الفهم الجديد، جعل سيفرت قريبا من الثورة السريالية.
لا نعرف الكثير عن الشعر التشيكي، بالرغم من كونه دخل العالمية من بابها الواسع، من خلال فوز الشاعر ياروسلاف سيفيرت بجائزة نوبل، منذ أكثر من عقدين(1984). والواقع أن أعمال سيفيرت ظلت تتوزع على نحو محدود، لاعتبارات تتعلق بالخناق السياسي الذي كان مضروبا على الشاعر نصير الحريات والحقوق، في بلده وفي العالم. وقد جاءت الجائزة، متأخرة كالعادة، بعد كتابته لما يتجاوز عشرين ديوانا، لتكشف عن شاعر عميق، هادئ، إنساني النبرة، عرف كيف يوفق، في قصيدته، بين الرهانات الشعرية الاستطيقية، وبين الانغراس في عمق التربة التشيكية، واللهج من ثمة بقيم الحب والعدل والجمال والفن، بطريقة تشد الشعر إلى نبض الحياة اليومية، دون أن يكون بعيدا تماما عن لواعج الزمن والأسئلة الوجودية الملازمة لفعل العيش.
تحول ياروسلاف سيفرت، في مرحلة النضج، من «الشعر البرولتاري» إلى نوع من الطليعية التي لم تكن ترغب في «إبداع عالم جديد، ولكن تنظيم العالم الموجود بشكل يتحول فيه إلى قصيدة حية». وهذا الفهم الجديد، جعل سيفرت قريبا من الثورة السريالية، لكن الشاعر أبقى على مسافة تجاهها، خاصة بعد انسحابه من الحزب الشيوعي احتجاجا على «انحرافه والتحامه بالستالينية». ومع توالي التجارب، راح الشاعر يطور مفهوما شعريا، يحتفي بالوعي والموقف الجمالي، ليوقع قصيدة ملتحمة بالأرض، بأشيائها وكائناتها، ولغز العيش في مدنها وأحيائها. وقد أثمرت هذا المفهوم أعمالا شعرية هامة، في البيبليوغرافية الشعرية لِسيفرت نذكر منها: العندليب يغني بشكل سيء(1926)، التفاحة التي سقطت من الحضن(1933)، يدا فينوس(1936)، مرتدية الضوء(1940).
آخر الأعمال التي صدرتْ لياروسلاف سيفرت كانت هي ديوان «أن تكون شاعرا»، وذلك قبل سنة من حصوله على جائزة نوبل(1984)، التي وصفه بيانها بعبارة: «أكبر شاعر وجداني خلال ألف سنة في الأدب التشيكي». وبهذا الديوان، ختم الشاعر بيبليوغرافيا شعرية بلغت خمسة وعشرين ديوانا، فضلا عن إصداره لكتب مذكرات هي: «كل جمال العالم» و»والنجوم فوق حديقة الجنة». وقد تمكن الشاعر بفضل نوبل، من مقاومة الرقابة، فتوسعت شهرته، وتمكن من إعادة نشر ديوانه «أن تكون شاعرا» في ثلاثين ألف نسخة، وهو الديوان الذي صدر حديثا، عن دار المدى(2007)، في ترجمة عربية أنيقة وموفقة، أنجزها الشاعر اللبناني إسكندر حبش.
في القصيدة الأولى، التي تحمل عنوان الديوان، يكشف سيفرت، منذ المقطع الأول، بنبرة لا تخلو من تمزق، عن أجمل شغف منحته إياه الحياة، وكأنه بذلك يقدم كشف الحساب للحياة نفسها، بعد سنوات طويلة من العيش، رماها خلفه بندم وحسرة: «علمتني الحياة، منذ زمن طويل/ أن أجمل الأشياء/ التي يمكنها منحنا إياها: الموسيقى والشعر/ إن استثنينا الحب بالطبع»(ص19). وبعد هذه الخلاصة المستقطرة، من كثير من الأعوام والتجارب، يعود سيفرت لعلاقته الأولى بالكلمة الشعرية، مُذكرا بلحظة التعلم الأولى وما صاحبها من رهبة في مواجهة بياض الصفحة، التي خرج منها منهزما، حيث كانت الشعرية تغور في منطقة سحرية وغامضة من التمنع والاستحالة، في الوقت الذي كانت فيه الحياة تعده بملذات الحب الهاربة: «في كتاب مختارات قديم/ نشره مستودع كتب صاحب الجلالة الملكية والإمبراطورية/ سنة وفاة فرشيكلي،/ وجدتُ بحثا عن الفن الشعري/ والمحسانت الأسلوبية./ إذ ذاك وضعتُ زرَّ ورد في كأس/ أشعلتُ شمعة/ وبدأت كتابة قصائدي الأولى./ لِتنبثقي إذن يا شعلة الكلام،/ ولتضطرمي/ ما همَّ إن أحرقتِ أصابعي!/ استعارة مدهشة تساوي أكثر من خاتم ذهبي في اليد./ ومع ذلك، فإن موجز عروض بوشماجر/ لمْ يقدم لي أي مساعدة./ سدى، لملمتُ الأفكار/ وأطبقتُ جفنيّ بتشنج/ لأسمع أول بيت عجائبي./ بدلا من الكلمات، شاهدتُ/ في الظلام ضحكة امرأة وشَعَرا/ طافيا في الهواء./ ذاك هو قدري./ ركضتُ خلفها حتى انقطعتْ حياتي كلها»(ص20 و21).
تكشف قصائد كثيرة، في ديوان «أن تكون شاعرا»، عن عُصارة حياة وتجربة مأخوذة بالعلامات التي شكلتْ ملاذا للروح والجسد في مراحل من عُمْر هارب. وهي بهذا المعنى، تدمج أمشاجا من سيرة الحياة، في بناء تجربة شعرية تُريد أن ترتفع بتلك اللحظات إلى مقام الأغنية الخالدة، التي يؤديها الشاعر لنفسه وأحبابه، حتى يبرأ من داء الزمن الذي يصيب كل الأشياء الجميلة. من هنا مصدر نوع من النوسطالجيا الحارقة والمُعذِّبة، التي تتغلغل في ثنايا الصور، لتشكل مصدر تخصيب للحياة الشعرية في قصائد غنائية، شديدة الولع ب «براغ» القديمة، التي شكلت بالنسبة للشاعر مرتعا للصبا والشباب وأولى الأحلام وتجارب الحب: «براغ! في قلب الذي لم يرها إلا مرّة واحدة على الأقل،/ يصدح اسمها إلى الأبد. هي نفسها أغنية منسوجة بالزمن/ ونعشقها/ فلتصدح!/ كنتُ لا أزال سعيدا، أحلامي الأولى/ لمعتْ كصحون طائرة/ فوق سطوحها/ ثم اختفتْ، وحده الله يعلم أين،/ يومها كنتُ شابا./ ذات يوم، أسندتُ وجهي/ على حجر حائط قديم/ في ناحية ما، فوق باحة قلعتها/ حين سمعتُ فجأة / هديرا كئيبا./ إنه رعد القرون الغابرة/ لكن صفائح الجبل الأبيض/ الفاترة والحنونة/ همستْ بحنان في أذني./ امض! ستكون مسحورا./ غنِّ! لديكَ من يستمع إليك./ لكن لا تكذب!/ مضيتُ ولم أكذب./ إلا قليلا، عليكن،/ يا حبيباتي.(ص22/23).
تستحضر قصائد الديوان كثيرا من لحظات الحب، التي حولها الشاعر إلى أغنية، يرفعها قربانا للمحبوب: «إنها أغنية لكِ، يا معشوقتي،/ أجمل من عقد اللؤلؤ/ الذي تلفينه ثلاث مرات حول عنقك./ رغبتُ في أن أضعها هذا الصباح على ركبتيك/ مثل قربان/ لحبك المعذب»(ص36). وقد بلغ من عشق الشاعر للنساء، أنه رغب في أن يصبح رساما، ليتمكن من القبض على جمالهن، لكن قدره الشعري وضعه في مواجهة الكلمات:»كم من مرة رغبتُ في شبابي/ في أن أكون رساما/ لأصور نساء جميلات مثل السماء!/ بدلا من ذلك، وحتى آخر شيخوختي/ تعاركتُ مع الكلمات»(ص84). لكن الشاعر، بالرغم من ذلك الهيام بالنساء الذي طبع حياته، يعترف في النهاية بحبه الوحيد: «الغراميات التي عرفتها في حياتي/ هدأتْ الآن/ وحده الحب الأخير/ لا يزال يُسقط على رأسي غبار طلع ذهبي/ كغبار الزنابق»(ص96). ولأن الشاعر، أصبح يحدس نهايته الوشيكة، فقد فتح دولابه، وتحسس بذلة جديدة، أنيقة، مر على وجودها عنده زمنا طويلا/ دون أن يلبسها إطلاقا، ليخصها بكلمة وداع موجهة للحياة: «ربما عليَّ أن أمد يدي/ إلى هذه الأكمام الفارغة،/ المليئة بعرفان الجميل/ لأهزها بحنان، وأقول لها وداعا»(ص120/121).
على هذا النحو تتنامى قصائد سيفرت في هذا الديوان الخاتم، سالكة طريقا هادئة، ولكنها معززة بإشراقات الخيال التي تجعل القصيدة، تخترق بغتة، أمام أعيننا، سبلا غير متوقعة، على نحو تجمع فيه بين الانسيابية وتفجرات الغرائبية المفاجئة، التي تأتي لتحمي الشعر مما يمكن أن يهدده من رتابة، في مثل هذه الاختيارات الجمالية، لكنها تؤمِّن له أيضا انغراسا في أرض التجربة ونسوغ الحياة، على نحو عميق بطريقة مذهلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.